اشتقتلك يا البعث!
اشتقتلك يا البعث!
نايف خوري
*جوقة البعث الشفاعمرية عريقة وأصيلة في أعمالها الفنية، قلبًا وقالبًا، وأراني أذهب بلا تردد لمشاهدة عروضها بكل ثقة وأنا مطمئن لمتعة فنية وتجربة لذيذة سأخوضها مع سائر المستمعين والمشاهدين. لقد دعاني مدرب الفرقة مشكورًا فلبيت وحضرت الحفل الخاص الذي أقيم في حيفا بعنوان "إشتقتلك"، وكان عبارة عن تقديم مجموعة من الأغاني الحديثة والقديمة والفولكلورية. ومنذ لحظة دخولي إلى القاعة شعرت بأن هذه الفرقة تحترم الجمهور فلا تدعه ينتظر ويتململ حتى يبدأ العرض، بل التزمت بالوقت المحدد، ولاحظتها تحترمه بظهورها بزي موحد متناسق ومتكامل، إن كان للموسيقيين أو للمغنين، وتحترمه بالعزف الرائع للموسيقيين المحترفين والموهوبين، والذين كان لهم دور فعال في هذه الأمسية، وليس مجرد ضاربين على الآلات أو عازفين للحن يعرفونه أو قارئين لنوتة مكتوبة أمامهم، بل تفاعلوا مع أنغامهم وأجادوا بعزفهم المنفرد والجماعي. وتحترمه بتقديم هذه النوعية من الأغاني التي شنفت أذاننا بالموسيقى والأصوات الجميلة والدقة في العزف والأداء الرائع للمغنين الذين يستحقون أن نسميهم مطربين فعلاً. والفنان أو الفرقة التي تحترم الجمهور فلا بد أن يحترمها الجمهور لا محالة.
ولكن ما ميز هذا العرض هو التوزيع الموسيقي الفريد، إما بالآلات الموسيقية وإما بالأصوات التي تناغمت بالصوت والجواب، وباللحن والنغمة. وجاء هذا التوزيع للموسيقى واللحن، بحيث تظن أنك تعرف هذه الأغنية أو تلك، ولكن التوزيع الجديد يخلط الأمر عليك ويفاجئك بأغنية تعرفها فعلاً ولكن بقالب آخر لموسيقاها ولحنها. وهكذا نجح الفنان ذو الحس المرهف رحيب حداد أن يسير بالفرقة كما يشاء، فيأخذ الأغاني والفرقة كما يأخذ الجمهور معه في درب سريعة الخطى، أو متأنية متلذذة، أو وئيدة كالثملة طربًا. ورحيب هذا، كما رأيته أراد وتمكن من إخراج كافة الألحان والأنغام والأصوات من حشاشة قلبه وصميم فؤاده وقرارة نفسه، فكان يقود الفرقة، كأنه يدعوها فتلبي، ويمضي بها فتنصاع له، ويحركها فلا يستقر لها قرار إلا بأمر منه، وكأنه كاد يطير بأجنحته الموسيقية واللحنية والغنائية. وقد ذكرني ظهوره بالدكتور سليم سحاب قائد الأوركسترا في دار الأوبرا في القاهرة، فتراه يرقص ويتمايل مع اللحن ويهتز طربًا وانسجامًا، ورأيته يأخذ نفسه العميق قبل كل أغنية ليجدد همته ويبعث في فرقة البعث الحيوية والنشاط، فيزيد من إبداعها إبداعًا. هكذا يجب على القائد الماهر أن يقود جيشه العرمرم، أو فرقته المسرحية أو فرقته الفنية في مسيرة الإبداع، وأنا واثق بأن الأستاذ رحيب قدم هذه الأمسية الرائعة بعد جهد وتعب وكد عناء، دون تساهل مع الفن أو استهتار بالجمهور، أو استهانة بأعضاء الفرقة العازفين والمطربين على حد سواء، وحين يبذل مثل هذا الجهد أو العطاء تظهر ثمرة هذا كله أمام الجمهور، ويسجل لصالح الفرقة.
وقد سألني المدير الإداري للفرقة الأستاذ عصام نصر الله، عن رأيي في ما سمعت بعد العرض مباشرة، فجاء جوابي التلقائي، بأن عكا وحيفا والناصرة وشفاعمرو وسائر الجليل لا تكفي هذه الفرقة، بل تستحق أن تظهر أبعد من ذلك.
وإذا كانت فرقة البعث الشفاعمرية، تجيد هذه الإجادة، إلى جانب أخواتها فرقة الموسقى العربية بقيادة الأستاذ سهيل رضوان ونجله الدكتور نزار رضوان، وفرقة الموسيقى والموشحات في ترشيحا بقيادة الأستاذ الموسيقي تيسير حداد، وفرقة شوف هالأيام بقيادة الأستاذ ألبير بلان، وغيرها من الفرق الأخرى التي فاتني ذكر اسمها هنا، فيجب أن نرى المهرجانات والأمسيات الفنية والحفلات تنشر في طول البلاد وعرضها، وعلى مدار السنة وليس في موسم واحد فقط. وأن نقول للجمهور تفضل تمتع وانهل من هذه المناهل العذبة، واحسب أن لدينا فنانين ومطربين وموسيقيين يحتلون مكانة مرموقة في عالم الفن أسوة بسائر الفرق التي تظهر في العالم العربي والعالم الغربي.