وراء الكلام

وراء الكلام

طيري يا طيارة طيري

احمد دحبور

فيلم " إلى أبى"

للمخرج عبد السلام شحادة

بواحدة من مبادراته الجميلة النبيلة، حمل إلينا الصديق، المخرج السينمائي الموهوب عبد السلام شحادة، مفاجأة جديدة.. وأي مفاجأة!! فقد وجه، مساء السبت الفائت، دعوة الى مجموعة من الاصدقاء المعنيين بالثقافة والفن، كالمخرج خليل طافش، والنحات فايز السرساوي، والشاعر خالد جمعة، والمنشطين الثقافيين محمود روقة وصلاح طافش. وكان لي شرف أن أكون بينهم. وثمة اخوة لا اظنهم يقلون اهتماما في هذا الشأن، الا ان الذاكرة لم تطمح الى تسجيل محضر ثقافي، وان كانت الدعوة على شرف الفيلم الجديد الذي لم يكد يتخرج من يدي عبد السلام. وكان في استقبالنا، عبر فضاء مؤسسة راماتان، هو ورفيقة عمره الكاتبة عندليب عدوان..

اجمل ما في مفاجأة عبد السلام انها تقول كل شيء: الوثيقة، والصورة، والاسود والابيض، والألوان، والتاريخ، والمزيد من جغرافية رفح التي كانت مهد الصبا للفتى الذي كان..

بدأ بسحر الكاميرا البدائية، هذه التي كنت اسميها وأترابي في طفولتنا الحمصية: استديوكم. اما استديو فلأن هذه الآلة الغامضة بالنسبة الى وعينا الغض، كانت تنسخ وجوهنا وملامحنا، فيعود منها الواحد مزودا بأربع صور مائية لوجهه البريء السعيد. وأما الكم فلأن الغلالة القماشية السوداء التي كانت تجلل الآلة هي أشبه ما تكون بالكم وإن كانت أكبر من الكم بالتأكيد. وما فعله عبد السلام، في هذا الفيلم، يتجاوز لحظة الحنين الى مراح الطفولة، ويعيد انتاج تلك الطفولة الموزعة بين أيدي الحاج سلامة - سلامة ابو ليلة، ورفيق عمله الذي استهلك عمرهما ابراهيم حرب. وكان على الكاميرا المعاصرة الحساسة ان تصور المصورين وهما يخلدان الوجوه المتطلعة الى استديوكم.

الا ان ما حدث كان اكثر من ذلك. كانت صور افراح ومسرات وذكريات، وكانت العرائس يحرصن على ان يظهرن بأجمل ما يمكن ان تقدمه الكاميرا البدائية. وكان امرا ذا دلالة ان تنتهي عملية التصوير. بصوت اللقطة مشفوعا بصوت الحاج سلامة: مبروك..

فهل كانت المباركة للمناسبة ام لمجرد التقاط الصورة؟..

وكما يحصل في احداث الدنيا. بعضنا يمر بهذا الذي يحدث، خفيفا مشوبا بنوستالجيا دافئة. وبعضنا يحتفظ بالصور التي ستصبح تاريخا في ضوء الوقائع التي ستدرك المنطقة. وبعضنا يكون عبد السلام شحادة؟؟

وعبد السلام الذي وفر لفيلمه غطاء بصوته الحميم الأليف الدافىء ولهجته المحلية الدالة، اجرى تحالفا بين الكاميرا التي يحمل وبين الصوت الذي يتدفق منه ليروي ويشهد. قد سحرته الصورة الفوتوغرافية ففتحها ودخل في مكنوناتها، لتمتزج الرغبة بالذكرى، حسب تعبير الشاعر الانكليزي اليوت، وينبت الليلك من الارض الموات. وما هذا النبت الا جموع اجيال حملت الحجارة في وجه الاحتلال. واجهز الاحتلال على اعمار بعضها حين كان الوطن يشتق احلامه من كل ما يصل اليه الحلم..

ولسوف يعود عبد السلام الى الحاج سلامة ابي ليلة والى ابراهيم حرب. يشد على ايديهما. لا كما يفعل الابناء عندما يصبحون خواجات، بل كما تفعل رفح وغزة وعموم فلسطين في ميادين الوفاء لهذا النوع من الرجال الذين اصبحوا ملح الارض.

ساعة. ستون دقيقة. اسود وابيض والوان. ووجوه ما عادت رؤيتها ممكنة الا في هذا الفيلم. لهذا يكره العدو شاشة الذكرى. واذا اطلق عليها النار فإنما يعمق حضور المطبوعين عليها حتى لو غطاهم النجيع الذي هو من الوان علمنا الوطني..

ولأننا امام فن رفيع في المقام الاول، فقد عزز عبد السلام شحادة فيلمه بمؤثرات صوتية نادرة. تبدأ بزغاريد امهاتنا وهتافات ابنائنا، ولا تنتهي بصوت فيروز العبقري المسحوب من شريان القلب. وفي تلك اللحظة لا نكون امام فيروز التي نعرف وحسب، بل ينبسط امامنا مدى من الفرح الفني الذي اصبح، بفضل ابداعات فلسطينية بينها افلام عبد السلام، جزءا من شخصيتنا الوطنية.

مبروك يا عبد السلام ومبروك يا عندليب. ومبروكان انتما كل منكما للآخر.