قنوات الإنشاد الطفولي..
نظرة مختلفة
علي الرشيد
شعر كثير من الآباء والأمهات والمربين بالارتياح مع ظهور قنوات للإنشاد والغناء الطفولي الهادف، التي بدأت بـ "طيور الجنة" وامتدت إلى أخرى كـ "سنا" و" كراميش" و "سكر" و "طه" وغيرها، لأنها وفرت من وجهة نظرهم بديلا هادفا يعين على غرس القيم الفاضلة وتعزيز السلوكيات الحسنة والإسهام في إثراء المعرفة لدى أطفالهم في أجواء تجمع بين المتعة والفائدة.
ومما لاشك فيه أن هذه القنوات وخاصة " طيور الجنة" استطاعت أن تترك أثرا واضحا في نفوس تلك الشرائح العمرية، محققة شعبية كبيرة في أوساطها، في العديد من الدول العربية ـ لاسيما التي تقع في المشرق ـ ، تدلل على ذلك الأناشيد التي تبث من خلالها والتي صارت محفوظة على لسان هذه الفئات العمرية، وهي تترنم بكلماتها وأنغامها، في البيوت والمدارس والحدائق والحفلات والمناسبات.
يحسب لهذه القنوات أنها أسهمت إيجابيا في تغطية العديد من الجوانب أهمها:
ـ على المستوى اللغوي: ساعدت الأنشودة الطفل لاسيما في المرحلة المبكرة ( ما قبل المدرسة ) وحتى في السنوات الأولى من المرحلة الابتدائية على النطق السليم وزيادة الثروة اللغوية، وربط الكلمة بالحركة، كما ساعدت على التميز السمعي واللغوي، وتنمية الإبداع والذوق الفني الرفيع والإحساس بالجمال، والتكلم بطلاقة أمام الآخرين، حيث يكررون الكلمات دون خوف، كما عدت وسيطا مهما لتنمية القدرات الذهنية والحركية.
ـ على المستوى التربوي: عملت على تعزير الأخلاق الفاضلة والسلوكيات الإيجابية، وأتاحت للأطفال استقرار الجوانب النفسية، والشعور بالرضا والثقة بالنفس وحب الحياة والطموح للمستقبل، من خلال اختيار الكلمات الهادفة والمضامين الراقية، والصنعة الجيدة والحرفية الفنية الممتازة، وربطهم بقضايا الأمة، ووفرت بديلا مناسبا ومنافسا وسدت فراغا مهما في خضم السيل الجارف من الأغاني الهابطة التي تحاصرهم من كل حدب وصوب، وتعمل على إفساد أذواقهم وفطرتهم، وتدّمر هويتهم، خصوصا إذا جاءت من بيئات وافدة تختلف عن بيئتنا الثقافية والفكرية والعقدية.
ـ على المستوى الترفيهي: وفرت هذه القنوات احتياجا أصيلا لدى الأطفال يتمثل في الترويح والتسلية في أجواء مبهجة يغمرها المرح والمتعة والفرح الطفولي، وعملت على إرواء ظمأ نفوسهم الغضة العطشى لذلك.
إن هذه القنوات تعتمد على سحر الأغاني والأناشيد الذي يعدّ قديما قدم البشرية، فالأنشودة تحرك القلوب خصوصا إذا اجتمعت فيها الكلمات الهادفة مع اللحن الراقي والصوت الشجي والأداء المتميز، والمؤثرات الصوتية المناسبة، والمشاهد المؤثرة ( بعد الانتقال من المسموع إلى المرئي من خلال التلفاز والإنترنت والفيديو كليبات) ، فمن الأناشيد ما يفرح، ومنها ما يحزن، ومنها ما يحرك أعضاء الجسم، ومنها ما يبعث على العزيمة والنشاط والتفاؤل وهكذا في ربط بين معاني الشعر وموسيقى الكلمات والألحان وعذوبة الأداء.
لكن رغم ذلك فإن هذه القنوات تسجل عليها ملاحظات جوهرية وأساسية ينبغي الالتفات إليها بعناية دون الاتكاء على نشوة "الشعبية" الحالية الكبيرة لها ـ كلها أو بعضها ـ بين الأطفال، لأن البساط سرعان ما سينسحب من تحت أرجلها مع ظهور قناة أو قنوات تصدر عن رؤية مؤسسية إستراتيجية شاملة، وأهم هذه الملاحظات:
ـ أن كثيرا منها ـ بحكم معرفتي أو متابعتي الشخصية ـ ذات طابع شخصي أو عائلي، أو فردي محدود، تقوم على جهود أشخاص محدودين، سواء على صعيد الملكية أو التخطيط أو التنفيذ، فضلا عن انطلاق بعضها بشكل ارتجالي، دون أن تستوعب احتياجات الطفولة بأبعادها المختلفة، أو تخطط لذلك مسترشدة برؤى أطراف العلاقة من تربويين وإعلاميين ومهتمين بأدب وفنون الطفولة.
ويمكنك أن تلاحظ أن كل منتج من منتجات القناة لا بد أن يكون ممهورا بإشراف مالك القناة أو مديرها، وأن كامل أسرة مالك إحدى هذه القنوات يعملون فيها بمن في ذلك زوجته وطفلته التي لم يتجاوز عمرها عاما واحدا، ويظهر ذلك في إعلانات الأناشيد ومهرجاناتها. كما أن كتّاب كلمات الأناشيد والملحنين والمخرجين لها لا يتجاوز عدد كل منهم أصابع اليد الواحدة .
ـ أنها لا تراعي بعناية جمهور المستهدفين في منتجاتها الفنية ، فما يصلح من كلمات وألحان ومشاهد للطفولة المبكرة لا يصلح لمن هم أكبر من ذلك، كما أن هذه القنوات لم تحدد أصلا جمهورها الذي تخاطبه بشكل واضح ، وفضلا عن ذلك فإن السائد في عملها توجهها في الغالب إلى مرحلة ما قبل المدرسة، وقد يمتد في فرز غير دقيق أو ممنهج ليغطي المرحلة الابتدائية.
ـ اعتماد أغلبها على اللهجات العامية ـ باستثناء قناة سنا ـ سواء كانت شامية أو مصرية ـ بعيدا عن العربية الفصحى ـ بكل ما يرتبط بذلك من مخاطر تربوية ولغوية على أطفالنا.
فرق كبير بين استخدام العامية والفصحى في الأناشيد، وكما قال شاعر الأناشيد المعروف سليم عبد القادر فإن اللغة العربية الفصيحة أجمل ، وبما لا يقاس بأي لهجة محلية ، وبإمكان أي إنسان عربي في جميع أنحاء الوطن العربي الاستماع إليها، لأنها واضحة يستطيع فهم معانيها، وأوسع انتشاراً شئنا أم أبينا ، وفي الفصحى كل العناصر ذوقا وأدبا ولغة، وهذا لمصلحة الفن والنشيد ولمصلحة الأمة والعروبة والمعتقد.
ـ الخشية من تسلسل وسريان الروح التجارية إلى عقلية من يديرون هذه القنوات واعتبارها وسيلة للربح السريع على حساب المضمون، مستغلين الفراغ الكبير في مجال الفن الهادف، وتعلق الأطفال بقنواتهم.. بدأت تتضح بوادر ذلك من بعض ممارسات هذه القنوات لا سيما في مهرجاناتها الإنشادية التي تقيمها على مدار السنة والإعلانات الترويجية المصاحبة لها، والاستعراضات التي تحدث خلالها من الكبار قبل الصغار، وسلعها الأخرى، وهذا في مجمله يلحق أذى كبيرا في الفن الهادف ورسالته التربوية.
لا يعني ذلك أننا لا نريد لهذه المؤسسات أن تحقق ربحا معقولا يتيح لها الاستمرار والتطوير، ولكن يجب عليها أن تدرك أنها لا يمكن أن تكون بحال من الأحوال كشركة تجارية تتعامل مع الفن كما يتم التعامل مع السلع الاستهلاكية والخردة.
أعرف أن هذا الكلام قد لا يروق لبعض القائمين على هذه القنوات، ولكثير من المبهورين بما يصدر عنها بحكم النظرة الجزئية والمحدودة، ولكن كان لا بد من قوله أداء للأمانة وقياما بواجب المسؤولية تجاه أبنائنا، الذين هم مستقبلنا المرتجى.