ترجمان لليل الغريزة وللجسد الليلي
ترجمان لليل الغريزة وللجسد الليلي
“يا آدم أبعدني عن آدم” هذا هو الصوت الذي نكاد ان نسمعه يخرج من لوحات سبهان آدم، فيما ننظر اليه.
لا يصور سبهان آدم وجه الإنسان في سياق العبارة القرآنية: “أحسن تقويم” فهو لا يصور ما يراه بل ما يتخيله في الأشياء التي يراها، كأن الوجه في رؤيته طين ممزوج بدمين: واحد إنسي وآخر وحشي. وفصل في هذا المزاج بين ما يسمى سماء، وما يسمى ارض، بين العقل والغريزة، بين الأعلى والأدنى. هكذا يجيء الوجه طالعاً من هيروغليفية المخيلة، كأنه يخرج من رحم الطبيعة في بدائيتها الأولى: نقيضاً لـ “جمالية” العقل والشرع في آن. ويكاد الوجه فيما نتأمله أن يهجم علينا خشناً غاضباً ويبدو أحيانا أنه ليس إلا كتلة من اللحم تلتصق بكتلة أخرى تسمى الرأس. ويبدو الرأس حينا بعين واحدة وحيناً بأكثر من عينين أو بعين فوق أخرى في غير مكانها الطبيعي العادي، كأنه يلتصق هو الآخر، بما يشبه العنق الذي يلتصق بما يشبه الجسم. وتخترق احياناً الكتلة التي تشبه جسم الانسان كتلة أخرى تشبه جسم حيوان-حمار غالباً، أو جسم طير هدهد غالباً.
الإنسان، هنا هجين بدئياً. فرأس الإنسان ليس انسانياً إلا بنوع من التأويل البصري. وليس الوجه والحالة هذه “جميلاً” كوجه آدم ولا “مماثلا” لصورة الله. إنه أقرب إلى أن يكون جزءاً مصغراً من جبل، أو قطعة من صخرة أو شامة في جذع شجرة. هكذا يخرب سبهان آدم مصطلحات التمثيل، قاذفاً أشكاله الفنية في محيط من التساؤل والشك والحيرة. ويخيل إلينا كلما تأملنا في إحدى لوحاته أن كارثة تكاد أن تقع.
لهذا التشويه، تشويه الوجه والرأس والجسم، غاية تتمثل في تحرير الإنسان من الشكل الذي فرضته تقاليد الجمالية الدينية. أعني تحريره من ضعفه الطبيعي وإضفاء قوة حيوانية عليه. لا يقصد أن يذوب صورة الإنسان في صورة الحيوان، وإنما يقصد انفصال الإنسان عن الشبه والشبيه كأن يقول لنا شكل الإنسان الطبيعي إنما هو شكل غير طبيعي وعلينا، لكي نقرأ الصورة أن نقرأ أولا اللاصورة، أو شكلها المشوه. هكذا يجعل الشكل الانساني يتحرك في الذاكرة الحيوانية الاصلية. كأنه يريد أن ينفخ التحول في ثبات الأنواع، خارقاً نظام التعارض بين الإنسان والحيوان. يجعل الجسم يغوص في البدائي الاولي يدخله في نظام آخر من الرؤية مخرجا، إياه من لعب المشابهات، كأن الإنسان حالة جسمية أكثر مما هو حالة عقلية تختفي “أنا” الجسم في شبكة الشكل. ويبدو الانسان باحثاً عن نفسه يتساءل: هل أنا أنا؟ خصوصاً عندما ينظر إلى وجهه. فالوجه خاتم الشخص. وهو خاتم مكسور بملامح كائنات غير إنسانية، انه محرف عن طبيعته الإنسانية، مشوّه، يردنا إلى إنسان غير طبيعي.
لهذا التشويه جمالية خاصة تتمثل في الاحتجاج، والتحريض، والتمرد، والعصيان، تتمثل كذلك في مزج الحياة بالرسم مزجاً عضوياً. اللوحة حياة، والأنا كيان إنساني-حيواني، إنه مزج يزعزع من جهة حدود الهوية الذائبة في اللوحة، ويولد في الشكل، من جهة ثانية، قوة جديدة تتجاوز قوة الإنسان المعهودة.
أدونيس