مني.. إلي.. الفنان منذر جوابرة

مني.. إلي.. الفنان منذر جوابرة

زياد جيوسي

[email protected]

عضو لجنة العلاقات الدولية في
اتحاد كتاب الانترنت العرب

كنت أجول في خريف الطبيعة الفلسطينية منذ الخميس الماضي، أتنقل بين نابلس وطولكرم وبلدتي جيوس.. أيام عشت فيها جماليات خاصة.. ألماً مختلف.. الزيتون يشدني بقوة لتأمله، فكنت أجول بين فيء الزيتون في هذا الموسم الضعيف.. ابتعدت في جولتي عن جمال رام الله وروعتها، فعشت جمالاً روحياً متميزاً.. كنت أريد أن أمدد جولتي أسبوعاً آخر، لولا أن وصلتني دعوة من الفنان التشكيلي منذر جوابرة لمعرض جديد له في قاعة المحطة للفنون في رام الله، فقطعت جولتي لعلي أجد في معرض (مني.. إلي..) ما يعوضني عن اختصار الجولة في خريف شمالنا المحتل.

معرفتي بفن الفنان جوابرة كان سنة (2003) في معرضه الأول (تجريدات لونيه) في قاعة مؤسسة محسن القطان في رام الله، يومها التقيته لأول مرة، همست له: لقد فاجأتني بقوة وجمال معرضك. وفي سنة (2005) وفي قاعة مؤسسة مركز خليل السكاكيني في رام الله أيضاً، حضرت معرضه الشخصي الثاني (بقاء)، فاتصلت به هاتفياً وقلت له: لقد أذهلتني. واليوم كنت في معرضه الشخصي الثالث واسمه الغريب (مني.. إلي..)، فلم أتكلم معه إلا كلمات الاطمئنان عليه، لكني كنت أشعر بشعور غريب؛ كنت أشعر بالدهشة، حتى أني خرجت وجلت دروب رام الله متنشقاً النسمات الغربية الباردة، وفكري لا يتوقف عن التفكير في لوحات الفنان، وبعد جولة وتعب، عانقت نفس نارجيلة في مقهى رام الله، ولم يطل بي الوقت حتى قررت المغادرة لألتقي في بوابة المقهى صديقي الشاعر أحمد يعقوب، الذي ألح عليّ بالجلوس فرفضت، قلت له: حضرت معرضاً تشكيلياً ما زال يشغل تفكيري، فقال: إذا ستذهب لصومعتك وخلوتك لتكتب..

اختلفت لوحات منذر جوابرة في معرضه هذا عما عرفته من أسلوبه في الفن، كنت أقول دوماً إن جوابرة انتقل بين مرحلتين في الفن بينهما رابط قوي في معرضيه السابقين، لكن الآن وجدته في معرضه هذا يخرج تماماً عما كان عليه، خرج لمرحلة جديدة مختلفة، مختلفة بالأسلوب، وبالفكرة، وبالمادة، وبحجم اللوحات، وفي الأسعار أيضاً.

استخدم الفنان في معرضه أسلوب التجريد بشكل كبير، حتى أن أسلوبه كان مدعاة للتساؤل، ومدعاة للدهشة، فهنا كان الترابط بين اللوحات متباعداً، لكن كان هناك خط خفي يربطها مع بعضها، بينما في معارضه السابقة كان الترابط بين اللوحات في كل معرض فكرة متكاملة. كانت لوحاته في معارضه تلك أشبه بالحكاية التي تبدأ من اللوحة الأولى وتترك النهاية مفتوحة في آخر لوحة، لتكمل في المعرض التالي.

هنا خرج منذر جوابره عن الحكاية، ولعل هذا ما جعلني أصاب بالدهشة، فهو خرج عن أسلوبه، أضاف مواد جديدة للوحات كانت نقطة مشتركة في كل اللوحات.. استخدم شعر رأسه ونثره على سطح اللوحات.. تنقل بين المساحات اللونية بطريقة حادة.. بعض اللوحات كان يطغى عليها اللون الأحمر، لينتقل فجأة إلى الأسود، وحيناً إلى الأخضر، وحيناً إلى الأصفر.. تنقل في رحلة اللون بحدة بين الألوان الحارة والألوان الداكنة، وفي بعض اللوحات كانت الألوان الباردة تطغى وكأنها استراحة محارب.

هذا التنقل الحاد وتغير الأسلوب بهذه الحدة، إضافة إلى استخدام شعر الرأس ومزجه من خلال الألوان في اللوحات هو ما أصابني بالدهشة، وفي الوقت نفسه الذي أدهشني منذر بأسلوبه، وجدته هو نفسه مصاباً بالذهول في مرحلة الإعداد والرسم، فهو يقول: "حاولت أن أضع عملي هذا تحت إطار معنون لعمل واحد وفشلت". ويقول أيضاً: "كنت أرسم هنا لأتنفس فقط، كنت على وشك الاختناق، وما استخدمته من تقنيات، هي فذلكة نرجسية"، فلوحاته جميعها بلا  اسم ولا عنوان، وإن كنت لا أعتقد من خلال تأملي اللوحات أن استخدام الشَّعر فذلكة نرجسية كما قال، بل رأيت فيها فكرة فلسفية مرتبطة بالحياة والموت، فالشعر حين الوفاة يبقى طويلاً كما الأظافر، وكأنها الشاهد على مرحلة انتهت، وحين يقترب الإنسان من خريف العمر، يكون الشَّعر في مرحلة التساقط، والرأس يتجه إلى التصحر.

قد تكون أفكار كثيرة قد جالت ذهني أثناء تجوالي في المعرض وفي دروب المدينة، لعل الدهشة التي تملكتني ناتجة عن كم الأسئلة التي راودت روحي وعقلي، فاللجوء إلى تجريد المشاهد بهذا الحجم يطرح سؤالاً، والألوان تطرح أسئلة، والمواد الخام لا تكف عن إثارة السؤال، واللجوء إلى المساحات اللونية المتناقضة يثير ما بداخل المشاهد، تمازج ألوان وانسكاب اللون بين الناعم والنافر، والخطوط المتكررة بقوة، تلك الدوائر الأشبه بفوهات بركانية، الأشكال الغريبة في بعض اللوحات، ورغم وجود المرأة في خفايا التجريد، فكل ما في المعرض يراكم كماً من الأسئلة،  قد يكون الفنان نفسه لا يمتلك الإجابة عليها.