رهانات التجريب المسرحي في مسرحية

رهانات التجريب المسرحي في مسرحية

 "آي حواء"*

محمد أهواري -المغرب

[email protected]

"يشكو الإنسان من حذاءه، والعلة في قدميه"

صمويل بيكت

رهان التعبير

إن الحضيض المتصاعد الذي يطبع مسرحية "آي حواء" محرك أساسي يرفع مستوياتها الدرامية كعرض تجريبي يقف وسط الطريق بين الحياة والموت، بين الفن والتاريخ، وبين السلم والحرب كما بين الحقيقة والوهم. فالشجاعة التي يختار الجندي السلاح والعنف العسكري وسيلة للتعبير عنها لن تكون مناسبة هذه المرة. إذ ما يميز هذا العرض من الوجهة التعبيرية له علاقة لصيقة بكل الأشكال الحضيضية المعبرة في المقام الأول عن الوعي الإنساني بهذا الاصطدام القيمي العنيف بمساحات التعبير المبعدة والمقصاة، وبالتالي أخذ المبادرة الشجاعة قصد التعبير عن هذا الوعي الإنساني المعاكس. وربما في هذا السياق تكمن فضيلة الإنسان، وإنسانيته، وكذا قدرته على تثوير أنماط  واستراتيجيات التعبير عن واقعه الفعلي.

سليم جدا في اعتقادي النظر إلى الحرب-الثورة التي يشارك فيها الجندي-الفنان باولينوPaulino  من زاوية رمزية، باعتبار الرمز في هذا الصدد اختيارا تعبيريا، بعيدا عن كل محاولات وأشكال الرصد التاريخي أو الوثائقي للأحداث. فالحرب المشتعلة في هذا العرض هي حرب فنية تعبيرية بامتياز، حيث يقدم الجندي-الفنان على تجييش كل ما لديه من كائنات ومفردات وأدوات وتقنيات فنية قصد الإطاحة بنظام فني قائم باستبداد وتسلط، متواصلين على امتداد التاريخ منذ العهد الأرسطي. يتحرك العرض ويتقدم على نحو استعراضي صاخب، ثم يمتد نحو أفق احتفالي غريب، ترسم ملامحه ألوان الموت وألوان الحياة وهي تتشابك وتنصهر في سبيكة تعبيرية تستحضر لغة الحرب ولغة الفن في آن معا. تتطور بنية العرض على إيقاعات الموسيقى والرقص والصخب والضحك والهتافات وغيرها من العناصر التعبيرية الصادرة عن كل من باولينو وحواء، دون إغفال الحوارات المنكسرة التي تدور بينهما على نحو وجيز وسريع، لكن بليغ. ثم نتبين كيف أن الإثنين- باولينو وحواء- يتدربان ويستعدان في الوقت نفسه إلى المشاركة في أمرين: حرب الثورة وتقديم عرض مسرحي. والمثير للغاية في هذا السياق أن الطرف النقيض في هذه الحرب هو ذاته من سيتلقى العرض المسرحي المزمع تقديمه. بهذه المفارقة الصادمة، يسير عرض "آي حواء"، وكذا العرض الموضوع داخله، حتما نحو سقوط المرأة - حواء- الفنانة الثائرة والحالمة بفسحة تجريبية جديدة، وفضاء فني مخالف لكل أنماط الممارسة المسرحية السائدة. لكن الفن ليس كالحرب. وهنا تظهر خطوط عريضة وتمتد للفصل بين جسدين متناقضين: جسد واقعي يكون أو لا يكون، يبقى أو يفنى. هذا الجسد هو التاريخ والبيان والمنطق؛ وجسد رمزي ينمو حينما يتذمر، ويكون كلما انهار، وهذا الجسد هو التجريب الفني الذي يغذي شرايينه من الفشل في كسب رهاناته وتحقيق رغباته التعبيرية في التأثير الفني العميق، ليضمن لنفسه البقاء في مدار الصيرورة والانبعاث والتجدد. وهنا نفهم كيف اتخذ صمويل بيكتSamuel Beckett  من الفشل مبدأ جوهريا وحيويا في عملية التعبير الفني، بل وشرطا ضروريا للجلاء بالذات المعبرة عن دوائر العادة والائتلاف والرتابة، كما عن مؤسسات النظرية والنظام والمنطق.

تعد فكرة الفشل أحد أبرز العناصر الأساسية التي يحاول عرض "آي حواء" الاعتماد عليها قصد تأكيد أمرين أساسين: الأمر الأول هو رفض وإبطال كل تصور يتعامل مع المسرح- والفن عموما- باعتباره بنية مغلقة وثابتة، كاملة ومتكاملة؛ أما الأمر الثاني فهو إشارة دقيقة للدور الذي تلعبه مسألة الفشل الفني في تحويل العمل المسرحي من رسالة مضمونة إلى رهان سيزيفي، مستعاد ومخفق، إلى ما لا نهاية. إنه التجريب على خشبات الفشل التي تطؤها أقدام حواء وباولينو للتعبير عن رفضهما تقديم عروض فنية دون أخرى. فحواء تموت رميا بالرصاص نتيجة رفضها تقديم عرض "تحية العلم"؛ في حين ينتهي باولينو على رصيف الإدمان على الخمر، والتمرغ في القذارة والعزلة والهذيان، وأشياء أخرى اختارها الجيش وسيلة لتعذيبه وإذلاله ، بعدما عزف الجندي-الفنان عن تقديم "نمرة الضراط" المضحكة.

على نحو مماثل، يبدو التقاطع التعبيري جليا بين مجالين طالما تداخلا فيما بينهما خلال العرض: الفن والتاريخ، أو قل بين التجريب وغيابه. والحال أنه حيثما يغيب التجريب- باعتباره ممارسة إبداعية- عن ضفافه المتجددة، يكون التكريس النظري والتقعيد النمطي والنقل المحاكاتي للواقع كما هو الشأن في الكتابة التاريخية بمفهومها الشمولي. ثمة في عرض "آي حواء"، إذن، نقلة تجريبية من التاريخ إلى الفن، تتضح ملامحها في إصرار حواء وباولينو على رفض إعادة تقديم كل ما هو سائد ونقل أحداث الواقع كما هي بالضبط. وتذكرنا هذه النقلة التجريبية من التاريخي-الواقعي إلى الفني-الخيالي بالتحول التعبيري الذي أصاب شخصية Roquentin في عمل Nausea لجون بول سارتر Sartre ، عندما قرر التخلي عن كتابة سيرة تاريخية للتفرغ، في المقابل، إلى بناء عمل روائي حول عبثية الإنسان. إن التجربة التعبيرية في "آي حواء" تجربة رمزية ساخرة تجعل الحاضر غائبا، وتعطي الغائب فسحة واسعة للتعبير والتجلي. فالعرض كله موضوع في حلة عسكرية، لكن الحرب، بكل مظاهرها العسكرية تبقى بعيدة وضعيفة الحضور مقارنة مع التعبير الفني الصادر عن حواء وباولينو على امتداد العرض، إضافة إلى التوظيف المتواصل للموسيقى والشعر والغناء والرقص والصورة الخاطفة.

ما جدوى الحالة العسكرية في العرض إذن؟ إنها حمولة رمزية تنحت صورة تجربة مسرحية ثائرة، رافضة لكل أشكال المسرحة المستبدة والمعارضة لبيانات الاختلاف والتحرر والتجدد. حمولة رمزية التعبير، ثقيلة الوطأة، تعلن الهدم والبناء من النواة، في آن واحد. ولنتذكر كيف أن رواد المسرح الحديث، خصوصا جماعة باريس في الخمسينيات، نشئوا في بيئة ملوثة بالحربين العالميين  الأولى والثانية. لكن رغم هذا الحضور العريض في قلب الحرب فإنهم لم يعنوا بها، وبالتالي لم يسخروها قضية في أعمالهم الإبداعية، ولم يحاولوا التعبير عن موقف شخصي مباشر بخصوص قضية الحرب، الأمر الذي يعني وجود إصرار لدى هؤلاء الكتاب على رفض فكرة جعل الكتابة الإبداعية قناة لتصريف أو تمثيل واقع تاريخي، كما هو الحال مع المدرسة الطبيعية-الواقعية على سبيل المثال. فهؤلاء اختاروا نهجا تعبيريا مغايرا هدفه تثوير التجربة الإبداعية وإبعادها عن كل محاولة تمثيلية لصيقة بقضايا تهم تاريخا ساهم في المصادقة على نمط فني دون غيره، وتزكيته قصد تسخيره لأغراض أيديولوجية نفعية. وهذه النقطة يعبر عنها باولينو بشكل دقيق، يقول مخاطبا حواء:

"أنصتي إلي جيدا، الجمهور بدأ يلج المسرح، ونحن فنانون فقط، ولا يهمنا سوى الفن، أما السياسة والساسة فليذهبوا إلى الجحيم."*

الإنسان هو قبل كل شيء كائن وجودي، أو حسب تعبير سارتر، كائن موجود في حالة معينة. هذه الحالة هي العالم. معنى ذلك أن الإنسان بمفرده جزء من "المجتمع الكوني". فالحرب في "آي حواء" ليست حربا إسبانية. إنها من وجهة رمزية حرب هجينة ذات خصائص كونية تحطم كل الحواجز وتجعلها في سيولة وانصهار متواصلين. والملاحظ في هذا السياق أن هناك طيلة العرض انتقالا لفظيا مفاجئا بين ثلاث لغات: عربية- إسبانية- إيطالية. والإنسان في هذا العرض فنان قبل كل شيء: (حواء / باولينو). ثم إن الحمولة الرمزية التي تجسدها شخصية حواء هامة وحاسمة في فهم طبيعة التجربة الدرامية التي يقدمها العرض، وكذا الخطوط التجريبية التي يرسمها. فحواء كما هو معلوم هي بمثابة نقطة فاصلة بين عالمين: عالم العصمة وعالم الخطيئة. تقترن دائما بلحظة المعصية الأولى، لحظة اللغز الأبدي (ولادة- موت- بداية- نهاية). بداية تشرف بعد نهاية النعيم وفقدانه، مصدر بداية شقاء الإنسان في الكون. إنها الأم التي تموت، تولد ثم تموت، وهكذا. والصورة هنا حالها حال التجريب الفني، قائمة هي الأخرى على تجاوز الخطوط الحمراء والاستمرارية والصيرورة والتجدد والمفارقة والترميز.

وإذا كان الفنان، في أعمال الطلائعيين في المسرح أمثال بيكت ويونسكو وجنيت على سبيل المثال لا الحصر، شخصا يعمل في لحظات الانتظار والاحتضار أو الدمار الوجودي والنفسي، فإن الفنان في "آي حواء" إنسان ينهض للعمل من غبار قبره. كما أن الشخصيات التي يقدمها عرض "آي حواء" كائنات غريبة في غاية التعقيد، وذات لغز عصيب. فهي تجمع بين الحياة والموت، بين البداية والنهاية، وبين السعادة والشقاء. إنها بالتعبير الميثولوجي تلك الهجنة الممكنة بين بروميثيوس    Prometheusرمز الغضب والاحتجاج الأبديين، وبين سيزيف  Sisyphus رمز الفشل والمعاناة المتواصلين. وهذا التناقض العميق يصيب قلب العرض ويؤثر على مستوياته التجريبية التي تعمل، دونما انقطاع، على رج استقرار مفهومي الكوميديا والمأساة كما حددهما المفهوم الأرسطي.

رهان التلقي

على مستوى آخر، تطرح مسألة اللغة- وتحديدا الكلام المنطوق والمكتوب- في "آي حواء" موضوعا إشكاليا، وتمتد كأفق واسع للتحليل والتأمل والتفكير. والواقع أن الاختلاف القائم بين اللغة بصفتها نسقا محددا وبين التعبير أو الكلام، باعتبارهما ممارسة طليقة يساعد كثيرا على فهم طبيعة الخلل الذي يصيب علاقة التجريب المسرحي بالمتلقي، مشاهدا أو ناقدا... فالمتلقي يحاول دائما إخضاع التجربة الإبداعية المعروضة إلى قالب نظري جاهز تحكمه قوانين اللغة، الأمر الذي يساهم في شحن العلاقة التواصلية بين العرض والمتلقي بسوء الفهم والانقطاع الدلالي وغياب التواصل الحقيقي. وربما لن يستقيم نقد العمل التجريبي، في المسرح تحديدا، وبشكل سليم إلا عندما ينطلق كمشروع مفاهيمي وأسلوبي يميز اختلاف العلاقة بين اللغة كنظام عام للدلالات وبين الكلام باعتباره تعبيرا خصوصيا. إن التجربة المسرحية والإبداعية عموما هي، قبل كل شيء، دعوة إلى مقاطعة المألوف وإحضار اللا منتظر، الغائب باستمرار في قاعات العروض، وبالتالي فإن التجريب المسرحي سيشكل فضاء ممتدا خارج جاذبية اللغة، ما دانت هذه الأخيرة تمثل مجالا محكما يخضع سائر أنماط التلفظ إلى قانون السقوط في هيمنة نظام النحو والبلاغة واللغة.

وتمثل مسألة  عودة حواء من عالم الموت شكل من أشكال إحضار اللا منتظر وإشارة صريحة إلى إمكانية توظيف فكرة الانبعاث. فحينما يحاول باولينو لأول مرة لمس حواء- الجسد الميت المنبعث- فإنه يكون قد شرع رمزيا في ممارسة فعل التجريب. "جرب! "، هذا ما تخاطبه به حواء وهو يحاول لمسها. فالتجريب فعل الملامسة- ملامسة سطوح الموت أملا في إحياء أجزاء منه. وهذه النقطة تعبير عن خصوصية التجريب وغرابته ككلام منكسر يمارس لعبة التحول والانفلات والانزياح عن حدود اللغة، اعتمادا على عناصر تعبيرية بديلة كالرقص والموسيقى والصراخ والضحك والبكاء. وتتداخل هذه العناصر التعبيرية فيما بينها لتقدم عرض مسرحيا قابلا للإدراك وإثارة الحس الفني لدى المتلقي، رغم تقليص مساحات الكلام بمفهومه السائد. فالفضاء الذي ينفتح عليه التجريب هو مناسبة للكلام بعيدا عن قواعد الدلالة والمنطق، ودون الخضوع إلى ضوابط وأعراف موروثة. وهذه النقطة تؤكد من جهة على إستراتيجية الالفوضى والتخريب في التجريب المسرحي، لكنها من جهة ثانية تفسر قدرة التجريب على صياغة العمل الدرامي في قالب حرباء- دائم التجدد والتغير- وأسلبته على نحو يسمح بالتأمل والإدراك، مع صيانة المسافة الجمالية الكافية لترك الأثر الفني والجمالي على المتفرج. وهذا موضوع آخر يظهر فعلي التجاوز والإرجاء على نحو شبيه بتصورات جاك دريداJ. Derrida  للمفهومين.

في الواقع، التجريب المسرحي في حاجة كبيرة إلى جمهور مبدع متفاعل مع العرض، حيث يكون المتلقي طرفا جوهريا في عملية استقبال وإنتاج المعنى وفق سياق تاريخي وثقافي معين. والتشديد في العرض التجريبي- وهذا بيت القصيد في "آي حواء"- يكون دائما على "لمن يقدم العمل؟"، وليس "كيف أو ماذا يعني العرض؟". وهذا الاهتمام الكبير بالمتلقي هو ما تحاول "آي حواء" تناوله بكيفية رمزية في شخص حواء، التي تحاول مد جسور الاحتفال والفرجة والتواصل مع جمهور سرعان ما ينقلب إلى قاتل لها ولأحلامها الفنية. والملاحظ في العرض أن كلا من حواء وباولينو يبديان اهتماما فائقا بالجمهور، على نحو يتأرجح فيه العرض بين الرغبة في إرضاء القاعة بالتجارب الجديدة والرهبة من احتمال وقوع فشل في ذلك. فحواء وباولينو مصران على عدم تقديم عرضي "نمرة الضراط" و"تحية العلم" لأسباب لها ارتباط وثيق بقناعاتهما ومبادئهما الفنية المتعارضة أساسا مع رغبات الجمهور. فعندما تطلب حواء من رفيقها الجندي عرض نمرة الضراط فإنه يجيب على نحو يختلط فيه أسلوب الجد بأسلوب الهزل:

"كفى. اعلمي أنني مغن قليل الحظ. ولكنني مغن.. وإصدار الغازات عكس الغناء. إنه الغناء  ولكن بطريقة عكسية. الناس يعجبهم ذلك. أنظري إليهم كيف يضحكون.."

 

بهذه العبارات الساخرة، ينهي باولينو كلامه ويدخل في رقصة رائعة صحبة حواء، في مشهد مثير، صاخب وكفيل بتحقيق درجة عالية من الأثر الجمالي في سياق كاد يغيب فيه ذلك تماما. وعلى نحو مماثل، تعزف حواء عن تقديم عرض "تحية العلم" لأسباب ترتبط بنوعية الجمهور الذي يتكون- حسب اعتقادها- من الجنود الأسرى. تقول في هذا الصدد:

"لن أقدم فقرة العلم.. أرتجل مكانها أي شيء.. إلا السخرية من علم هؤلاء الأسرى..

ذلك سيكون فوق طاقتهم."

في السياق نفسه، تواصل حواء حديثها وتضيف مؤكدة: "أنا أعشق الجمهور كثيرا، وتلك نقطة أخرى سوف.."، عند هذه النقطة، يقاطعها الجندي-الفنان مؤكدا بدوره على أهمية الجمهور، يقول مقاطعا: "كفى. هذا الجمهور ليس لتلك النكث البذيئة..".

فالرهان الكبير للتجريب المسرحي له ارتباط لصيق بطبيعة المتلقي. هذا الأخير الذي طالما تعود على رفض جل التجارب المسرحية والنظر إليها بعين الغرابة وعدم الرضا، بدعوى أنها عقيمة وغير مجدية. وما يفسر هذا الموقف تجاه التجريب المسرحي هو الاعتقاد السائد بغياب عناصر الفرجة المألوفة القائمة على إثارة اهتمام المتفرج على نحو يتسق مع رغباته وتوقعاته وأساليبه في الفهم والإدراك والتلقي. المشكل، في اعتقادي، غير مرتبط بالفعل التجريبي نفسه، وإنما هو نتاج ثقافة سائدة وجاهزة تحدد وتحكم كيفية التلقي، وكذا أساليب اكتساب وصياغة وإنتاج المعرفة بشكل شمولي، وبالتالي تداولها وتقييمها وفق شروط ثقافية جاهزة ومحددة. من هذه الزاوية، يمكن الوقوف عند نقطة الاختلاف الحاصلة والفاصلة بين مسرح تجريبي يروم رج سلطة التقليد المسرحي، وجمهور متشبث- إلى حد الخضوع والتقيد- بكل أشكال المسرحة الموروثة، وأساليبها المؤسسة على فكرة "وحدة النظام"، الأمر الذي يؤكد، لا محالة، استمرار النزعة المحافظة لدى المتلقي، ومثالا على ذلك تقول حواء مخاطبة الجندي-الفنان:

"ما أهمية إحضارهم [أي المشاهدون] مكبلين بالسلاسل لمشاهدة نمرة "تحية العلم"

على خشبة المسرح.. إذا كانوا سيعدمونهم في صباح اليوم التالي رميا بالرصاص.. ؟"

إن الصورة المجازية هنا واضحة ومعبرة بشكل دقيق، حيث العلاقة بين الجمهور والمسرح- حسبما تتناولها حواء بشكل مجازي ورمزي- تعادل علاقة العبد بالسيد، القائمة دائما على فعل الخضوع، خصوصا إذا علمنا أن الصورة المجازية تمتد لتضع المنتج والمخرج للعرض المسرحي الموضوع داخل "آي حواء"- على طريقة المسرح داخل المسرح- في حلة قائد عسكري إيطالي، رفيع المستوى. وهام كذلك إدراك طبيعة الارتباط الرمزي بين هذا القائد العسكري الكبير(مخرج العرض المسرحي الموضوع داخل المسرحية) وإيطاليا. هذه الأخيرة هي بلده الذي حسم في تأطير وتقنين وتحديد الممارسة المسرحية وحصرها في خشبة إيطالية، بدرجة عالية من الصرامة والإحكام، الشيء الذي يعني أن كل تجربة مسرحية تنزاح عن الخط التأسيسي المحدد ستكون بمثابة محاولة انقلاب- بصورة رمزية- ضد سلطة النظام واستقراره. وستتسع لائحة الاتهامات الموجهة لممارسي التجريب المسرحي لتشمل الفوضى والتخريب والمرض والانحراف والجنون والشذوذ.. وأشياء أخرى من هذا القبيل.

هذا الموقف تجاه التجريب المسرحي حاسم في تفسير التقاطع الدلالي، والعلاقة الرمزية، بين الفن والحرب، وبين المسرح والتاريخ، كما بين التجريب والتقليد المسرحيين في "آي حواء"، وكذا الاختلاط الوظيفي بين الفنان والديكتاتور. ويعبر باولينو، الجندي-الفنان، عن هذه النقطة مخاطبا القائد الإيطالي المكلف بإخراج العرض الموضوع في "آي حواء"، يقول وفي كلامه نسبة كبيرة من الهزل والسخرية:

 

"ليس لأنك فنان فحسب، ولكن أيضا لأنك من إيطاليا، منبع الفن والفنانين: مايكل أنجلو،

ليوناردو   دافنتشي، دانتي، فيفالدي، بوكسيني، روسيليني، موسوليني.. والسلسلة طويلة."

في الختام، لا أجد كلاما أختم به هذا الموضوع أبلغ وأدق مما قالته الفنانة "حواء" للجمهور عند نهاية العرض، تقول بنبرة هادئة يطبعها الأمل والتفاؤل عن مستقبل التجريب المسرحي: "كلنا سنتفاهم.. ما دمنا هنا في هذا المسرح... لنجرب معا."

               

هوامش:

· مسرحية "آي حواء" من إنتاج "مسرح الأفق" المغرب، 2003. وهي عبارة عن تجريب مسرحي مستوحى من رائعة "آي كارمن" للكاتب المسرحي الأسباني خوسي سانشيس سينستيراJosé Sanchíz Sinesterra.. وقد قام بإعدادها فريق دراماتورجي مؤلف من د. يوسف الريحاني، ذ. محمد ربيعة، ذ. المصطفى شرفي، وذ. محمد أهواري. تشخيص زهرة الصغير وعبد السلام الصحراوي، إخراج د. يوسف الريحاني. وقد شاركت فرقة "مسرح الأفق" المغربية بهذه المسرحية في "مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي 2003".

· كل الإحالات الموضوعة في مزدوجتين مأخوذة من مسودة النص الإخراجي لمسرحية "آي حواء".