الخط العربي
الخط العربي
في "بورصة" العاصمة الأولى
للخلافة الإسلامية التركية
د.عثمان قدري مكانسي
كل منا يحب الجمال ، ويستهويه كل ما يمت إلى الجمال بصلة .وما حولنا من كل الجهات جمال يدل على جمال الأصل ، وروعته ، وأقصد بالأصل خالقَ الوجود ، وبارئ َالأكوان إلهَنا سبحانه وتعالى
وهو - سبحانه - فطرنا على البحث عن كل ما ترتاح النفس إليه والتلذذ بالنظر إليه ، والتمتع به ، فالقلب يعشق كل جميل ويسعى إليه ، فإذا ما حازه وتملّكه عاد إليه مرات ومرات يعيش في أجوائه فينسى بعض أساه ، أو يشحن نفسه بما يدفعها للاستمرار في درب الحياة ذات التقاطعات المختلفة الآثار المتعددة النًّدب .
زرت تركيا مرات عديدة ، وهي بحق أم الدنيا ، ومدينة إستامبول عاصمة الخلافة الإسلامية وموطن الحضارة ، والمدافعة عن المجد الإسلامي أربعة قرون أو أكثر .فيها من شواهد العظمة ما فيها ، ولا أزال أذكر أنني أمضيت شهراً كاملاً اتجول في معالمها الرائعة ، فلم أستكمل منها إلا النزر اليسير .
وزرت عاصمة الخلافة الأولى " مدينة بورصة " في الجزء الجنوبي من بحر مرمرة جنوب المدينة الساحلية " يلوا " فبهرني بساطتها ، وعظمتها بآن واحد فهي قائمة على منبسط إلى جانب سفح جبل شاهق ، فجمعت بين السهل الممتنع والجهاد البطولي والتديّن الفطري .
مما أسرني جماله وتنظيمه جامعها القديم " أولو جامع " فهو تحفة معمارية إلى جانبه سوق قديم مسقوف ذو طوابق متعددة .والجامع نفسه يستهويك من أول نظرة . فإذا ما دخلته واجهتك بركة صافية رفراقة مرتفعة عن أرض المسجد قليلاً مرصوفة بالبورسلان ذي اللون السماوي الذي يوحي بالصفاء والنقاء ، على جوانبها صنابير الماء المعدة للوضوء . فلا تملك إلا أن تسبح - روحاً - في مياهها ، وتغتسل نفساً قبل الوضوء بمائها . فإذا ما توضّأت منها وتجاوزتها ناحية المحراب رأيت مصطبة كبيرة يجلس عليها القراء وطلبة العلم ، فإذا ما دنت أوقات الصلاة احتلها المؤذنون الخمسة يؤدون الموشحات الدينية باللغة التركية واللحن القريب من اللحن العربي ، فإذا ما دخل وقت الأذان سمعتهم يؤذنون جميعاً بمقام " السيكاه " الذي يتجنبه العديد من المنشدين لصعوبة الأذان به . فتطير معهم في أعالي السماء طرباً وانتشاءً ، وتجد أحد المصلين ينثر ماء الورد في أجواء المسجد ، فيعبق المكان بطيب الرائحة وطيب النغم وطيب الأداء وطيب الأجواء .
انتهت صلاة الجمعة فلفت نظري اثنا عشر عموداً يقوم بناء الجامع عليها ، وهي مربعة الأطراف ذاهبة الطول ، عرض كل وجه من وجوهها الأربعة أكثر من متر ، فإذا ضربتَ أربعة وجوه باثني عشر عموداً ، فهذا يعني أنك ستقف أمام وجه كل عمود خمس دقائق تستمتع باسم أو اسمين من أسماء الله الحسنى يملآن هذا الوجه بخط جميل متناسق يدل على عظمة الخطاطين الأتراك الذين تفننوا بكتابة أسماء الله الحسنى على هذه العمدان فأخذوا بألبابنا وأعجبنا بخطوطهم الرائعة الرائقة . قلت لصاحبي أرجو أن تدعني في هذه الروضة الغناء أعيش الجمال البشري المتألق وأتنسم أريجه المعطار .
أما الجدران فهي آية أخرى من آيات الفن الرفيع وقد أرسلت بعضها في رسالتي هذه إليكم. منها قوله تعالى " من كل فج عميق " فترى بطن النون واللام والجيم والقاف واحدة ، وتجد سورة الناس وردة يحوطها حرف السين ، وترى حرف الواو سياجَ سورةِالشمس ... وهكذا ، ولعلي أثبت في قابل الأيام ما صورته من أسماء الله الحسنى على عمدان هذا المسجد الشريف إن شاء الله تعالى
مضى الوقت بين صلاة الجمعة وصلاة العصر سريعاً ، فلم أنتبه إلا والمؤذن يعلن وحدانية الله سبحانه وتعالى ، فتردد القلوب والألسنة والعقول معه : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله