ظاهرة غياب المنشدين المصريين(2)
ظاهرة غياب المنشدين المصريين
( 2 من 2 )
نجدت لاطـة
حقاً إن الواحد منا ليتعجب كيف غابت مصر ( أم الدنيا ) عن النشـيد الإسلامي ؟ فمصر معطاءة في كل العلوم والآداب والفنون ، فلماذا توقف عطاء مصر في النشيد الإسلامي ؟ ألا يستدعي ذلك منا أن نتساءل عن أسباب الغياب ؟ ألا ينبغي أن نتصارح فلا نعذر أنفسنا إن تبدى لنا تقصير الإخوة المصريين ؟ أم أن المجاملة هي التي تحكم العمل الإسلامي ؟ على أية حال لقد علمنا الإسلام أن نقول الحق ولا نخشى في الله لومة لائم ، ولو كان هذا اللائم من إخواننا ، فالحق أحق أن يقال .
في البداية لا بد أن نذكر أن الإسلاميين في مصر كانوا يعيشون في زمن الخمسينيات والستينيات محناً وابتلاءات ، والعمل الإسلامي كان معذوراً إذ لم يقدم شيئاً في جانب الفنون أو فـي غيرها . لأن قيادات العمل الإسلامي وأفراده كانوا ما بين سجين ومطارد وشهيد .
ولكن المحنة انتهيت بموت عبد الناصر في عام 1970 ، وخرجت القيادات الإسلامية مع أفرادها من السجون لتجد أبواب الحرية مفتوحة على مصراعيها ، بحيث أصبح خطيب الجمعة ( كالشيخ كشك مثلاً ) ينتقد الحكومات والزعامات العربية علناً وبشكل صريح دون أدنى مواربة ودون أدنى رقابة . وعادت أنشطة العمل الإسلامي بشكل لم تكن تحلم به تلك القيادات . لذا أرجو أن نبعد هذا المبرر لغياب النشيد في مصر ، لأنه لا أصل له .
وأنا في مقالي سأتحدث عن غياب النشيد ليس منذ فترة عام 1970 فقط وإنما منذ فترة نشوء جماعة الإخوان المسلمين عام 1928 . لأن فترة العشرينيات والثلاثينيات كانت فترة مزدهرة بالفنون الغنائية ، فقد كان فيها سيد درويش وبدايات أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب ..
والعمل الإسلامي في مصر منذ عام 1970 وإلى اليوم كان وما يزال في حالة طبيعية ، ولا يوجد أي تضييق على أي نشاط تقوم به الحركات الإسلامية .
إذاً فلماذا غاب النشيد عن أنشطة العمل الإسلامي ؟ أليس النشيد بديلاً رائعاً للأغاني التي لعبت دوراً خطيراً في مسخ أخلاق الأجيال السابقة واللاحقة ؟
حقاً إن غياب النشيد في مصر يشكل إشكالية تحتاج إلى دراسة أعمق من هذه الأسطر التي أكتبها في هذا المقال ، بل إن هذا يدعوني إلى كتابة دراسة واسعة وشاملة حول ( مراجعات في العمل الإسلامي الخاص بالفنون ) لنحاول من خلال هذه الدراسة أن نتعرف على نقاط التقصير في العمل الإسلامي السابق . وتشمل الدراسة مصر وغير مصر ، فهناك دولاً أخرى غاب عنها النشيد الإسلامي كالسودان وتركيا وباكستان . وتشمل الدراسة أيضاً الفنون الأخرى غير النشيد كالمسرح والسينما ، لأنه يوجد أيضاً استفهام كبير عن غيابهما . وأقول وبكل صراحة لقد فشل العمل الإسلامي في العقود السابقة في استقطاب الجماهير ، ويعود السبب ـ برأيي ـ إلى غياب الفنون الإسلامية عن ساحة الجماهير . وزاد الطين بلة أننا اليوم لا نجد فضائية إسلامية معتبرة ، وبالنسبة إلى قناتي ( اقرأ ، المجد ) فهما قناتان خاصتان بخطب الجمعة والمحاضرات والفتاوى ، ولا تصلحان أن تكونا ملاذاً كاملاً وشاملاً للأسرة المسلمة .
نأتي إلى إشكالية غياب النشيد عن العمل الإسلامي في مصر ...
أولاً ـ كما هو معروف أن في مصر بيئة فنية عالية المستوى ، هذه البيئة هي التي خرّجت عمالقة الغناء العربي . ولكن هذه البيئة الفنية ليست مختصة بالمطربين فقط ، وإنما هي كذلك مختصة بالمنشدين الدينيين . بل إن البيئة الفنية الخاصة بالمنشدين الدينيين كانت أرقى وأعلى مستوى من بيئة المطربين ، وسيد درويش وأم كلثوم تخرجا من بيئة المنشدين الدينيين ، وسيد درويش كان في البداية مؤذناً وليس مطرباً ، وأم كلثوم كانت تحيي بإنشادها المناسبات الدينية . وفيما يخص الدراسة في جامعة الأزهر فقد كان من ضمن المواد الدراسية دراسة المقامات والألحان..
فبيئة المنشدين الدينيين كانت بيئة رائعة ومناسبة جداً لانطلاقة حركة النشيد الإسلامي في مصر . وهذا ما حصل في سوريا ، فقد تخرّج المنشدون ( أبو مازن ، أبو الجود ، أبو دجانة ، الترمذي ) من بيئة المنشدين الدينيين في حلب ودمشق .
وأنا لا أدري لماذا غاب عن الإمام حسن البنا قضية النشيد الإسلامي ، لأنه لو اهتمت الحركة الإسلامية في مصر بالنشيد الإسلامي منذ زمن الإمام حسن البنا لكان المنشدون اليوم أعلى مستوى من المطربين .
ثانياً ـ لنفرض أن فكرة النشيد الإسلامي لم تخطر في بال القائمين على العمل الإسلامي في مصر ، ولكن حين نشأت فرق الإنشاد في سوريا ، وكان ذلك في 1970 تقريباً ، ولقيت هذه الفرق إقبالاً كبيراً من جمهور الإسلاميين ، ولاقت نجاحاً رائعاً . فكان على المصريين أن يتنبهوا إلى تقصيرهم في هذا الجانب فيعملوا على تلافي هذا التقصير ، ويشاركوا إخوانهم السوريين في إثراء حركة النشيد الإسلامي . ولكن هذا لم يحدث ، فكان ذلك مأخذاً كبيراً على العمل الإسلامي في مصر .
ثالثاً ـ لنفرض أن الإسلاميين في مصر تنبهوا لأهمية النشيد في العمل الإسلامي ، ولكن لم يجدوا في مصر من يدربهم على الإنشاد لسبب من الأسباب . فلماذا لم يتجشموا عناء السفر إلى سوريا وإلى مدينة حلب لتعلم فن الإنشاد . لأن الموسيقار سيد درويش كان قد فعل ذلك مرتين من أجل أن يتعلم فن الإنشاد الديني وفن الغناء . فقد زار سيد درويش مدينة حلب مرتين وعاش فيها سنة تقريباً ، وهناك تعلم على أيدي المنشدين الدينيين فنون الإنشاد والمقامات والقدود الحلبية وغير ذلك . فماذا لم يفعل الإسلاميون ما فعله سيد درويش ؟ هل كان سيد درويش حريصاً على الغناء أكثر من حرص الإسلاميين المصريين على الإنشاد الإسلامي ؟
ألا يستدعي ذلك من الإسلاميين المصريين أن يراجعوا أنفسهم في قضية الفنون ويتلافوا هذا التقصير الكبير ؟
وقد يعترض علي معترض فيقول : لقد تنبه أخيراً الإخوة المصريون لأهمية النشيد الإسلامي في العمل الإسلامي ، وظهر منهم المنشدون والفرق الإنشادية ، فلماذا تأتي أنت وتنبش في الماضي ؟ فأقول : إن النشيد في مصر اليوم ما زال ليس كما ينبغي ، والمستوى الفني للمنشدين المصريين لا يليق بمكانة مصر . والمنشدون المصريون لا يشاركون ـ كبقية المنشدين في الدول الأخرى ـ في المهرجانات الإنشادية التي تقام هنا وهناك في شتى البلاد العربية والأجنبية .. وإنما هم متقوقعون في داخل مصر ، وهذا التقوقع ليس لأنهم لا يحبذون المشاركة في تلك المهرجانات ، وإنما لأن المستوى الفني للمنشدين المصريين لا يغري أصحاب المهرجانات لاستدعائهم .. أي أن مستواهم ضعيف . بمعنى آخر أن التقصير في النشيد الإسلامي ما زال قائماً في العمل الإسلامي في مصر ، وهذا يتطلب منهم أن يعملوا على تجاوز هذا التقصير .
وشيء آخر .. ألا يرى الإخوة المصريون تطور النشيد في منطقة الخليج وفي بلاد المغرب ، بل وحتى في بريطانيا وسامي يوسف .. فلماذا هم غافلون عن ذلك ؟
أنا أشعر أن هناك خلل كبيراً في منهج الإسلاميين في مصر ، أي أن القيادات الإسلامية ما تزال تجهل أهمية النشيد في العمل الإسلامي .. وهذا يتطلب من جيل الشباب في مصر أن ينبهوا القيادات الكبيرة لأهمية النشيد ، كي يفسحوا لهم المجال في ذلك . وفي حال لم يستوعب الكبار أهمية النشيد ( لأنهم دقة قديمة مثلاً ) فلماذا لا يعمل جيل الشباب من الإسلاميين على تطوير النشيد من تلقاء أنفسهم دون الحاجة إلى انتظار الإذن من القيادات العليا ؟ والرسول عليه الصلاة والسلام يقول : نُصرت بالشباب .
المقال بحاجة إلى بعض الأفكار الأخرى التي لم تتوارد على ذهني الآن .. سأكتفي بذلك الآن ، وسأحاول أن أكمل الحديث في جزء ثالث ، ولكن فيما بعد .