الأطلال
إبراهيم ناجي |
إبراهيم خليل إبراهيم |
رأت كوكب الشرق أم كلثوم الشاعر الطبيب إبراهيم ناجى فى نقابة الموسيقيين ولمست فيه رقة المشاعر وأحست أن صدره قصة حب بلا أمل وبعد وفاته فى عام 1953 قرأت أم كلثوم ديوانه ( ليالى القاهرة ) فتوقفت عند الأطلال وأعطت الديوان للموسيقار رياض السنباطى ليلحن الكلمات وهنا قال لأم كلثوم : ستكون الأطلال حدثاً فنياً لا نظير له .
عدد أبيات الأطلال 134 بيتاً وعدد مقاطعها 26 مقطعاً وكل مقطع يحوى أربعة أبيات أو أكثر ولكن أم كلثوم اختارت 32 بيتاً فقط فالأبيات من 1 إلى 18 ومن 26 إلى 32 من مواضع متفرقة في قصيدة الأطلال أما الأبيات من 19 إلى 25 فهي الأبيات من 13 إلى 14 والأبيات من 16 إلى 20 في قصيدة الوداع ومن قصيدتين لإبراهيم ناجى وهما الأطلال والوداع وعدلت بعض الكلمات ومعظم أبيات الأغنية من القصيدة الأولى وهى من شعر الكلاسيكية الجديدة وتقوم على صور مجازية شائعة فى هذا الجنس الشعرى تدور حول التجول فى الصحراء والتوقف عند أطلال قديمة والبحث عن شىء مفقود ربما كان أهلاً أو منزلاً أو حبيباً وتعبر القصيدة عن مشاعر قوية ذات طابع شخصي .. هي مشاعر العذاب والحرمان وفي الأبيات المختارة لأغنية الأطلال يغير الشاعر إبراهيم ناجي نظام القافية من مقطع إلى آخر على عكس نظام القافية الموحدة القديم وغنت أم كلثوم قصيدة الأطلال فى الحفل الذى أقيم فى عام 1966 بعد رحيل الموسيقار محمد القصبجى وبالتالى غاب العود عن موسيقى هذا اللحن :
وتقول كلمات الأطلال التى تغنت بها كوكب الشرق أم كلثوم :
يَا فُؤَادِي لا تَسَلْ أينَ الهََوَى؟
كان صرحاً من خيالٍ فهَوَى
إسْقِنِي واشْرَبْ عَلَى أطلَالِهِ
وارْوِ عَنِّي طَالَمَا الدَّمْعُ رَوَى
كيفَ ذَاكَ الْحُبُّ أَمْسَى خَبَرَاً
وَحَدِيثاً من أَحَادِيثِ الْجَوَى
لستُ أناكْ وقدْ أغريتَنِي
بفمٍ عذبِ المُنَادَاةِ رَقِيقْ
ويد تمتَدُّ نحوي، كَيَدٍ
من خلالِ الموجِ مُدَّتْ لِغَرِيقْ
وبريق يظمَأُ السَّارِي لَهُ
أينَ في عينيكَ ذيَّاكَ البريقْ ؟
يا حَبِيبَاً زُرْتُ يَومَاً أَيْكَهُ
طَائِرَ الشَّوقِ أغنِّي أَلَمِي
لَكَ إِبْطَاءُ المُدِلِّ المُنْعِمِ
وَتَجَنِّي القَادِرِ المُحْتَكِمِ
وحَنِينِي لكَ يكوي أضْلُعِي
والتَّوَانِي جَمَراتٌ في دمي
مَا احْتِفَاظِي بِعُهُودٍ لَم تَصُنْهَا
وإِلَامَ الأَسْرُ والدُّنْيَا لَدَىَ
أينَ من عيني حبيب ساحرٌ
فيه عزٌّ وجلالٌ وحياءْ؟
واثقُ الخطوةِ يمشي ملكاً
ظالمُ الحسنِ، شهيُّ الكبرياءْ
عَبِقُ السِّحْرِ كَأنفاسِ الرُّبَى
ساهمُ الطَّرفِ كأحلامِ المساءْ
أينَ مِنِّي مَجْلِسٌ أنتَ بِهِ
فتنةٌ تَمَّتْ سَنَاءً وَسَنَى؟
وأنا حُبٌّ وقلبٌ هَائِمٌ
وفراشٌ حَائِرٌ منكَ دَنَا
ومن الشَّوقِ رسولٌ بيننا
ونَدِيمٌ قدَّمَ الكَأْسَ لَنَا
هل رأى الحُبُّ سُكَارَى مثلنا؟
كم بنينا من خيالٍ حولنا
ومشينا في طريقٍ مُقْمِرٍ
تَثِبُ الفَرْحَةِ فيهِ قبلنا
وضَحِكْنا ضِحْكَ طفلينِ معاً
وعدونا فَسَبَقْنَا ظِلَّنَا
واَتَبَهْنَا بعدما زَالَ الرَّحِيقْ
وأَفَقَنَا ليتَ أنَّا لا نُفِيقْ
يقظةٌ طاحَتْ بِأَحْلَامِ الْكَرَى
وتولَّى الليلُ، والليلُ صديقْ
وإذا النورُ نذيرٌ طالعٌ
وإذا الفجرُ مُطِلٌّ كالحَريقْ
وإذا الدُّنُيا كَمَا نَعْرِفُها
وإذا الأحبابُ كلٌّ فِي طَرِيقْ
أيُّها السَّاهِرُ تَغْفُو
تذكرُ العهدَ وتَصْحُو
وإذا مَا الْتَأَمَ جُرْحٌ
جَدَّ بالتِّذْكِارِ جُرْحُ
تعلَّم كيفَ تَنْسَى
وتعلَّم كيفَ تَمْحُو ؟؟
يا حبيبي كلُّ شيءٍ بِقَضَاءْ
ما بأيدِينَا خُلِقْنَا تُعَسَاءْ
رُبَّمَا تَجْمَعُنَا أَقْدَارُنَا
ذاتَ يومٍ بعدما عزَّ اللقاءْ
فإذا أنكرَ خلٍّ خِلَّهُ
وتلاقينا لقاءَ الغرباءْ
ومضى كلٌّ إلى غايَتِه
لا تقل شئنا! فإنَّ الحظَّ شَاء
وقد اكتسب عدد من الأبيات معانٍ سياسية فمثلا :
أعْطِنِي حُرَّيَتِي أَطْلِقْ يَدَيَّ
إنني أعطيت ما استبقيت شيَّ
آه مِن قَيْدِكَ أَدْمَى مِعْصَمِي
لِمَ أُبْقِيهِ وما أَبْقَى عليَّ
فهم البعض هذه الأبيات على أنها إشارة إلى الإجراءات التي اتخذتها حكومة الرئيس جمال عبد الناصر في ذلك الوقت وبعد نكسة يونيو عام 1967 اكتسبت هذه الأبيات معنى أوسع
وفي جولات أم كلثوم في العالم لم تخلو حفلة من حفلاتها من غناء قصيدة ( الأطلال) وعندما غنت أم كلثوم الأطلال في باريس العاصمة الفرنسية عام 1967 اقترب معجب سكران من خشبة المسرح في لحظة قولها : هل رأى الحب سكارى مثلنا .
واستمرت أم كلثوم تغني وهى ترتجل ( هل رأينا سكارى بيننا ) .
وأم كلثوم إبراهيم السيد البلتاجي ولُدت في الرابع من شهر مايو عام 1904 بقرية طماي الزهايرة مركز السنبلاوين بمحافظة الدقهلية بجمهورية مصر العربية .
تعلمت أم كلثوم القراءة والكتابة وحفظت بعض أجزاء القرآن الكريم مع شقيقها خالد فى كُتاب القرية .
أول مرة غنت فيها كانت بمنزل شيخ بلد القرية حيث كانت تنشد القصائد والموشحات الدينية وكانت أوليات حفلاتها العامة فى بلدة ( أبو الشقوق ) ثم انتقل غناؤها من القرى إلى عواصم المديريات .
غنت بالقاهرة لأول مرة عام 1920 حيث أقامت حفلاً غنائياً ثم عادت لقريتها وفى عام 1921 عادت أم كلثوم للقاهرة لتغنى وسمعها فى تلك الليلة الشيخ على محمود والشيخ على القصبجى ( والد محمد القصبجى ) ومن هنا بدأ نجمها يسطع فأحيت حفلاتها لحساب الشيخ أبوزيد وأحمد صديق بحى السيدة زينب وأصبحت تنافس جميع معاصريها من المطربات الشهيرات فى ذلك الوقت أمثال منيرة المهدية ونعيمة المصرية وفتحية أحمد وفاطمة سرى .
كان لظهور الشاعر أحمد رامى عام 1924فى حياة أم كلثوم الأثر الأكبر فى تطور الأغنية وكان لظهور الموسيقار رياض السنباطى فى حياة أم كلثوم أيضاً أثراً جميلاً فى موسيقى القصائد فالسنباطى كان أكثر الملحنين قدرة على تلحين القصائد فقدم مع أم كلثوم أروع الألحان التى مازالت تعيش بيننا حتى الآن وأثرت الغناء العربى .
فى عام 1925 بدأت أم كلثوم تسجل أغانيها على أسطوانات وغيرت تختها من المُعمَمين إلى المُطربشين من العازفين المهرة أمثال محمد القصبجى وسامى الشوا ومحمد العقاد .
قدمت أم كلثوم أكثر من 1500 أغنيه من أروع الأغاني العاطفية والدينية والوطنية واُختيرت لرئاسة لنقابة المهن الموسيقية عام 1944 ولمدة أربع دورات مستمرة.
قدمت أم كلثوم للسينما المصرية مجموعة من الأفلام كما نالت عدة تكريمات من كافة الدول العربية والأجنبية التي زارتها بالإضافة إلى مجموعة من الأوسمة والنياشين التي حصلت عليها من الملوك والرؤساء العرب .
توفيت أم كلثوم في الثالث من شهر فبراير عام 1975 ورثاها الشاعر الكبير أحمد رامى بقوله :
ما جال في خاطري أنّي سأرثيها
بعد الذي صُغتُ من أشجى أغانيها
قد كنتُ أسمعها تشدو فتُطربني
واليومَ أسمعني أبكي وأبكيها
صحبتُها من ضحى عمري وعشتُ لها
أزفُّ شهدَ المعاني ثمّ أهديها
سُلافةً من جنى فكري وعاطفتي
تُديرها حول أرواحٍ تُناجيها
لحناً يدبُّ إلى الأسماع يَبْهَرُها
بما حوى من جمالٍ في تغنيّها
ومنطقاً ساحراً تسري هواتفُهُ
إلى قلوب مُحبّيها فتَسبيها
وبي من الشَّجْوِ.. من تغريد ملهمتي
ما قد نسيتُ بهِ الدنيا وما فيها
وما ظننْتُ وأحلامي تُسامرني
أنّي سأسهر في ذكرى لياليها
يا دُرّةَ الفنِّ.. يا أبهى لآلئهِ
سبحان ربّي بديعِ الكونِ باريها
مهما أراد بياني أنْ يُصوّرها
لا يستطيع لها وصفاً وتشبيها
فريدةٌ من عطاياهُ يجود بها
على براياه ترويحاً وترفيها
وآيةٌ من لُدُنْهُ لا يمنُّ بها
إلا على نادرٍ منْ مُستحقّيها
صوتٌ بعيدُ المدى.. ريَّا مناهلهُ
به من النبرات الغرِّ صافيها
وآهةٌ من صميم القلبِ تُرسلها
إلى جراحِ ذوي الشكوى فتشفيها
وفطنةٌ لمعاني ما تردّدهُ
تجلو بترنيمها أسرارَ خافيها
تشدو فتَسمع نجوى روحِ قائلها
وتستبينُ جمالَ اللحنِ من فِيها
كأنما جَمعتْ إبداعَ ناظمها
شِعراً وواضعِها لحناً لشاديه
يا بنتَ مصرٍ ويا رمزَ الوفاء لها
قدّمتِ أغلى الذي يُهدَى لواديها
كنتِ الأنيسَ لها.. أيّامَ بهجتها
وكنتِ أصدقَ باكٍ.. في مآسيها
أخذتِ منذ الصِّبا تطوينَ شقَّتَها
وتبعثين الشَّجا في روح أهليها
حتى رفعتِ على أرجائها عَلَماً
يرفُّ باسمكِ في أعلى روابيها
وحين أَحدَقَ بالأرضِ التي نَشَرتْ
عليكِ أفياءها شرٌّ يُعنّيها
أهبتِ بالشعبِ أنْ يسعى لنجدتها
بالمال والجهد.. إحياءً لماضيها
وطُفْتِ بالعُرْبِ تبغين النصيرَ لها
والمستعانَ على إقصاء عاديها
حتى إذا صدقتْ في العون همّتُهم
وجاءها النصرُ وانجابتْ غواشيها
عاد الصفاء لها وارتاح خاطرها
بعد القضاءِ على ما كان يُضنيها
وأقبل الغربُ يسعى في مودّتها
لما رأى من طموحٍ في أمانيها
يا من أسِيتُم عليها بعد غيبتها
لا تجزعوا فلها ذِكرٌ سيُبقيها
وكيف تُنسى؟ وهذا صوتُها غَرِدٌ
يرنُّ في مسمع الدنيا ويُشجيها
أضفى إلهي عليها ظِلَّ رحمتهِ
وظَلَّ من منهل الرضوانِ يسقيها
تبلى العظامُ وتبقى الروحُ خالدةً
حتى تُردَّ إليها يومَ يُحييها
كما رثاها الشاعر الأماراتي راشد الخضر بقوله :
طاح ركن الشعر والغنا
وحزن عم الكون بطياحه
عنا غابت لي بها افرحنا
والزمن ما تزمن أفراحه
غابت أم كلثومنا وقلنا
يعلها في الخلد مرتاحه
راحت أم كلثوم والفنا
وراح كاس الراح والراحه
عن المسرح غاب كوكبنا
وغاب صوت الفن وأصداحه
كوكب الشرق الذي يعنا
أفل من برجه إلى بطاحه
نهر داودي يبس عنا
من عقب ما تسبح سباحه
في البداوة بدر تم حسنا
وفي الحضارة شمس وضاحه
للعرب كانت رجا أو حصنا
أو جيش واقف دوم بسلاحه
مصر تبكي والشرق لادنا
والشرق الأوسط ومن طاحه
الله يسمحها ويسمحنا
من ذنوب العمد ومزاحه
في سبيل العز لو نفنى
فوق خط النار وكفاحه
لازم نبرر مواقفنا
ونرجع المغصوب ومناحه
صلوا ع المبعوث سيدنا
عدد طيب قاحت أرياحه
أما الموسيقار رياض السنباطى فهو من مواليد المنصورة بمحافظة الدقهلية كان والده من العازف والملحن والمنشدين .. أجاد العزف على العود وكانت له فرقة موسيقية تحيي الأفراح والمناسبات فأقترب من والده وتعلم منه الكثير من أسرار الموسيقى والعزف ونضجت موهبته ثم أنتقل إلى القاهرة عام 1928 للدراسة في معهد الموسيقى الذى نبغ فيه وشاع اسمه كملحن ممتاز فأقبلت عليه شركات الأسطوانات وقام بالتلحين للعديد من المطربين الكبار مثل عبد الوهاب وأم كلثوم ونجاة علي ومنيرة المهدية .
في عام 1934 قام بتقديم عزف منفرد في الإذاعة ثم لحن العديد من أغاني الأفلام وكان تعاونه مع أم كلثوم محطة هامة في تاريخ الغناء العربي حيث برع في تلحين القصائد والأغاني الطويلة مثل قصيدة ( الأطلال ) التي استغرقت منه ستة أشهر لتلحينها .
قدم الموسيقار رياض السنباطى 575 لحناً منها 203 لأم كلثوم و20 لنور الهدى و39 لليلى مراد و25 لسعاد محمد و12 لنجاة وغنى بصوته 82 وغنى له صالح عبد الحى 9 ألحان وعبد الغنى السيد 27 لحنا كما ألف 30 معزوفة موسيقية تعد نموذجاً لدارسي الموسيقى العربية إلى اليوم.
توفىّ الموسيقار رياض السنباطي في العاشر من شهر سبتمبر عام1981.
أما الشاعر إبراهيم ناجي فهو من مواليد الحادى والثلاثين من شهر ديسمبر عام 1898 .
في سن الثالثة عشرة من عمره نظم الشعر حيث كتب قصيدة بعنوان ( على البحر ) ثم التحق بكلية طب القصر العيني .
بدأ حياته التعليمية في مدرسة باب الشعرية الابتدائية ثم مدرسة التوفيقية الثانوية تم تعيينه طبيباً حكومياً في وزارة المواصلات ( السكك الحديدية ) ثم في وزارة الصحة وبعدها في وزارة الأوقاف حتى شغل منصب مراقب عام القسم الطبي في الوزارة .
شغل الدكتور إبراهيم ناجي منصب طبيب نقابة السينمائيين والممثلين وكان وكيلاً لمدرسة أبوللو الشعرية عام 1932 ورئيساً لرابطة الأدباء في مصر عام 1945 كما أصدر مجلة طبية باسم ( الحكومة ) كان يملؤها بالتوجيهات والإرشادات الطبية والصحية .
صدر للدكتور إبراهيم ناجى ديوانين فقط في حياته هما وراء الغمام فى عام 1934ثم ليالي القاهرة وخرجت أشعاره الأخرى في ديوان الطائر الجريح الذى صدر بعد وفاته.
له العديد من المؤلفات النثرية مثل مدينة الأحلام وكيف تفهم الناس وفي عام 1945 صدر كتاب توفيق الحكيم الفنان الحائر الذي كتب فيه إبراهيم ناجي الفصل الأخير فقط وفى عام 1950 صدر كتاب أدركني يا دكتور وهو مجموعة من القصص القصيرة وفى عام 1952 صدر كتاب رسالة الحياة.
توفى الشاعر الدكتور إبراهيم ناجى في الرابع والعشرين من شهر مارس عام 1953 أثناء قيامه بالكشف على مريضة بعيادته بشبرا .