تهميش الفن .... وفن التهميش

تهميش الفن .... وفن التهميش

بقلم الخطاط : معصوم محمد خلف *

كثيرة هي الوسائل التي تجعل من التهميش مطلباً جاهلياً وعنصراً نفسانياً تتأرجح ذروته عند الطبقات التي لم تدرك بعد الجوهر الأدبي في معرفة الثقافة ، والجوهر الثقافي في معرفة الأدب، وهذه الفئة مع الأسف الشديد امتلكت مفاتيح الأضواء في التعتيم والإشراق فهو كالمخرج السينمائي الذي بيده دور الإضاءة الساطعة والنور الخافت ، ونظراً لما تتمتع به تلك الفئة من نفوس رخيصة وشعارات مزيفة وفارغة من الإشراقات التي تروي العطش المعرفي ، فهم يتناولون سبل التعتيم والغشاوة بمهارة فائقة ودقة عالية ، وهذه النخب هي التي تجعل من التخلف والانحطاط مشجباً نُعلّقُ عليه أحلامنا الفاشلة التي لم تتحقق ولن تتحقق أبداً .

فالتهميش أضحى علماً له شكل وأسلوب في الممارسة والتطبيق وله منظّرون يرسمون له الخطط والبرامج ويضعون له مجهوداً مادّياً ومعنوياً حتّى غدا فنّاً عند الذين يريدون التسلق على أسطح الفشل ونكران الجميل ، حيث تنطفئ عندهم عزيمة المحاربين ونخوة المجاهدين ووعي المثقفين

وقلم المتنورين ومصباح المستلهمين ، ليقدّموا إلى الانحطاط أُمنيته المعهودة في بذرته الطافحة على أمخاخ رؤوسنا الهشة من العويل ، وإلى التخلف وشاحه الذي لا يهترئ ، وإلى التطرف الأعمى عصاه الحديدية الغليظة التي لا تصدأ .

هذه هي النشرة الموجزة لعصبية قذفت بشباكها على أرض انبسطت لتضم أجناساً وأقواماً تمتدّ جذورها عند ذروة التاريخ لتواكب السير مع أترابها في صناعة المناخ المناسب لثقافة الفن ، حيث تمتزج قوافل الشعوب مجتمعة لتبني الأسس الهادفة لثقافة دافئة تجمع جميع الأطياف في خيمة واحدة هي الوطن .

فكلما ارتقت المجتمعات نحو التطور وبناء منظومات التنمية كان ارتقاؤها في تكريم الإنسان أكثر شمولاً ، والعكس هو الصحيح أيضاً .

وكلما شجعت الدولة أفكار المبدعين ، كلما كان فرص الفوز في حقول الاختراعات أكثر نجاحاً.

ومن هذه البديهيات نستخلص الجوهر الدفين الذي من أجله صارعت العقول المتفتحة أشباح الجهل والتخلف والظلام .

والفن هو الذخيرة التي يقف عندها المرء مصطبغاً برداء الجمال ، حيث يتكامل لديه الرؤية في الدخول إلى عوالم خفية لم تكن في الحسبان ، ونتيجة للحبكة الفنيّة تندرج تلك العوالم لتشكل رافداً آخر يعطي للجوهر الثقافي الصورة الأكثر قرباً إلى الوجدان .

فالفن هو وعاء ثقافة البشرية منذ درجت أقدامها على الأرض ... وبه عبّر الإنسان عن أغوار روحه .. وأشواق قلبه ... وخلجات شعوره ، وسواء كانت أداة الفنان ، أحرف اللغة أو انسياب الصوت ، أو حركة الريشة ،/ من محراب الحرف إلى زغاريد القصب  /فإنه يظل حامل رموز الأمّة في قلبه ... والمعبر عنها عبر أداته .

وقد أظهر لنا تاريخ العلم أن الأفكار والآداب والفنون سبقت العلوم المادية وتقنياتها ، وأن الأدباء جاءوا قبل المخترعين ، وأن قصائد الشعراء سبقت آلات العلماء ، وأن موناليزا دافنشي أضاءت الأنفس قبل أن يضيء مصباح أديسون الطرقات ! !

وقد كان لحضارتنا الإسلاميّة تفرّدها المتألق في تاريخ الفن الإنساني ... وشواهد ذلك شاخصة فيما خلفته من أبنية معمارية فذّة لمساجدها وقصور سلاطينها ، وما احتوته تلك المنارات من روائع فنيّة سواء كانت ، نقوشاً خطيّة على جدرانها ، أو زخارف تحفل بها حواشيها ، أو تحفاً تتيه بجمالها على غيرها ... وقد مهد ذلك الإبداع العربي المسلم لحضارة أوروبا الحديثة وملأ فراغاً هفت إليه النفوس البشرية في شتى مناحي الحياة الإنسانية .

فالفن جزء لايتجزأ من تاريخ الإنسان وثقافته وتراثه ، ذلك ما دلت عليه نشأة الفن مع الإنسان منذ بداية الحياة ، وقد ثبت أن دراسة فن شعب من الشعوب إنما تؤدي على الدوام إلى تكوين فكرة واضحة عن مستواه الحضاري ومدى ما وصل إليه من خبرات وتجارب في شتى جوانب حياته .

فالفنان هو الواجهة الصادقة للتعبير عن عصره ، كونه مكتشف مخابئ الجمال ليكسبها الحس الحركي أمام مسرح المتلقي ، كما توجد فيه ذاتية القلق المتحررة ، ليستوعب تناقضات وقلق العصر ويضعه في مركز التوازن ليكسبها حس العمل الصادق ، فمن تناقضات الحياة تخرج لوحة تمسح عنا ما يعلق بنا من زخم الحياة ، فاللوحة هي العالم الأمثل لصفاء الوجود .

والعمل الفني يثير حالة نفسية المشاهد فيشعر بالفرح أو عكسه بمعنى أنك تقف أمام أحد الأعمال الفنيّة فتصبح عاجزاً عن تفسير الموقف ، ولكنك في النهاية تذهب فرحاً أو مسروراً أو على العكس من ذلك.

كذلك فالفن لا يقتصر على الابتكار والإبداع فحسب ، بل يشمل أيضاً التذوق والمشاركة ليحقق التكامل والتقارب الثقافي والاجتماعي والفني بين الشعوب وليسهم في دعم القيم والمثل والعلاقات الإنسانية وليثري الإنتاج الأدبي والفكري والفني .

فالمجتمع المتطلع إلى الإبداع هو المجتمع الذي قطع أشواطاً بعيدة في مضمار عطاء المبدعين ، وكون المبدع نواة ً في المجتمع حيث استطال بفضل جهود غير عادية نمت وترعرعت وسط تلافيف من الانبهار والترقب مصطحباً في ذلك كله مفردات اجتمعت على مائدة واحدة هي لفت أنظار الجانب الآخر وهو المتلقي الذي يقع على عاتقه استلام بادرة فصل الخطاب .

من هنا يتضح لدينا أن المبدع يقوم بصياغة تراث أُمة مما يؤهله في حمل رسالة نبيلة تختزل المصطلحات والهوامش الرسميّة لتكوّن مَعْلماً جديراً بالتقدير والتكريم .  

ومن خلال الانتماء إلى هذا الوطن العزيز يجب علينا ألاّ نجعل من السكوت حلاً لجميع مشكلاتنا فهذه هي الغاية التي من أجلها ترسخت أقوال قادتنا ومفكرينا في أذهاننا لنجعل من منهلهم سبيلاً في إقحام بذرة الشر لئلا تنمو فوق تربتنا المعطاءة بالخير والنماء ، ولكي يتأصل في روحنا الأبية معنى الفن والثقافة ، يجب علينا أن نكرّم المبدعين ونسقي تربة الإبداع بجميع ألوان الطيف الثقافي  وبالشكر  والتشجيع وزرع العنفوان والشموخ في مسيرة الذين ينفقون معظم أوقاتهم لتقديم شيء جميل ونافع إلى المجتمع ،لأن وراء هؤلاء المبدعين تكمن طبقات متنوعة وشرائح عديدة تنتمي جميعها إلى هذا الوطن ، فإذا أُغفل المبدعون من الاهتمام  ووضعوا في قناطر التهميش فإن الأطياف التي تخالطهم لهم ما عليهم وبذلك تتحقق للجهل غايته المنشودة في تكديس الأغلال وتلميع الأقفال .

لذلك فإن لهؤلاء سلبيات كالجبال الراسيات تقصم به ظهر الوطن ، فليس لهم نفع ولا فائدة إذا كانت رسالتهم في الحياة تختصر بكلمة التهميش ، كما إنهم ينهكون العباد والبلاد بأشياء لايمكن لها أن تعود بالنفع إلى المجتمع ، كونهم سوداويين وينظرون نظرة عوراء في كل ما هو جميل ونافع

فالروح المستلهمة والمعطاءة لا يمكن لها أن تنفعل وتتفاعل مع أولئك الصنف من البشر كون الآفاق التي ينظرون إليها شاسعة وواسعة فلا يمكن لتلك النفوس الضعيفة أن تتعايش مع ذلك النهج ، إلا إذا أُفرغت بطانتها من الأفكار الهشة التي عصفت برؤيتها لتسير جنباً إلى جنب في مواصلة العمل و مواكبة التطور والتنمية والازدهار. 

              

* الجمهورية العربية السورية . الحسكة