الأنشودة الإسلامية: بين الماضي والحاضر

فداء الدين السيد عيسى

الأنشودة الإسلامية: بين الماضي والحاضر

فداء الدين السيد عيسى/ السويد

[email protected]

(1)

اختلفنا كثيرا من الناحية الفكرية والأدبية  بين من يطلق صفة الإسلامية على الإغنية الهادفة ذات الانتماء الإسلامي فتكون الأنشودة الإسلامية وبين من يطلقها دون تقييد حيث أن الأصل في الأشياء الكينونة الإسلامية ولذلك  فإنه يسميها أغنية ً وحسب وأحيانا يجور فيقيدها بالملتزمة فتصبح الأغنية الملتزمة , وبين هذا وذاك انتشرت معان كثيرة ومصطلحات أكثر وتعريفات وتفريعات , ونحن لسنا بصدد الدخول في هذا المعترك الفني الأدبي ولكننا بصدد تحليل الواقع الفني للكلمة الهادفة واللحن الهادف , فمنذ أن ظهرت تلك القدرة الهائلة على تحريك الجماهير تعبوياً ونفسيا وتربويا ً عن طريق التغني بالهتافات الحماسية , أو المناجاة والأدعية , أو المديح والإلهيات ظهرت الأهمية البالغة للإعتناء بهذا الفن الجميل والراقي والذي غُيب طويلا عن كتابات مفكري ومنظري وفناني الحركة الإسلامية , إلا اللهم بعض الاجتهادات الفردية والتي افتقرت للمادة واللحن والامكانيات , وربما جاء هذا في خضم أحداث صعاب أبعدت الحركة قليلا عن هذا المضمار لما كانت تعانيه من مشاكل مع الأنظمة الحاكمة وربما عثرات من الداخل ألهتها لبعض الوقت عن إثراء المكتبة الفنية للحركة بالقصائد والأفكار وأدبيات وفن التعامل مع مثل هذه الظاهرة وربما لم تكن على قائمة أولويات الحركة الإسلامية إذ ذاك . ونحن في ذاك لا نلوم ولا نبرر , ولكننا نحاول ان نفهم تطور الأنشودة الإسلامية بين الماضي والحاضر .

ورغم ذلك كله , فقد برزت مدارس للنشيد الإسلامي الحركي في عالمنا العربي والإسلامي جعلت منه منافسا عنيداً في ساحات الفنون الغنائية الهابطة والتي مُولت بجنون من اصحاب الفكر التحللي والعلماني والليبرالي , فاختلفت من بين مدارس تتبنى نشيد المحنة وأخرى نشيد الحماس والجهاد , وواحدة تهتم بجانب المديح , وتلك تهتم بالأخلاقيات , وهذه تستعمل العامية , وتلك تدعوا إلى التفائل , وهاتيك تستخدم ثقافة البكاء ... ووو الخ , ولقد  كانت أبرز هذه المدارس وأشهرها مدرسة النشيد الإسلامي الحركي في سورية في السبعينات والثمانينات , وأنا إذ أشير إلى مصطلح النشيد الحركي أحاول ان أستثني منه الأبتهالات الروحية واناشيد المتصوفة واصحاب الزوايا , رغم دورها الكبير في إثراء الحضارة الإسلامية بأعذب الكلمات والألحان والمقامات, ولكنني سأحاول أن أتكلم عن نوع آخر من أنواع الأنشودة الإسلامية , وهي تلك التي تمتاز بفكر البعث والأمل والصحوة والمحنة , اعني به نوع الأنشودة الذي خرج مكتوياً بمشاعر الحزن والحسرة على مصائر المسلمين في شتى بقاع الأرض , ذلك اللون الذي يمتاز كما سماه علامتنا الدكتور يوسف القرضاوي بـ : الدموع والشموع , والنجوم والرجوم , والألام والآمال .

يتغير الزمان وتتغير معه الهموم والفكر , وتبقى الثوابت والاهداف واحدة لا تتغير , فيُمزج الحاضر بالقديم لتخرج إبداعات على أبهى وأحلى حلة , هكذا خرج النشيد الإسلامي وانتشر في بقاع المعمورة ليكون إحدى أسلحة الحركة التي تضرب به أصحاب الفكر الإنسلاخي والإنبطاحي والإستبدادي , ممن خجلوا واستحيوا من تراثهم الجميل وحضارتهم الرائعة ليكونوا أبواقا ً رخيصة لمن يخطط ليل نهار لضرب ثوابت هذه الأمة وتدمير أغلى شئ تمتلكها ألا وهم الشباب المسلم .

بدأت بوادر النشيد الحركي في سورية تضرب باب كل سوري ومعه بدأت أدبيات الصحوة بالانتشار , ومن منا لا يعرف صدحات الشيخ أبو عبد الله أحمد البربور  وآهاته التي كانت تضرب في الأفق لتهتز لها جدران الشام القديمة , وجسور إدلب العتيدة , وقلاع حلب الصامدة , ومآذن حماة الشامخة , وكل ركن فيه شعلة من الصحوة والشباب الإسلامي الفاهم العاقل العامل , والتي كانت تؤرخ له بماء من ذهب تلك الإنتفاضة النشيدية الأولى في عالم الحركة الإسلامية , لقد كان مدرسة رحمه الله , ولا تنسى تلك الكلمات الرائعة التي أضفى عليها من رقة صوته وعذوبة مواويله ما جعلها درة فوق تاج النشيد الإسلامي المعاصر  ومن أمثال تلك الدرر  : شباب الدين للإسلام عودوا , ونشيدته المعروفة : أفلا يأتي يوم نحيا , و : نحن الذين بايعوا محمداً , و : يا هذه الدنيا أصيغي واسمعي إنا بغير محمد لا نقتدي  . ثم ما لبث أن تطور لينتقل إلى طور التسجيل والتوزيع , ورغم تواضعه فقد كان المنشد الكبير والأب الروحي للنشيد الإسلامي محمد منذر سرميني والمعروف بأبو الجود وفي غرفة متواضعة تحت الدرج في إحدى مساجد حلب المُسّبحة هو ونفر من أحبابه ومع مسجل بسيط يُرنمون ويُلحنون الكلمات التي خرجت من بوتقة المحنة لتكون منحة ربانية عرفت للنور طريقها , ورغم بساطة الإنتاج فلقد انتشرت أشرطتهم في كل بيت وفي كل مدينة , لتخرج من سورية وتصل للبلاد العربية الأخرى كالأردن والعراق واليمن والسعودية والجزائر , عالجت اناشيده كثيرا من القضايا المهمة والتي كانت فاتحة خير وتجديدا فنياً فريداً من نوعه إذ ذاك : فكانت تنتقل أناشيده بين فكر إسلامي , وأخلاق , وجهاد ,ومناجاة , ومديح , وأخوة و و و ... الخ

ومن بعده  وبصحبته صعدت نجوم الفن لتظهر كما ظهر أبو الجود من أمثال المنشد الرائع أبو مازن صاحب الصوت الهادئ المكلوم , والمنشد الكبير أبو دجانة الثائر الصارخ , وأبو راتب صاحب المشاعر والآلام , والترمذي المداح الصداح ... , وهكذا حتى انطلقت مجاميع الفن في البلاد الإسلامية تنتشر انتشار النار في الهشيم واستفاد الصغير من الكبير , وتعلم الجديد من القديم . ومعهم ظهرت الكلمة الإسلامية وكُتّاب الكلمة الإسلامية ممن أثروا مكتبة الفن بأشعار صداحة وقصائد بالغة التأثير هيجت الجماهير وصنعت ما لم يصنعه ألف خطيب من امثال العمالقة : وليد الأعظمي , وحسني أدهم جرار , وسليم عبد القادر , و يوسف العظم , وأحمد الجدع , وأحمد محمد الصديق , والدكتور يوسف القرضاوي , ومحمد منذر سرميني , وأبو راتب , ومحمود حسن إسماعيل وكثيرون لا نحصيهم .   

وفي واقعنا المعاصر أمثلة كثيرة ومشرفة لهذا الإتجاه الذي أضحى منتشراً بفضل هؤلاء الكبار , حتى صار النشيد الإسلامي جزءاً لا يتجزئ من اليوم العربي وصارت هناك ولله الحمد منابر إعلامية كثيرة تعبر من خلالها تلك المعاني العظيمة والتي تُذكرنا بقضيتنا الأولى والأهم قضية فلسطين ومن بعدها العراق وافغانستان والمقهورين المظلومين في كل مكان , وتذكرنا أيضاً بالعزة وتحُضنا على فعل الخير , والخوض في مسيرة الإصلاح , ومتابعة الشباب المسلم فكريا وتربويا واجتماعياً , وتتطرق للمشاكل الأسرية والتعليمية والسياسية لتدخل للعمق وتلامس شغاف القلوب . وإن من يقلل من أهمية الكلمة الُمغناة فهو إنسان لم يفهم بعد قيمتها , ودورها في مساندة الدعاة والأحرار .

ورغم الأمثلة المتطفلة على النشيد الإسلامي في كثير من النواحي : ناحية الكلمة واللحن وحتى من ناحية الصورة في ظاهرة الفيديو كليب , ومن الناحية الفنية وخامة الصوت, ومن ناحية الإنتاج والتسويق والكثير الكثير .رغم ذلك كله  فنحن لا نريد جموداً قاتلاً وثبوتاً على النمط نفسه في هذا الفن بالذات بل هو قابل للتطوير والتحسين والإضافة , ولكننا أيضا نبغض القفز فوق الأسوار والمبادئ ومحاولة مسابقة الريح والزمان ,  وجعله مجرد سلعة تجارية , الهدف الأكبر والوحيد منها جني الأموال , بل نريد تجديداً حكيما ً ومتوازنا ً يُلبي حاجات الناس بكل انفتاح ولكن بتؤدة وهدوء , نُريد فنا ً إسلاميا ً واضحا ً , ولحنا ً يوصل المعنى بكل حلاوة ليصل للآذان الطاهرة وليسحر القلوب المؤمنة , وكلمة ً تكون شفاءاً لنفوس المسلمين من كل شوب ونصب ووصب , وصورة تُفضي على الكلمة واللحن رونقا وبريقا لتكتمل به مسيرة الأنشودة , إذ ذاك ثقوا بثورة فنية تُغير إتجاه الأغنية ليكون انقلاباً أدبياً فريداً . وللحديث بقية في الجزء الثاني من هذا الموضوع !