التشكيلي "عثمان موسى"
التشكيلي "عثمان موسى"
يستشف ما وراء الواقع ويجعل المجرد مدركاًًو اللامرئي مرئياً
منى كوسا
[email protected]
صالة غاليري أيام بمدينة دمشق احتضنت الكثير من الفنانين التشكيليين المتفوقين و
السر في تفوقهم يعود إلى اجتماع ثقافات متنوعة جداً تحت راية الفن السوري ,نذكر
منهم الفنانين السوريين " أسعد عرابي " و"عثمان موسى ".
نتحدث عن الفنان " عثمان موسى " الذي يترك روحه و فنه يتشظيان على قطعة القماش
يترجم ما بداخله من ألوان و إحساس وهذا يشعره بنشوة عارمة , يسبح ضمن مساحات لونية
واسعة يخاف أن تأسره الأطر الصغيرة على اختلافها .
تولد لنا فيما نقرأه رسوم "عثمان" حواس توحدنا بما حولنا , ينقلنا إلى عالم سحري من
الألوان يتجاوز الواقع بحيث يفقد المشاهد القدرة على التمييز ما بين التقنيات و لا
يعرف كيف تمكن الفنان من صنع لوحته حتى حين يقترب و يلمس القماش فإنه لا يكتشف إلا
ما يزيد خبرته أكثر .
نتاجه يتحول إلى لغة مقروءة لكل المستويات الفكرية بالإضافة إلى الكثير من الدهشة
و الإعجاب و السر في هذا التأثير لأن الفنان يتمتع بجذور ممتدة في الأفق و هو يدخل
في ضوء الانطباعية الفرنسية و محاولة منه بإسقاط مفاهيم التراث و التكرار السطحي
لأبجديات مرتبطة بالهوية المحلية .يحاول إعادة تحقيق التناغم مع عناصر الواقع يفجر
صورته من داخل لوحاته , يعيد اكتشاف اللاوعي عبر حواره مع ذاته عند حدود مواصفاتها
و تجاربها و رغبته في فتح الحوار مع الآخر عبر تلوينه بأشكال متباينة حوارية تحمل
تصورات و رؤى تحاول فك عزلة الذات و الابتعاد عن حالة الانغلاق, يكشف عن تقنيات
شكلية متبعة في تشييد هذا البناء الفني و ما يخلقه من أجواء متفاوتة و ألوان
متكاملة و ما يؤطر كل ذلك من تشويق في منتهى الإرهاف , ينجح في خلق عالم يحس
المشاهد بحقيقته و بذلك تستحق اللوحة جانب من القراءة التأويلية و الدراسة بالمعنى
التقني و الدراسة الشكلية الجمالية بالمعنى البنيوي تكشف عن عمق و ثراء وبصيرة .
العمل الفني عنده جاء كمقياس لمناخات واقعية و لذاته الفنية لأنه جزء منها , يؤكد
على أن الفن بقدر ما يكون ذاتياً بالمعنى الإنساني فإنه يحقق الحضور الإبداعي و
يكشف آفاقاً جديدة قابلة للبلورة فهو مسالة استيعاب ما يحدث في الواقع , يعبر
الفنان عنه من خلال ذاته الصادقة , لقد عرف بحق كيف يجمع بين ثقافة الفن الإنساني
المشبع بروح التراث العربي و الرؤية المستقبلية المشرقة , فكان فناناً أصيلاً في
فنه و عميقاً لانتمائه لكل ما هو إيجابي في الثقافات الإنسانية , فجاءت لوحاته ذات
سمات عقلانية و موضوعية جمعت بين الحفاظ على الأصالة مع فتح الباب على مصراعيه
للحديث والمعاصرة و هذا كله يقود إلى الإبداع .
وهناك عنصر شديد الأهمية هو عنصر الموسيقى و الإيقاع في إشعاع المناخ العام للوحة
الذي يتيح للإيحاءات المختلفة أن تنمو و تتكامل في مخيلة المتلقي تجعله ممتلكاً
للحس الفني المرهف و الوعي الجمالي لأن زمن الإبداع و حده قادر على تجاوز البديهيات
و المفاهيم العادية و اكتشاف ما لم يكتشف بعد .
عثمان موسى يتمتع بمواهب ذات بعد فلسفي مستقبلي واقعي كأساس متين للمدرسة العربية
في مضمونها و واقعيتها الجوهرية و أبعادها النقدية و ارتباط الفن بمسار الحياة .
تقنيته كانت عن وعي فني للمضمون الفكري و هي في المحصلة إضافة نوعية للأساليب على
مستوى التجديدات أي تأسيس رؤية تشمل كل ما هو جيد و كل ما هو أصيل تكشف عن وعي خاص
بتجسيد إمكانات الروح و تجلياتها أي بنفاذها إلى جوهر الإنسان تعكس أفكاره بصورة
تتجاوز حركة الزمان و المكان أي تجسد المعادل الموضوعي بين المطلق و النسبي بلغة
فنية تتجاوز مراحلها . استطاع الفنان أن يمتلك حق الاستفادة من التجارب الفنية
القديمة و المعاصرة و هذا لا يحدث إلا من خلال و عيه بهدفه الفني المرتبط بهدفه
الفلسفي , فلديه تراكمات لخبرة طويلة أتاحت له المنفعة منها لصالح فنه مدركاً
لأهدافه الإبداعية فجاء أسلوبه نتاج لعوامل مختلفة و معبراً عن شخصيته الفنية
المهتمة بالتراث كفلسفة و شكل ومضمون و رمز و كذلك كدلالة فكرية . لوحاته ليست
محاكاة و لا هي استنساخ لنماذج سابقة و لا هي حدس غيبي و إنما مرآة و قدرة على
اكتشاف المستقبل تمتلك القدرة على تجاوز التعبير الواقعي أو الحاصل بفعل الواقع
لصالح رمز خاص شامل الأبعاد و هذا ما نلاحظه عند كثير من الفنانين في العهد السومري
و المصري القديم و البابلي الذين اعتمدوا على قدرة الرمز على البقاء كأساس فني خلاق
قادر على التعبير العميق عبر التجديدات المعاصرة يستلهم التراث و يجسد الأصالة
التاريخية .
لوحاته تقول الشيء الكثير ... تعتبر محاولات جادة و طموحة لتحقيق توازن العمل الفني
و استقلالية في الشخصية فالفنان إذا ما انسجم بعمله لا يعنيه تسجيل الحقائق بقدر ما
يشعر به من انفعالات و أحاسيس يستكشف السحر الإنساني في مشاعره و يرتفع بها من
مستواها العادي اليومي المكرر إلى مستوى فني متطور بقفزات نوعية و تلك هي عظمة
المبدع الذي يرفض السباحة في مياه النهر مرتين , يستشف ما وراء الواقع و يجعل
المجرد مدركاً و اللامرئي مرئياً ينهل من الحياة يتكون في اتساعات و شمولية الرؤيا
يبني عالماً فنياً ما بين الذات, الموضوع و الإنسان و الواقع و ما بين الخاص و
العام يتسلل إلى شرائح حياتنا و يكشف ما فيها من أغوار.