ظاهرة غياب المنشدين الروّاد

( أبو مازن ، أبو الجود ، أبو دجانة )

نجدت لاطـة

[email protected]

      تمهيد :

تُعد ظاهرة غياب المنشدين الرواد من أعجب الظواهر في حركة النشيد الإسلامي المعاصر ، والواحد منا يزداد عجباً حين لا يرى أحداً يتساءل عن هذا الغياب ، لا من الذين هم قريبون من هؤلاء المنشدين ( وأعني الإسلاميين السوريين ) ولا من البعيدين في الدول الأخرى . فإذا كان القريبون لديهم العذر في عدم السؤال باعتبارهم أنهم يعلمون أسباب الغياب ، فما عذر البعيدين الذين لا يعلمون شيئاً عن أسباب الغياب ؟ ألا يهمهم أمر غيابهم ؟

وعدم التساؤل عن هذا الغياب له دلائل كثيرة ملخصها أن الإسلاميين ـ أفراداً كانوا أم قادة ـ لا يلقون بالاً لأهمية النشيد في العمل الإسلامي ، وإلا فهل يُعقل أن يغيب هؤلاء المنشدون الرواد العمالقة عن ساحة النشيد ثم لا يتساءل أحد عنهم ؟ وخصوصاً أن النشيد ـ في زمن غيابهم ـ كان في حاجة ماسة إليهم ، لأنه لم يكن هناك منشدون غيرهم إطلاقاً .

على أية حال ، المنشدون ـ في رأي بعض الإسلاميين ـ هم مجموعة من المطبلين والمزمّرين ، وهل يُعقل أن يتساءل الناس عن غياب مطبل أو مزمّر ؟

وقد كان غياب المنشد أبي مازن في عام 1970 ، حيث أصدر تسعة أشرطة ما بين عام 1968 إلى عام 1970 ، ثم عاد مؤخراً في شهر شباط 2005 ، وأصدر الشريط العاشر من سلسلته المعروفة .

وكان غياب المنشد أبي الجود في عام 1980 ، حيث أصدر ثمانية أشرطة ما بين 1978 وعام 1980 تقريباً . ثم عاد قبل سنتين وأصدر بعض الأشرطة التي لم تكن جودتها الفنية بنفس جودة أشرطته القديمة . 

ثم كان غياب المنشد أبي دجانة في عام 1981 تقريباً ، حيث أصدر أربعة أشرطة ما بين عام 1979 وعام 1981 . وما زال غيابه مستمراً ، وقد تحدثت معه مراراً من أجل العودة للنشـيد ، وكذلك تحدث معه آخرون ، ولكن دون جدوى .

ولا بدّ من القول بأن غياب المنشدَين ( أبو الجود وأبو دجانة ) لم يكن كاملا ً ، فقد كان أبو الجود ينشد فـي الموالد والمناسبات الدينية في المساجد ،  وكان أبو دجانة ينشد في بعض الأعراس والحفلات الخاصة جداً . أما أبو مازن فقد كان غائباً تماماً ، بل إن الكثيرين كانوا يظنون أنه فـي عداد الشهداء .

والغياب الطويل يعني أن مرحلة الشباب انتهت من حياة هؤلاء المنشدين ، وحلاوة أصواتهم ذهبت ولم يعد لها البريق الذي كان لها فـي مرحلة الشباب ، أي أن النشيد الإسلامي خسر خسارة كبيرة في غيابهم .

ظاهرة الغياب 

لا يخفى على الكثيرين أن الغياب المفاجئ للمنشدين الرواد كان لأسباب أمنية ، ولا داعي لذكرها هنا ، ولا يلومهم أحد على ذلك . ولكن استمرار هذا الغياب خلق تساؤلات كثيرة ، فأبو مازن غاب خمساً وثلاثين سنة ، وأبو الجود غاب ثلاثاً وعشرين سنة ، وأبو دجانة غاب خمساً وعشرين سنة وما زال غيابه مستمراً . فهل ما زالت الأسباب الأمنية قائمة ؟ طبعاً لا ، بل الأسباب الأمنية انتهت منذ زمن بعيد جداً . فأبو مازن ذكر في مقابلة له أن الأسباب الأمنية انتهت في منتصف الثمانينيات . أي أنه كان من الممكن جداً العودة إلى النشيد ، لا سيما أنه يعيش في مصر ، وهناك نوع من الحرية في الإنشاد ، ولكن مع ذلك لم يرجع إلى الإنشاد إلا قبل شهر فقط . 

وأبو الجود كان من الممكن أن يعود إلـى الإنشاد بعد سنوات فقط من غيابه ، لأن الأمور في بلده تغيرت، ومع ذلك لم يرجع إلى الإنشاد إلا مؤخراً .

وأبو دجانة كذلك توقفت الأعذار الأمنية عنده ، ويمكن أن نقول إنها توقفت بعد عشر سنوات من غيابه ، ومع ذلك لم يرجع إلى الآن .

ونحن نعلم أن إنشاد الأناشيد الجهادية هو السبب في توقفهم وغيابهم عن النشيد ، ولكن ألا يحق لنا أن نتساءل : لماذا لم ينتقلوا إلى الموضوعات الأخرى ذات الطابع الروحاني أو المدائح النبوية أو الإنساني أو الغزلي أو أي شيء آخر سوى الموضوعات الجهادية ؟ فأنا لا أدري سبب تشددهم في استمرار الغياب.وقبل سنوات سألت أحد هؤلاء المنشدين الروّاد الثلاثة عن سبب الغياب عن الإنشاد فقال لي : ( لقد أنشدنا أناشيد تهز الجبال ولكن لم نرَ أثراً لهذه الأناشيد في الأجيال ، لذا آثرت الاعتزال ، لأنه من غير المعقول أن ننشد ونتعرّض للأذى بسبب هذا الإنشاد ثم لا نجد أثراً لهذا الإنشاد في الأجيال ) . وهو يقصد أن الإسلاميين لم يصلوا إلى النصر أو إلى المجتمع الإسلامي المنشود الذي ضحوا من أجله وبذلوا الغالي والنفيس ، والاغتراب القاتل كان أقل هذه التضحيات.

إني أتساءل : لماذا لم يدرك هؤلاء المنشدين أهمية الإنشاد في العمل الإسلامي ؟ وهل كانوا يدركون أن غيابهم سيؤدي إلى ضربة قاصمة للجهاد الفني.

فالفنون بعامة وفن النشيد بخاصة هي أهم الوسائل الإعلامية المعاصرة . وهو ليسوا مجموعة من المطبلين والمزمّرين ليس أكثر .

كيف غاب عنهم أنهم على ثغرة مهمة جداً من ثغر الإسلام في العصر الحديث ، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصانا بأن لا يؤتى الإسلام من قبل أحدنا . أليست هذه جزءاً من تعاليم ديننا الحنيف ؟

ألم يكن شعر حسان بن ثابت رضي الله عنه أشد على المشركين من سيوف الصحابة ؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لحسان : لهجاؤك أشد عليهم من وقع النبل . وفي حديث آخر قال له : اهجهم وروح القدس معك . فالنشيد جهاد بالكلمة واللحن ، ولكن من يدرك ذلك من منشدينا ؟

وفي الختام

يطيب لي أن أدعو منشدينا الكبار: أبا مازن، وأبا الجود، وأبا دجانة، إلى العودة إلى الساحة من جديد، فميدانهم ما يزال ينتظرهم، وكلُّ من جاء بعدهم، يستمدّ منهم، فهم الرواد وهم المعلمون، وما ينبغي للرائد أن يتخلى عن مهمته، مهما تكن الظروف.

إنني أهيب بهم أن يعودوا إلى أداء رسالتهم، فالميدان ينتظرهم، ليقوموا بأدوارهم، ليستأنفوا مسيرتهم، مكانهم فراغ، ولن يملأه سواهم، فالله الله لا يؤتين الإسلام من قبلكم.