باب الحارة
باب الحارة
نوال السباعي
أخجلني "باب الحارة" مرتين!
لعلنا الأسرة السورية الوحيدة في كل أرجاء المعمورة التي لم تتابع مسلسل "باب الحارة " الذي عرض رمضان الماضي ، والذي ملأ الدنيا وشغل الناس إلى درجة أن إحدى العائلات الصديقة كانت قد دعتنا الى تناول طعام الافطار ، ثم تركتنا في حيص بيص الافطار وذهب القوم للجلوس متسمرين أمام "باب الحارة " كأن على رؤوسهم الطير! دون أن ينتبهوا إلى أن ضيوفهم قد تُركوا وحدهم على مائدة الافطار .
كنا نتناول افطارنا ونحاول فهم مايجري ، صراخ ومشادات وألفاظ قبيحة وانتفاخ غير مبرر للأوداج وخروج للعيون من محاجرها بطريقة تهريجية غبية ، وضرب ورفس وصفعات تنهال على وجوه النساء والرجال ، وإهانات غير مفهومة للنساء وكلمة "اخرسي" تتردد دون توقف من أول الحلقة الى آخرها داخل البيوت ، تلازمها كلمة "اخراااااس " –هكذا- للرجال في الحارة ، و"كبير للقوم" لاندري من عَينه ليكون كبيرا للقوم ، ولاماهي الصفات الحقيقية التي أهلته ليكون كبيرا للقوم ، اللهم إلا انتفاخ الأوداج والتجبر على الناس واحتقارهم وفرض نفسه بالقوة ، ونساء ملتحفات بالسواد يدخلن ويخرجن في حركات تنم عن الهوان والمذلة ، وبنات في البيوت لايتجرأن على أن ينبسن ببنت شفة أمام إخوانهن من الذكور ، الآمرين الناهين ، الذين يتعاملون معهن معاملة السيد المطلق الآمر للعبد الضعيف المهان.
نساء بالغات عاقلات يتعاملن مع بعضهن البعض بلغة الشتيمة المقززة وألفاظ السوقة المبتذلة ، وشدّ الشعر والضرب والمبالغة في انتهاك كل مايمكن أن يتعارف عليه بنو البشر من أخلاق وسلوك ولياقة ، أولاد شوارع ..أولاد تلك احارة !!، بل إن من يمكن للمرء أن يسميهم "أولاد شوارع " كانوا لينأون بأنفسهم عن مثل تلك السلوكيات المغرقة في الانحدار والارتكاس.
كل ذلك في حلقة واحدة فقط من حلقات "باب الحارة " التي ازدردت شيئا منها مع ذلك الافطار الذي صرف مضيفينا عن أن ينتبهوا الى وجودنا في بيتهم .
لم أكن وحدي من استهحن هذا الذي رأيناه وتحلق الناس حوله مأخوذين ، ولكن أولادي من ذكور وإناث قد استهجنوه مثلي ، وخرج ابني الذي لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره وهو يقول لي :لقد رأيت "مذبحة قبيحة تهافت الناس عليها كالمجانين بينما لم أر فيها إلا رفسا وضربا وعنفا واحتقارا للأمهات والاخوات وقمعا للرجال " !! ، وهكذا أصبحنا الأسرة السورية الوحيدة في العالم والتي لم تستسغ باب الحارة ولم تستطع احتماله ، ولم نشاهد منه حلقة واحدة حتى هذا الأسبوع .
قلت في نفسي لعلي أظلم القوم ، لايمكن أن تجتمع أمة "الشاميين" – سوريون وأردنيون وفلسطينيون ولبنانيون- على باطل !! وينبغي على مثلي ممن يكتب في صفحات الرأي أن يفرغ من وقته لرؤية هذه العجيبة الإعلامية التي قامت القيامة بسببها ولم تقعد ، كما أنني خشيت أن أفقد "الجنسية السورية" والحق يقال بسبب انصرافي عن هذا الإجماع الشغبي – بالغين- غير المسبوق !!، فلقد عجزتُ في الجالية " المصونة" من حولي أن يتابعوا "التغريبة الفلسطينية" أو "صلاح الدين الايوبي" أو "عصي الدمع" أو "قضية نسب " وجميعها مسلسلات مذهلة من حيث الكتابة والتأليف والحوارات الداخلية الرائقة والاخراج الممتاز ومعالجة القضايا السياسية والاجتماعية وحتى الفكرية والتربوية للأمة ، ولم يكن هناك من فائدة !!، ولاأدري ماذا وجد الناس في "باب الحارة " فجلست هذا الأسبوع أتابع بعض حلقاته مرغمة تحت ضغط الجمهور والحملة الإعلانية لقناة ال"م.بي.سي" التي استضافت بطلي المسلسل في حلقة جميلة لامعة ترويجا للجزء الثالث من المسلسل في رمضان القادم ، فوجدت العجب العجاب مما أكد كل ملاحظاتي الأولى حول هذا المسلسل ، مع التأكيد وبنفس الدرجة على أهلية الممثلين الذين قاموا بأدوار لاتليق بمعظمهم في هذا المسلسل ، فعباس النوري وسامر المصري ممثلان سوريان قديران يتمتعان باحترام الجمهور ومحبته ولم يكونا في حاجة الى دخول مثل هذه المعمعة الشعبية غريبة الأطوار ليصبحا نجمين لامعين .
الشيء الذي خرجت به بعد متابعة بعض حلقات هذا المسلسل هو الشعور بالخجل ، ومرتين ، المرة الأولى وأنا أرى هذا المسخ العجيب الذي يختزل حياة الناس في بلدي دمشق الى مجموعة من السلوكيات الهمجية في البيوت مع الأبناء والنساء وخارج البيوت بتطبيق حكم القوي الغني على الضعيف الفقير ، أي وبالسوري غير الفصيح "حكم قراقوش"!! ، بذرة الاستبداد التي تعيشها المنطقة العربية وجدَت لها كل المبررات في هذا المسلسل الذي اعتبره الناس فتحا غير مسبوق في تاريخ الفن !!، وذلك على الرغم من مئات الملاحظات الفنية البحتة على الحلقات القليلة التي شاهدتها !، إضافة الى انتفاء حكم العقل والقانون والمنطق والانسانية وحتى الدين في حياة هذه المجموعة من "الأوباش " الذين أرفض أن يمثلوا بلدي سوريا ولامدينتي دمشق ولاحتى حارة فيها ، مع الاعتراف الكامل بأن هذه السلوكيات في التعامل بين الناس هي عرف سائد في سورية حتى يومنا هذا! ، بل إن كثيرين أخذوها معهم في جيوبهم وحقائبهم لدى مغادرتهم البلاد نحو المهاجر والمنافي ، لغة الحوار الوحيدة هي لغة العنف ، لاحوار على الاطلاق وكلمة "اخرس " و"اخرسي " هي السائدة في الحياة ، ولاعمل للمجموعة إلا خنق حرية الأفراد سلبا وايجابا ، والقضاء المبرم على قدرة الفرد على النمو والتحصيل ، والعمل الحثيث باسم التكاتف والتعاون على إعدام "الجو والفراغ" الانساني اللازم والضروري للأفراد ليتحركوا كالبشر وينتجوا كالبشر وينمو كالبشر .
ولكن "باب الحارة " أخجلني ثانية وأنا أرى مؤسسات اسلامية كمجمع "كفتارو" في دمشق أو "قناة المنار" تكرم مسلسلا بهذا الشكل !، في حين لم ينل مسلسل كصلاح الدين الأيوبي ولاعشر هذا التكريم بما اشتمل عليه من فكر ديني تجديدي مذهل وتربوي غير مسبوق ، ثم زاد الطين بلة قيام مجموعة كبيرة من الكتاب الاسلاميين بمدح المسلسل والخوض فيم خاض فيه الناس من أنه يكرس العادات والتقاليد ، ولاأدري عن أية عادات وتقاليد يتكلم القوم؟؟ ، ولاعن أية شهامة ورجولة إذا كانت الرجولة تُختصر بتمرير بعض الأخلاق الحميدة في شدة وصرعة وصفع الوجوه وحل المشكلات ب"العلقات" الساخنة التي يمنحها أحد وجوه القوم لأحد سفهائهم!! ، عن أية عادات وتقاليد يتكلمون ؟!، فإذا كانت هذه هي عاداتنا وتقاليدنا فإننا والله نستحق أن نكون في ذيل الأمم ، كما ينبغي علينا أن نتوارى من الأمم خجلا من أنفسنا وتاريخنا!!، لكن مايدعو للأسف والخجل حقا هو هذا الاقبال الأعمى من قبل الناس على المسلل ، بل واعتباره مسلسلا إسلاميا !! يحفظ للأمة هويتها –هكذا-!! ، لاأدري كيف يمكن أن تذل امرأة مثل "فريال" بين يدي "أبو شهاب " بهذه الطريقة لتعتذر منه وكأن الدنيا خلت من الكرامة والمروءة والشهامة والرجولة ، ولاأدري كيف يقع اللوم على نفس المرأة لدفاعها عن عرض ابنتها عندما اتهمها زوجها وأمه في عرضها و شككا بحملها منه ؟! ، لاأدري كيف يمكن لشعب كامل أن ينساق بهذا الشكل المَرضي خلف حصة تلفزيونية تقدم له تاريخه مختصرا في حارة أغلقت الباب على قاذوراتها الثقافية ؟! ، لاعلم ولاسياسة ولاثقافة ولافكر ولاتربية ، اللهم إلا الاستبداد ولاشيء غير الاستبداد الذي اختصر الشعب إلى متسلِط ومتسلَط عليه ، واختصر التاريخ إلى مرايا نرى فيها قبح أنفسنا ونكتشف من خلالها من نحن وكيف وصلنا إلى ماوصلنا إليه اليوم من ذل وتخلف وهوان ، لأننا كنا نسكن تلك الحارة مرة ، ولأننا لم نصنع إلا أن بدلنا "شراويل الحارة " بالسراويل الغربية ، ولأننا تمسكنا بأعراف الحارة وسكننا الحنين إليها وإلى قيمها الخرقاء التي حبست الأمة مائة عام خلف باب موصد على عفننا الاجتماعي ورؤيتنا المصابة بالحول للإنسان والتاريخ والأخلاق وأنفسنا.
ماذا وجد الناس في "باب الحارة"؟
تستحق "ظاهرة" الإقبال الجماهيري الشامي على مسلسل "باب الحارة " الوقوف عندها ونحن نشهد الإعداد للجزء الثالث منه ليقدم في رمضان المقبل ، راجين أن يكون أصحابه قد أخذوا بعين الاعتبار كل ماكُتب حوله من نقد كان معظمه على غاية من الأهمية ، خاصة ضرورة إضافة رؤية تقييمية نقدية للواقع الذي قدمه ، والتي شكّل غيابها ثغرة انهدامية في هذا العمل من الناحية الفكرية والثقافية ، فتقديم الواقع من خلال الفن يمكن أن يصبح عملاً إبداعياً وفقط في حال تقديم الحلول والنظرات النقدية المصاحبة له والتي تمنحه خاصية التربية والتعليم.
و مع هذا الحجم من الاقبال الجماهيري لانستغرب الحاجة الماسة للرصد والدراسة غير المتعلقين بجودة المسلسل ومستوى أداء المخرج والممثلين فيه من الناحية الفنية التقنية البحتة والتي لايكاد يُختلف عليها من حيث التميز والاتقان .
السؤال الذي طرح نفسه على الجميع ومازال : لماذا هذا الاقبال الجماهيري ؟!، لقد أتى "باب الحارة " -وعلى الرغم من المنظومة الثقافية التربوية غير السوية سلوكيا التي اشتمل عليها والتي لم يلتفت الناس إليها- بعمل فني ذكرهم بتاريخهم المكاني المفقود في زحمة الضياع والفوضى اللذان تعيشهما المدينة "العربية" اليوم ، كما نبه تصورهم الهاجع في أذهانهم عن لحمة اجتماعية حميمية نفتقدها في لجة الطغيان الأعمى الذي تعيشه مجتمعاتنا .
طغيان الساسة الذين لايرحمون ، طغيان المال ، طغيان المظاهر السخيفة المستنسخة عن الآخرين ببعدها الأجوف إنسانيا وحضاريا ، طغيان التنافس والتفاخر المرتبط بمحاكاة الآخر ، وطغيان التفكك الأسري والاجتماعي وانهيار القيم على كل الأصعدة في مجتمعات أصبحت تتمسك بالقشور ، لم يعد لبرّ الآباء أي معنى في ظل النفاق وانتظار موتهم لوراثة أموالهم بعد أعمار قضوها في السيطرة على أبنائهم ومنعهم من التنفس بحرية ، الشيء الذي يرده الأبناء للآباء لدى شيخوختهم أضعافا مضاعفة من التعسف والسيطرة !!، كما لم يعد للمودة والرحمة بين الأزواج والزوجات أي مصداقية في زمن الرقص والعهر الإعلامي ، صارت لدى الأغلبية قيم كهز البطون والدلع القذر ومقاسات وألوان "إماء" الإعلام ، والثروة والقدرة على الكسب هي الأصل لدى البحث عن الزوجة وليس الأخلاق ولا الدين ولا العقل ولا الوعي ، ماعاد لصبر المرأة على زوجها وتضحيتها معه ومنحها له شبابها وأموالها أية قيمة ، فالأصل بالنسبة لكثير من رجال اليوم هو أن تحرك فيهم المراة ماتحركه "نساء الشاشات"!! ، وليس تلك المرأة المتفانية ، الحافظة هوية الأمة في أولادها وبيتها ، قدم "باب الحارة " هذه الصورة عن المرأة ، لكنه لم يستطع أن يقدم رؤية نقدية لموروثاتنا الثقافية التي تقرن في ثقافة العامة حسن تبعل المرأة بالانصياع والمهانة وإلغاء الشخصية والتبعية القبيحة للرجل ، والتي تمنحه كل الحقوق التعسفية في التعامل معها لاغية أخص خصوصيات تعاليم حضارة الاسلام فيم يتعلق بالمرأة !!.
كذلك وعلى الطرف المقابل قدم المسلسل "المثل" الذي أضعناه عن الرجل الأب القائم بحق بيته وأولاده ، أب يعمل ويقدم لأسرته ماتحتاجه ، يتعسف ويقسو ولكنه يحنو ويهتم بكل صغيرة وكبيرة من شؤون أسرته ، وليس ذلك الأب الضائع المضيع المصاب بانفصام في الشخصية متمزقا بين عرف "القبيلة والحارة" وتعاليم الدين كما نزل وقيم المدنيات الغازية ! ، هذا المثل "المتألق" في أبوته ورجولته ، هو الذي شدّ الناس إلى "باب الحارة" على الرغم من السلوكيات "الهمجية" المرافقة لصورة الرجل !، لم يبق في حاراتنا ولا حياتنا اليوم من صورة الأب إلا ماتعلق بالتعسف والبخل والأثرة والتخلي عن مسؤوليات الرجل الأساسية في القوامة التي تعني الرعاية والعناية ، لقد قدم باب الحارة بعداً ثقافيا نشتاق إليه ونطلبه عن رؤية المجتمعات في المنطقة العربية لصورة الأب تاريخيا ، وكانت هذه القضية –من وجهة نظري- أساسية في إقبال الناس على المسلسل .
ماذا وجد الناس في باب الحارة ؟!! ، لقد وجدوا جذورهم الاجتماعية والثقافية التي انبّتوا عنها في عهود الظلم الاجتماعي والاستبداد والقهر الانساني والاستلاب السياسي والغزو الخارجي؟! ، هذه الرباعية التي أتت على البلاد والعباد والأخضر واليابس حرفيا ، ولم تدع للناس شيئا من تاريخ ولاذكرى يتلمسونها في مدنهم ولا في ذاكرتهم ، فكًُتاب التاريخ في المنطقة العربية امتنعوا عن كتابة التاريخ ، لأن كتابة التاريخ أصبحت مصيبة على صاحبها في أيام تقلص فيها تاريخ المنطقة ليصبح خاصا بالأنظمة السياسية !! ، والمدن التاريخية هُدمت على رؤوس أهلها لتنمو مدنية رأسمالية عشوائية مسخ مشوهة ، تحشر الناس في شقق صغيرة لايكاد الواحد منهم يستطيع التنفس فيها ، وتراجع البساط الأخضر الذي كان يغطي مدينة كدمشق "الشام" ، جفت أنهارها وانكمش ياسمينها وضمرت شجيرات ورودها ليحل مكانها الخراب والقحط في كل مكان ، استبداد سياسي يتناغم مع منظومة اجتماعية ومدنية تفصح عن نفسها بالفساد والنهب في عموم المنطقة العربية ، واستبداد اجتماعي يحاكيه ويحذو حذوه ، وقهر إنساني يمارسه الجميع ضد الجميع ، الكل يريد أن يهدم ، الكل يريد أن يقتلع الأشجار ، السلطات السياسية تنهب وتتسرطن على حساب الشعب والبيئة ، والأفراد من الشعوب ينهبون ويتسرطنون على حساب الضعاف منهم والبيئة .
كان لجدي رحمه الله بيت كبير في سفح قاسيون ، "بيت عربي" كما ندعوه أهل دمشق ، وكان في هذا البيت أشجار سرو ، وبحيرة وياسمينة وأشجار نارنج وتين ، وكنا نجلس في الشرفة العليا في البيت والتي يبلغ طولها خمسين مترا فنرى دمشق كلها تمتد تحت بصرنا ، ساحة الأمويين بأنوارها المتلألئة ومسجد الأموي بمآذنه التي تصافح السماء ، وأنوار السيارات وهي تزحف عن بعد في شوارع المدينة ، وحتى "معرض دمشق الدولي" كان يبدو من "حي المهاجرين" ياقوتة يخطف بريق ألوانها الألباب ، حاصرت الأبنية الحديثة بيتنا من كل حدب وصوب ، وانكشفت الدار وأهلها أمام أعين البنائين ، لكن جدي وعلى الرغم من الحصار صمد وتحدى وقرر أن لايبيع البيت ولايخرج منه ، بنى سورا غربيا فارتفعت الأبينة هناك عن يمين الدار ، فبنى سورا شرقية ، فحاصرته الأبنية بحيث حجبت دمشق عن عيني الناظرين إليها من تلك الشرفة ، وبقي جدي يعاند تمدد المدنية على حساب بيته وتاريخ بيته الذي طالما ضمّ في نفس الفترة التي قدمها "باب الحارة" كبار رجال الدين والأدب والفكر والسياسة والقضاء في سورية وفلسطين والاردن ولبنان ، أسماء كبيرة وعلى غاية من الأهمية قصدت بيت جدي ذاك خلال خمسين عاما من تاريخ "الشام" ، حركة فكرية ونهضوية كبرى كانت تنمو في أحشاء بيوت الشام القديمة وحاراتها ، تحت ياسميناتها ونارنجاتها وعلى موسيقى الماء ينسكب في نافورات بحيراتها ، ثم .. مات جدي ، فباعوا الدار وارتفعت مكانها عمارات وشقق ، وضاع تاريخ الدار ومن سكنوها!! ، ذلك ..هو ماافتقدناه في ماقدمه "باب الحارة" ، وذلك ماجعل الناس يقبلون على "باب الحارة" يلتمسون فيه –على عجره وبجره- كل ماافتقدوه في حياتهم المعاصرة من بقايا صور فحاولوا التشبث بما خيل إليهم أنه قيم مفقودة لم تكن إلا حلقات في مسلسل منحهم كل ليلة من ليالي رمضان ساعة من أمان وحنين وذكرى.
"باب الحارة " .. و"حارة القهر"
حسما للجدل ينبغي إيضاح أمور: أولها أن كتابتي عن "باب الحارة" الآن مصدره توضيح بعض النقاط الخطيرة في "ظاهرة" هذا الاقبال الشامي على المسلسل بين يدي رمضان القادم الذي أصبح وللأسف شهر المسلسلات ! ، وثانيها أن المسلسل بما أثاره من اهتمام شعبي يستحق الوقوف عنده والتفنيد والدراسة كظاهرة اجتماعية ، وثالثها أن نقد المسلسل والكلام فيه لايتعلق في هذه المقالات الثلاث ببناء العمل الفني ولكن بمنظومته الفكرية والتربوية والثقافية ، التي وجدت لها أصداء جدّ لافتة في المجتمع الشامي المعاصر نتيجة الإسقاط النفسي الذي أحدثه هذا العمل على ضمير الناس وذاكرتهم الجماعية .
لعل التفسير الأليق لهذه "الظاهرة" نجده وبتوسع بمراجعة كتاب "التخلف الاجتماعي /مدخل إلى سيكولوجية الانسان المقهور" للدكتور الأستاذ "مصطفى حجازي" ، الذي يسلط الضوء بجلاء على أننا نقطن "حارة القهر" ولذلك وجدنا أنفسنا في "باب الحارة "!، وجد الناس جذور منطلقاتهم السلوكية اليومية في حياتهم المعاصرة التي لم يتغير فيها الكثير إلا ماتعلق بالظواهر التي قلدنا فيها الغرب تقليد الببغاوات ، أما إن شققنا عن الصدور لوجدنا في "باب الحارة" جذور كلامنا المعاصر ، آليات تفكيرنا الراهنة ، مانحب ومانهوى ، مازلنا نحنّ إلى تلك الشخصيات التي تتسلط على حياتنا وتلغي كل قدرتنا على الاختيار وحمل المسؤولية ومايترتب عن ذلك من أعباء التفكير وتقرير المصير ، مازلنا نتخبط بطريقة أليمة بين "الاسلام" حضارة راقية ، وبين ماتوارثناه من "عادات وتقاليد" منحطة لاتمت إلى الإنسانية ولا المنطق ولا الحضارة بصلة، ولكننا على الرغم من ذلك لانجرؤ على نقدها ولا الانتقاص منها لأننا ربطنا بينها وبين الدين وجعلناها دينا محضا في أنفسنا وفي سلوكياتنا ، وإلا فأروني ماذا في باب الحارة من أخلاق الاسلام أو حضارته أو تعاليمه؟!.
في الواقع ماكنت أحب إطلاقا أن أخوض في هذه المخاضة ، ولكن الترويج للجزء الثالث من المسلسل وضعني أمام مسؤوليتي في كشف ماأرى على الأقل ، والذي يعتبر مخالفة صريحة لما يراه معظم الناس من أهل الشام أردنيهم ولبنانيهم وفلسطينيهم وسوريهم ، الذين وجدوا أنفسهم أمام هذا المسلسل وجها لوجه عراة أمام حقيقة مايظنون ومايفكرون وكيف يفهمون الأمور ويرونها ، كما قال الدكتور "نبيه القاسم" في مقاله الساخر المتميز (باب الحارة وتعرية الذات) والذي اطلعت عليه في موقع الكتروني يدعى "شبابلك" أثناء بحثي فيم كُتب حول هذا المسلسل ، ولكن مايثير الاهتمام ليس المقال المتميز فحسب ، ولكن الردود الهمجية التي هاجم فيها أصحابها الدكتور نبيه أن أبدى رأيه في مجرد مسلسل !! ذكرني هذا ببعض الإخوة والأحباب من السوريين المقيمين معي في أوربة ، مايبدأ الواحد منا "أهل الفزلكة" بنقد شيء يخص حياتنا أو طريقة تفكيرنا أو ماتعلق بعاداتنا القميئة وتقاليدنا الشاذة التي يعتبرها كثيرون دينا منزلا ، إلا وتنهال عليك الشتائم غير المباشرة والاتهامات غير المقنعة بأنك خائن وعميل ومرتزق وتساعد العدو وتخدمه ضد أهل بلادك الذين تنتقدهم !! هذا القهر الذي ينتقل من أعلى الهرم إلى أسفله بطريقة "الدومينو" ، وبالضبط كما يتهم مجعجعوا الفضائيات من الناطقين باسم السلطات السياسية كل معارض بأنه عميل مدسوس وجاسوس مدفوع الأجر !! بالضبط بنفس الطريقة اتهم الناس كل من خالف رأيهم في "باب الحارة " ، -ولم يكن بين أصحاب الفكر والرأي ومن كل الاتجاهات ممن أعجبه باب الحارة إلا قلة نادرة!- ، إنها أعظم تجليات القهر في النفس الانسانية : إلغاء الآخر وتجريمه والعجز ليس عن الحوار معه فحسب ، بل عن مجرد الاستماع إليه ومجرد التفكير فيم يقول.
إنها ثقافة القهر العام التي يعيشها المواطن ، متقوقعا على ماتوارثه من قيم دون أن يستطيع حتى أن يتجرأ بينه وبين نفسه على انتقاد شيء مما يدور حوله من تهاويل وطقوس اجتماعية تسحق انسانية الانسان وتحيله إلى كائن في قطيع لايفكر بالانفكاك عن قوانينه الطبيعية !، ولاتجد في هذ السياق الخطير إلا لغة الانفعالات ، كما يقول الدكتور حجازي في كتابه: " فطغيان الانفعالات ظاهرة مألوفة في الأزمات, ولكنها عند الإنسان المتخلف, تكاد تكون الأسلوب الأساسي في الوجود, لأنه بالتحديد يعاني من أزمات مزمنة, تتخذ طابع المأزق المعيشي, الذي لا يرى لنفسه خلاصاً منها. هذا المأزق يجعله يعيش حالة دائمة من التوتر الانفعالي الذي ينبث في حنايا شخصيته, معطلاً القدرة على الحكم الموضوعي, والنظرة العقلانية".
إنه أبلغ تجليات القهر الاجتماعي قبل السياسي ، اختلط السياسي بالاجتماعي في بوتقة القهر الذي نعيشه : الزوج يسرق أموال زوجته ، والأخ ينتهب أموال إخوته وأخواته ويحرمهم من كل حقوقهم باسم العادات والتقاليد التي أنزلها الناس منزلة النصوص الشرعية ، بل إن أية محاولة لرد الناس إلى شرعهم يجعل منك كافرا ومارقا ومرتدا ، ألغيت أهلية المرأة الشخصية والمالية التي منحها الله للمرأة في الاسلام باسم عادات تركية ورثناها عن عهد الانحطاط العثماني ، و"لاينبغي للمرأة أن تخرج عن مشورة الزوج والأخ والابن " حتى في الحقوق الإلهية التي منحها الله لها بنص القرآن !! ، ألغيت حقوق النساء والبنات والأخوات بتطبيق غبي خاطيء لآيات المواريث العظيمة ، وطبق حكم وراثة الأموات على هبات وعطايا الأحياء !! وماألزم به القرآن الرجال من قيام على النساء ورعايتهن أَلزم به الرجال النساء حكما وقهرا وإرغاما ، وكأنه لايمكن للرجل أن يرعى المرأة مع حفاظه على احترامها وكرامتها وحريتها وإنسانيتها!! ، أتينا بدين غير ديننا وكبلنا الناس به وهو من الدين براء ، وكرسنا ذلك كله باسم الاسلام ، فعن أية عادات وتقاليد نريد أن ندافع ؟!، وكيف يمكن لمن في رأسه ذرة عقل أن يعتبر أن "باب الحارة" مسلسل اسلامي !؟.
في أي شرع تلزم المرأة بتغطية شعر رأسها في بيتها طيلة ساعات الليل والنهار مخافة أن يأتي أخو الزوج فيراها حاسرة الرأس ؟! ، وبدلا من أن ننعي باللائمة على الحمو – الشديد بالصرعة!- الذي كانت قد تضخمت الأنا عنده إلى حدّ مرضي يثير التقزز والشفقة !! والذي لم يتخذ الأسباب الكافية لدى دخوله منزل الأسرة كأن ينادي إحدى محارمه لتؤكد لبقية أهل الدار دخول الرجل – "العظيم" – عليهم ، يقوم كاتب الحوارات بمعاقبة الصبية التي كانت منهمكة بمهنة أهل الدار!! ، وقد اعتبر النص الدرامي قيام هذا "المخلوق المختل" بسباب الفتاة وشتيمتها وشتيمة أهلها أمرا عاديا بل ونعى باللائمة عليها وعلى تربيتها في ذلك الخلاف الذي نشأ بين الأخوين ! فهي المرأة وهي الأضعف في هذه السلسلة من العلاقات غير الطبيعية ، وهي التي لاتجد من يدافع عنها ، بل لقد أصبحت أمها التي انتصرت لكرامة ابنتها وشرفها "شريرة الحي" التي يجب أن تحرق كما كانت تحرق "الساحرات" في حقبة السقوط الأندلسي!! الأعجب والأغرب ..أن كل من حاورتهم ممن حولي في الموضوع ، كلهم دون استثناء نعوا باللائمة على الفتاة وأمها! ..وقالوا : لقد تقصدت أن يراها أخو زوجها دون حجاب !! ، شككت في قدرتي على الفهم ، وسجلت تلك الحلقة وأعدت رؤية ذلك المشهد خمسة مرات ، إنها لملفتة للنظر والتساؤل قدرتنا على تلفيق الواقع ، وقصورنا عن فهم الأشياء ، وإسقاط أمراضنا النفسية والعقلية على كل مانسمع ونرى !، هذا هو بالضبط مااستحق النقد والدراسة في "باب الحارة "!! ، وهذا هو بالضبط ماأثار اهتمام بعض الدارسين فيم يتعلق بهذا المسلسل!! ، كيف يمكن لشعب كامل أن يرى بنِيَّته وأن يسمع بخلفيته الثقافية المرضية وأن يعيش من خلال مسلسل كل أنواع الخلل النفسي والاجتماعي الذي استصحبه معه منذ مائة عام يبحث عن مخرج ولايجده؟!.
لم يكن المسلسل هو مااستثار الباحثين كعمل فني ، ولكن هذه الاستجابة الشعبية الغريبة لصورة مغرقة في التخلف والمرض عن أنفسنا وحياتنا ووجودنا.
لم يكن "باب الحارة " هو "الظاهرة" ، لقد كان اكتشافنا المبهر لحدود وجودنا الثقافي والانساني والحضاري اليوم في "حارة القهر" نكرس كل مافيها ، حتى الأذى والقهر في أقسى أنواعه ، القهر الاجتماعي الذي يلون الحياة بلوني الأسود والأبيض فقط ، ويلغي الآخر تماما ، ويترك المجال واسعا لاستعمال اللغة الوحيدة التي يفهمها أولئك الذين سمحوا لأنفسهم بالإقامة الاختيارية في حارات القهر وأبلغ أنواع سوء المعاملة ، والتي على رأسها سوء معاملتهم أنفسهم بتعطيل عقولهم عن التفكير .