مسرح "النقاب"، هل يخلق حالة مسرحية جديدة؟
عن ثقافتنا بعد ستين عاما (1):*
مسرح "النقاب"، هل يخلق حالة مسرحية جديدة؟
سلمان ناطور*
*على الحد الذي يفصل/ لا يفصل بين قريتي دالية الكرمل وعسفيا يقع مسرح "النقاب" الذي يعبر عن دمج حقيقي بين أهالي القريتين، خلافا للدمج الإداري الذي فرضته السلطة عليهما لتقليص ميزانياتهما وفرض الضرائب الباهظة ومصادرة ما بقي من الأرض.
يأتي "النقاب" كحالة تمرد على تقاعس السلطة المركزية والسلطتين المحليتين في إقامة مسرح أو مركز ثقافي يليق بقريتين أنجبتا عددا كبيرا في البلاد من فنانين وأدباء وشعراء ومثقفين ومستهلكين للثقافة، ويأتي أيضا بمبادرة فردية من ورائها جنون الفن وفن المغامرة قام بها مجموعة من المسرحيين المحترفين والهواة مجندين بقدرة فائقة على خلق شيء من لا شيء وعلى بناء صرح ثقافي رغم كل التحديات.
هذه الظاهرة ليست فريدة في مجتمعنا الفلسطيني هنا، فهناك العديد من الورشات الفنية والثقافية التي أنشأها "مجانين الفن" (نذكرها على سبيل المثال لا الحصر) مثل مسرح "السرايا" في يافا و"الجوال" في سخنين ومهرجان "المسرحيد" ومهرجان "التمثيل الصامت" في شفاعمرو وغاليريا أم الفحم وفرق الرقص والموسيقى: موال وسلمى، وجميعها تبدأ بمبادرة عنيدة لفرد ثم تتطور إلى أن تتمأسس وتبدأ بلا أي دعم، لا من الداخل ولا من الخارج، وعندما تثبت وجودها وتتعلم "الفند ريزينغ" (تجنيد الأموال) تحترف العمل الفني والانتاج وتتمأسس. في بعض الأحيان تأتي المأسسة لصالحها والنهوض بها لكن في أحيان أخرى تقضي عليها لأن المؤسس "المجنون" قد يكون عبقريا في الفن لكنه جاهل في الإدارة ، فإن تعبـّط الإدارة والإبداع "راحت عليه وعلى مشروعه" وان أعطى "الخبز لخبازه" نهض بمشروعه.
ليس في مجرد المبادرة لاقامة "النقاب" ظاهرة فنية، بل في موقع ورؤية ونهج هذا المسرح، فالموقع في قريتين كرمليتين معظم سكانهما من أبناء الطائفة العربية الدرزية يزج المسرح بتحديات غير عادية لأن ظروف هذا "المجتمع الدرزي"، وان كان فلسطينيا بكل ما فيه، إلا أنه يتميز عن المجتمع الفلسطيني العام بطبيعة العلاقة اللا أخلاقية بين هذه الطائفة العربية وبين الدولة الإسرائيلية التي تفرض التجنيد الإجباري على أبنائها وتحاول سلخها عن شعبها وأمتها، وإذا أراد هذا المسرح أن تكتب له الحياة فلا بد أن يتناول هذا الواقع مسرحيا لا ليوفر أجوبة سياسية (هذا ليس من مهمات العمل المسرحي) بل ليثير أسئلة أخلاقية من صلب هذا الواقع ويربط عضويا بين المحلي العيني وبين الإنساني المجرد، والجميل في هذا المسرح أنه أدرك هذه المسؤولية في بداياته فقدم عام 2003 مسرحية " رجع صالح من الجيش" المأخوذة عن المسرحية الشهيرة "جوني عاد من المعركة" للكاتب الأمريكي دالتون ترمبو الذي كان في القائمة المكارتية السوداء متهما بالشيوعية، وهي في أصلها ضد الحرب، كل حرب، وقد كانت خطوة ذكية وإبداعية أن يأخذها المخرج، مؤسس النقاب، صالح عزام ويعدها لممثل واحد (مجيب منصور) ويغير عنوانها لتطرح الأسئلة الأخلاقية عن الحرب والتجنيد والتي كان طرحها ترمبو، ومع أن المسرحية لم تطرح مباشرة مسألة تجنيد الدروز إلا أن صراعات بطل المسرحية ومعاناته ورسالته الإنسانية تحضر بقوة لتقود إلى السؤال المباشر: إلى متى سيبقى هذا الغبن اللا أخلاقي واقعا على أبناء هذه الطائفة؟ هذا الربط بين ما هو محلي وخاص وبين ما هو عالمي وعام يعبر عن جدية المسرح وعمق فهمه لدوره وموقعه، خاصة وأنه كان تناول في عمل سابق (مسرحية "الأمر" من تأليف الدكتور مسعود حمدان) موضوع تجنيد الشبان الدروز، لكنها ظلت في إطار محليتها واقتصرت على إثارة الأسئلة الصغيرة والتفاصيل اليومية المرتبطة مباشرة بتجنيد الدروز وعواقبه الوخيمة) ولم يكتف "النقاب" بتقديم "جوني يعود من المعركة" المعد من العالمية إلى المحلية بل ذهب في عمله الأخير إلى الإعداد من الواقع العربي العام إلى المحلي في "وجبة هجاء" المأخوذة عن مقالات ساخرة للكاتب محمد الماغوط. والماغوط في مقالاته تناول الحالة العربية العامة ببؤسها وتفاهة حكامها وقمعهم وقبليتهم. هذا العمل الجريء والجميل (إعداد وإخراج مسعود حمدان) وقع في انزلاقات صغيرة حين تسلل الى النص المعدل بعض الجمل المحلية جدا والغمزات اللغوية التي تسقط الماغوط على واقع كرملي، لا تحتاج إليه المسرحية لأن الهم العربي هو أيضا هم كرملي، وسؤال الهوية العربية والديمقراطية العربية وحرية الإنسان العربي وكرامته هي أيضا هم كرملي كما هي هم عربي عام. ويمكن ترك تداعيات خطاب المسرحية لوعي المشاهد الكرملي أو الجليلي لو لم تضف هذه الجمل.
لا يبدو من ريبرتوار المسرح أنه سيكون هاويا متقوقعا في كرمليته بل يبدأ منها وينطلق إلى فضاء أوسع وهذا لا يعكس فقط رغبة القيمين عليه، بل أيضا رؤيتهم الفنية والاجتماعية كما صاغوها في تقديم تعريف مسرحهم: "النقاب انطلق كمسيرة مسرحية جديدة وبرؤية فنية حديثة ترى في المسرح رسالة والتزاماً بأن يصبح النقاب المؤسسة الثقافية الشعبية العامة للجماهير في جميع القرى في البلاد. ويرى بالمسرح مكاناً فيه يقابل المشاهدون عالمَهم بشكل مكثّف. قد يقابلون أيضاً ما كان يمكن أن يكون عالمهم أو ما قد يؤول إليه. إنّ التشابك الإبداعي للماضي والحاضر والمستقبل هو الذي يمنح المعنى للأشياء. كلمات وإشارات وإكسسوارات، صوت وموسيقى وحركة، ضوء وظل ولون، كل هذه العناصر تتحد هنا من أجل خلق لحظات من الشعر البصري".
هل نحن أمام حالة مسرحية جديدة؟
مواصلة هذا النهج في الفكر والعمل تشير بوضوح إلى خلق هذه الحالة التي سترسم ملامحها بالأعمال القادمة واستمرار الجنون الفني لتحويله إلى عبقرية فنية.
* كتب الأديب سلمان ناطور ورقة الثقافة الفلسطينية في "التصور المستقبلي" الذي أعدته ونشرته لجنة المتابعة العليا وفيه تناول الثقافة الفلسطينية في ستين عاما. في سلسلة مقالات جديدة سيتابع مستجدات هذه الثقافة وأسئلتها في الداخل والخارج، بعد ستين عاما، متناولا الظواهر الثقافية أو اللاثقافية في ثقافتنا ويبدأ بالأقرب إليه، من بلده دالية الكرمل.