كلارينت
زياد جيوسي
عضو لجنة العلاقات
الدولية في
اتحاد كتاب الانترنت العرب
"كلارينت" اسم لآلة موسيقية جميلة الشكل، عذبة اللحن، تعتمد على النفخ فيها بأنفاس هادئة، فتخرج بانسيابية ألحان ناعمة وهادئة وشجية، تعيدنا إلى همسات الناي، وهذا الاسم الذي جرى اختياره هو اسم لمسرحية، من إخراج أكرم المالكي، وتمثيل الفنان فادي الغول، الذي منح المسرحية طابعاً خاصاً وجميلاً رغم الألم في ثنايا المسرحية.
المسرحية بعض من قصص واقعية عاشها الممثل فادي الغول طفلاً في بيروت أثناء حصارها، عانى فيها من فراق الأم ورحيل الأب مع المقاتلين إلى الشتات بعد توقف المعارك نظرياً، عايش فيها مجزرة صبرا وشاتيلا عند جدته التي بقي عندها، وعاش الطفولة المعذبة في ظل الحرب، حلم بالحب ولم يجد بين الحب والحرب إلا إضافة حرف واحد في اللغة، مع الفارق الكبير بين المفهومين والصورة المتناقضة تماماً بين المفهومين.
لا أعرف ما الذي شدني للمسرحية بهذه القوة، فهي لم تفارق ذاكرتي، وحضرتها مرتين، رغم أنني عايشت أحداثاً كثيرة في حياتي، عايشت معارك منذ طفولتي، ورأيت مئات الجثث في أحداث كثيرة، والذاكرة تحمل الكثير الكثير، بدءاً من حرب حزيران سنة 1967 وتعرض منـزلنا للقصف في مدينة البيرة، مروراً بمعارك غاب فيها العقل، وصولاً إلى اجتياحات رام الله من الاحتلال، وتعرض صومعتي لقذيفتي دبابة انفجرتا بحافتها وأحدثتا من الخراب الكثير، وتعرضي للأسر مرتين في تلك الاجتياحات، قضيت الوقت فيهما مكبل اليدين ومغمى العينين أنتظر رصاصة في كل لحظة، والذاكرة كانت تدور وتستعيد شريط الذكريات.
ربما القصة التي يرويها بطل المسرحية وهو يستعيد ذاكرته طفلاً، ربما تفجر الذاكرة عن أحداث كثيرة بعضها مشابه لما يرويه، ربما لأن حصار بيروت شهد اثنين من إخوتي، الأكبر مني والأصغر، لحظات القلق عليهما وعلى صحبي ومن يحملون راية قضيتي، ربما.. كلمة لو أعدتها عشرات المرات، يمكن في كل مرة أن تشكل سبباً من أسباب انشدادي لهذا العمل المسرحي الجيد والمميز.
المسرحية طرحت تساؤلات عدّة، ولعل أهمها: متى يتوقف الدمار؟ متى تتوقف الحرب؟ متى يحل الحب؟ وتأكد المسرحية على بشاعة الحرب، وقتلها للحياة، وملاحقتها بالبشاعة حتى أرواح الناجين منها، فهي تبحث من خلال أحلام طفل وحديثه عن المعاناة، وعن الوحدة، وغياب الأم وشتات الأب، وعن تشوه الطفولة بالحرب، طفل يجلس مع مقاتل ليدربه على مقاوم للطائرات، طفل يسرق آلة موسيقى كي يتمكن من ممارسة الحياة، وفي ظل الحرب يعزف ويحلم بالحب الطفولي، يحلم بوطن يضمه بحنان وحب، ويحلم بأسرة يعيش فيها كما كل أطفال الدنيا، فيمارس تعلم عزف الموسيقى في ظل القصف وتحت هدير الطائرات، ويصر أن يهرب وهو يحمل الـ"كلارنيت" مع جدته من مخرج خلفي هرباً من مجزرة بشعة تلت الحرب، فتكومت الجثث في الطرقات في صبرا وشاتيلا.
الـ"كلارنيت" رمزت للسلام المنشود، سلام الروح وسلامة الجسد، وفادي الغول روى القصة بإبداع مميز، فهو كما عرفته من خلال مسرح الطفل، والعديد من أعماله التي عرضت في مركز خليل السكاكيني في رام الله، بفترة كنت أتشرف فيها بعضوية إدارة المركز. الموسيقى رمزت للحلم الذي كان يصر أن يحلق رغم كل دوي المدافع، فأبدع الممثل، وكان للمخرج أكرم المالكي قدرات جميلة بالإخراج، لمسها الجمهور كما لمستها، بحيث كانت المسرحية متميزة قصة وتمثيلاً وإخراجاً، موسيقى وأغنيات اعتمدت إبداع مارسيل خليفة، رغم صعوبة توجيه العمل الذي يقوم على جهد ممثل واحد.
ويبقى السؤال: هل تمكنت المسرحية من إيصال الفكرة؟ أعتقد نعم.. فردة فعل الجمهور بالتصفيق الحاد والوقوف تحية في نهاية المسرحية، كانت مؤشراً ايجابياً، والحوارات التي دارت بين الذين حضروا، أعطت مؤشراً ايجابياً آخر، وبالتأكيد فإنه ليس هناك عمل متكامل، هناك بعض الهنّات التي تبخرت بحجم وقوة العمل، منها بعض الملاحظات على الصوت، والإضاءة، لكنها كانت سلبيات مسحتها بقوةٍ الإيجابيات.
انتهت المسرحية كما بدأت بالموسيقى؛ الموسيقى التي مثلت الحلم والفكرة في العمل المسرحي، ورغم إهداء الممثل العمل (إلى روح والدتي أميرة.. مدينتي بيروت)، إلا أن النهاية لم تأت بعد، فالمخرج ترك النهاية مفتوحة، فربما كان مثلنا ما زال ينتظر النهاية، فالحرب لم تتوقف، وما زالت الموسيقى الحلم قاصرة أن تحل مكان المدافع.