الفنّانة تارا جاف
الفنّاناتُ الكرديات شموعٌ احترقتْ لتنيرَ دروب الفنّ الكرديّ
الشّمعة العاشرة
الفنّانة تارا جاف (1958م....(Tara Caf )
نارين عمر
(يرث الفنّان فنّه إمّا من محيطه أو من غريزته. الفنّانة العراقية الكردية تارا جاف ورثت فنها من المنبعين)*(1)
أحببتُ أن أبدأ بهذه العبارة القيّمة للكاتب الأستاذ خالد القشطيني لتكون خير بدايةٍ للولوج معاً إلى عالم الفنّانة الكرديةِ الموهوبة تارا جاف, التي سلكتْ سبيل الفنّ والغناء بواسطةِ آلةٍ قلّما يعزفُ عليها الفنّان الرّجل, فكيف لامرأةٍ فنّانةٍ من حملها والعزف على أوتارها؟!
حياتها الاجتماعية:
ولدت الفنّانة تارا في مدينة بغداد عام 1958م, ولكنّ أصل عائلتها من مدينةِ حلبجة الشّهيدة, لذلك نما عشق هذه المدينة في حسّها وفكرها مع ولادتها الأولى ولم تستطع المسافات البعيدة التي تفصل بينها وبين منشأ ولادتها أن تنسّيها عشق حلبجة وأهل حلبجة, لذلك تتردّدُ إليها بين الحين والحين كلّما سنحت لها فرصة الّلقاء كما وغنّتْ لها بصوتها العذب وعلى أوتار قيثارتها أغنية مؤثّرة.
ولدتْ تارا لأبٍ كرديّ اسمه جلال جاف, وكان يلقّب بالباشا, وكان يعمل في السّلك الدّبلوماسيّ العراقيّ, ولأمّ تركمانية, لذلك كانت لغة التّخاطب فيما بين أفراد العائلة هي التّركمانية, فأمّها علّمتهم التّركمانية, ويُقال إنّ لغتها الكردية كانت ركيكة ولكنّها تحسّنت فيما بعد نتيجة رغبتها الكبيرة في تعلّم لغةِ أبيها, وعلى الرّغم من أنّها عراقية المنشأ كونها ولدت في بغداد إلا أنّ لغتها العربية كذلك كانت ركيكة.
هاجرتْ مع عائلتها إلى بريطانيا في عام 1976م وسكنوا لندن, ولا زالت حتى الآن تعيشُ في لندن على الرّغم من رحيل والديها عن هذه الدّنيا, وتقومُ بعملٍ إنسانيّ نبيلٍ من خلال عزفها على القيثارةِ للمرضى لتخفّفَ من وتيرة الضّغوط النّفسية والجسدية عليهم, وتؤكّدُ أنّها سعيدةٌ جدّاً بعملها النّبيل هذا.وهي أمّ لابن يعيشُ ربيعَ شبابه.
تارا جاف عازفة القيثارة (الهارب):
يقول الكاتب خالد القشطيني:
(... ما أن تخرّجت من المدرسة الابتدائية حتى انضمت إلى مدرسة الموسيقا في بغداد, وبدأت مسيرتها التي نمت ونضجت بعد استقرارها في بريطانيا. وكما يحدث للكثير من المغتربين، بدأت في غربتها تستوحي تراثها الشّعبي بما في ذلك الضّرب على آلة الساز الكردية, وساعدها على ذلك اتصالها بالمهاجرين والمشرّدين الأكراد. ولكنّها سرعان ما اهتدت في بلد الانجليز إلى آلة الهارب التقليدية التي شاعت بصورة خاصة في ويلز وايرلندا. افتتنت بها ووجدتها آلة أكثر جاذبية للمرأة وطواعية للغناء التراثي الفولكلوري، وهو ما شغفها في دنيا الموسيقى). * (2)
نشأت تارا في جوّ عائليّ مفعمٍ بحبّ الموسيقا والطّرب وخاصة الكلاسيكية منها, جوّ مليءٍ بالاسطوانات الغنائية التي تحتوي على أصوات الكثير من الفنّانين وعلى مقطوعاتٍ غنائية قديمةٍ وحديثة وعلى مقاماتٍ موسيقيةٍ وبلغاتٍ عديدة (الكردية, التّركمانية, العربية, الانكليزية...) ونشأت على همساتِ التشجيع من أبويها على الاستماع إلى الموسيقا والاستمتاع بها, وهكذا نمت هذه الابنة وكبرت, وفي ذلك تقول تارا:
((اهتمّ أبي وأمّي كثيراً بأختي الأكبر منّي ، ولاحقاً درستْ أختي آلة ( البيانو)
بشكل أكاديمي ، وتحوّلت فيما بعد إلى عازفة بيانو جيّدة، بالرّغم من أنّها اليوم
وبسبب زواجها وأطفالها لم تعد كما في السابق...)) * (3) أمّا عن قصّتها مع هذه
الآلة تقول تارا:
((في رحلة مدرسية إلى المتحف العراقي، فجأة التصقت عيناي وتسمرت وانا صبية صغيرة،
بالقيثارة إذ سحرتني واستولت على مخليتي. رحت ادور خلف قاعدة عرضها وكانني ادور في
عوالم سحرية لم افهمها. كنت اعرف الموسيقى اذ تربيت على حب الموسيقى الكلاسيكية
الغربية بحكم عمل ابي في الخارجية العراقية وتجواله بين عواصم موسيقية اوربية حيث
الفن متاح ومباح واصرار امي وابي على ان نتعلم الموسيقى كجزء اساسي من ثقافتنا
العامة. منذ تلك اللحظة ظلت القيثارة في اعماق قلبي مختزنة في كياني...))* (4), ثم
تضيف قائلة:
((القيثارة ولدت من رحم آلة الحرب والقنص والصيد من القوس والنشاب. لنتصور ان
انسانا مرهفا عاش تقاليد الصيد والقنص والحروب وفي اعماقه حبا للهرب من سفك الدماء
والقتل، فلم يجد امامه وهو المحبط غير ان يشد ويرخي وتر القوس، وحينها ولدت نغمات
ممزوجة بمتعة صوفية، وتكررت المحاولة لتشذيب وشد وارخاء الوتر، فخرجت نغمات انيقة
لبقة تتحدث عن الهامات روحه))* (5),على الرّغم من أنّها حاولت تعلّم العزف على
آلاتٍ وتريةٍ أخرى مثل والماندولين والجرانكو الشيلية والبزق الكردي إلا أنّ
القيثارة (الهارب) استطاعت أن تستحوذ على جلّ حبّها وعطفها وولعها.
اتقانُ تارا لعدّةِ لغاتٍ –كما أسلفنا قبل قليل- كان له تأثيرٌ كبيرٌ على عزفها
وغنائها:
((ان اتقانها للتركمانية (والتركية) لغة امها، والكردية لغة والدها، والعربية لغة
بلادها، بالاضافة الى الانجليزية اللغة التي يتخاطب بها افراد العائلة في كثير من
الاحيان بحكم اقامتهم في الخارج، كل ذلك هيأ لتارا الجاف جوا ثقافيا تتتزاوج فيه
لغات و ثقافات حضارات متنوعة. كانت دائمة الاستماع الى موسيقى متعددة الاصول
ومختلفة الايقاعات ولكنها تجزي الالهامات وتغذيها)). * (6)
الموسيقا بالنّسبة إليها هي الحياة ذاتها بكلّ أفراحها وأتراحها, بكلّ مباهجها ومفاتنها وأوجاعها ومساوئها, وآلة القيثارة هي الصّديقة الأكثر إخلاصاً ووفاء لها في خضّم كلّ الظّروف التي مرّتْ بها, وهي التي عايشت كلّ تقلّباتِ الحياةِ وتغيّراتها:
(( تتيقن تارا ان الموسيقى هي ما ترغبه حقا وما تسعى اليه، وعليها تذليل كل العقبات لتسمو بروحها في عوالم النغمات المبدعة. تبقى القيثارة السومرية في البال تتيه ضائعة بين الممكن والمتوفر)).* (7)
تارا جاف تركت الدّراسة الأكاديمية للموسيقا, وبدأت تعتمدُ على نفسها وعلى ملكاتها الذاتيّة في تعلّم الموسيقا وخصوصاً آلة القيثارة, وتؤكّدُ أنّ خالها تركَ تأثيراً كبيراً على عزفها وغنائها لنستمع إليها وهي تعبّر عن ذلك:*(8)
((بعد ان تخلصت من فكرة التعلم الاكاديمي ، كنا في عطل الصيف نذهب الى أقارب أمي في ( استنبول )،لأن أمي في الاصل من ( التتر) وأبي من عشيرة ( جاف ) من مدينة (حلبجة )... حيث كان يوجد هنالك خال لي اسمه ( نديم دميرلي) وكان يمتلك قاعة لتعليم الموسيقا ، وخالي يعيش في مدينة ( انتاليا ) الان . حينها كنت انظر الى أيادي اولئك الطلاب الذين كانوا يأتون لتعلم آلة ( الكيتار ) . ومرة قلت لخالي : أنا أيضاً أحب أن اتعلم العزف على آلة ( الكيتار ) .
فأجاب : لكن أنتِ هنا لفترة مؤقتة ، ويصعب عليكِ تعلم الموسيقا في هذه الفترة القصيرة ، لذلك ساعلمكِ طريقة تستطيعين من خلالها أن تعلمي نفسكِ بنفسكِ)) . علمني خالي استخدام اليد اليمنى في العزف بالاصابع وبدون استخدام ( الريشة ) ، والمعروف بأسلوب ( فلامينكو ).وفي هذا الاسلوب عليك استخدام اصابع يدك اليمنى جميعها ، وخالي بالأضافة الى الدروس الموسيقية كان يعزف مع الفنانين على آلة ( الكيتار).
بالنسبة لآلة ( القيثارة – الهارب ) التي يعزف عليها اليوم ، فهو لم يدرسها بشكل اكاديمي ، لكنه علم نفسهُ بنفسهُ . فقد حصل على ( 10 -15 ) درس على آلة (القيثارة ) ،والبقية نتيجة جهودهُ الشخصية )) .
((في اول الشباب تهجر تارا بلادها وبغدادها العزيزة، لترحل الى اوربا حيث التنوع الموسيقى وموسيقى الشباب. هناك تنغمر في الموجات الشبابية حيث تستمع الى بوب ديلون وغيره وتعزف مع فرق من حضارات متعددة. بجهد فردي تتابع تدريباتها الموسيقية على آلات جديدة لتزداد معرفتها الموسيقية غنا وتألقا)).*(9)
تارا تغنّي بالّلهجة الهورامية (الهورمانية) التي تعدّ إحدى الّلهجاتِ الكرديّة المحبّبة, وتؤكّدُ أنّ والدها هو مَنْ شجّعها على الغناء بهذه الّلهجة, حتى أتقنتها وأحبتها وتمكّنت من خلالها إبراز ذاتها كفنّانةٍ متميّزةٍ, وكعازفةٍ ماهرة على الرّغم من أنّ هذه الّلهجة حتى الآن يكادُ يقتصرُ الغناءُ بها على الرّجال فقط, وخاصة الفلاحين والمقاتلين الذين يؤدّونها بحناجرهم الخشنة ومن دون موسيقى, فاستطاعت أن تجعلها ترضخُ لحنجرتها الرّقيقة, على الرّغم من أنّنا كنّا نتمنّى أن تتعلّمَ الّلهجات الكردية الأخرى وخاصة الكرمانجية ِ منها لنستمتعَ بكلماتها الشّجية العذبة كعذوبةِ روحها ونقاءِ فكرها وصدق وجدانها, فكلّما كان الفنّانُ متقناً للهجاتِ الّلغة التي يغنّي بها, كان عدد المستمتعين بغنائه وعزفه أكبر, وكانت شهرته أكثر سعة وامتداداً.
حاولتْ تارا أن تختارَ لنفسها أسلوباً خاصّاً ومغايراً في الغناءِ والعزف, فنجحت في محاولتها نجاحاً كبيراً, وتمكّنت من تحقيق الكثير ممّا كانت تصبو إليه بفضل جهودها المضنية وسعيها المتواصل في ذلك.
حين تغنّي تارا جاف نحسّ صوتها وصوت القيثارةِ قد تحوّلا إلى معزوفةٍ واحدةٍ متجانسةٍ, معمّدةٍ في نبع الحبّ والتّآلف والوفاءِ المنبثقةِ من صدقِ المشاعر والأحاسيس.
تارا جاف فنّانة مخلصة لشعبها الكرديّ وللغتها الكردية وللتّراثِ الفنّيّ الكرديّ الشّعبي, ولقبائل هورمان حيثُ استوحتْ العديد من أغانيها ومعزوفاتها منهم, وآثرت الغناء بالكردية لأنّها ترى أنّ الشّعوب الأخرى لها مبدعوها وفنّانوها الذين يخدمونها. يقولُ الكاتب خالد القشطيني:*(10)
((لقد سمعت هذه الفنانة مرارا في الحفلات العامة. تغني أغاني الهورامان فقط. لماذا لا تضيفين اليها شيئا من اغاني عرب الجنوب لتجسمي في فنك وحدة العراق والتلاحم العربي ـ الكردي في وطننا؟ قالت الغناءالعربي شيء معروف. مهمتها تعريف العالم بالشعب الكردي وتراثه وفنونه، وهو الشيء الذي قمعته الأنظمة الشرق اوسطية.)). إذاً ترى تارا أنّ من واجبها وواجبِ كلّ فنّانٍ كرديّ أصيلٍ ومخلصٍ لحضارةِ شعبه وتراثه أن يخدمَ الفنّ الكرديّ بأمانةٍ, وأن يعرّفَ العالم أجمع من خلال صوته وعزفه وأدائه بشعبه وتراثه وفنونه.
أحلامُ وطموحاتُ تارا لا تنتهي, وكلّها صادقة لأنّها نابعة من عمق شغفها بالفنّ الكرديّ, وعمق رغبتها في ازدهاره وتطوّره لينالَ حظّه من الشّهرةِ والانتشار, ومن جملة تلك الأحلام والطّموحات أنّها وكما يقول الكاتب وريا أحمد:
((السيدة تارا تتمنى الجلوس مع أولئك النجارون الذين يصنعون اللآلات الموسيقية هنا في كردستان ،لكي تعلمهم اسرار صناعة آلة ( القيثارة ) ومرة أخرى اعادة احياء هذه الآلة الاصيلة)). *(11)
تارا جاف المغنيّة الصّادقة والعازفة المبدعة تحاول أن تعرّفَ العالم كلّه بفنّ وتراثِ ومهارةِ شعبها الكرديّ, لذلك تشاركُ في العديدِ من المهرجانات والحفلاتِ العالمية والمحلّية في مختلف الدّول الاوربية والأمريكية وغيرها من الدّول, ويُعتَبرُ فنّها من النّوع الرّاقي والملتزم.
أصدرت حتى الآن عدّة ألبوماتٍ وكاسيتاتٍ غنائيةٍ وموسيقية.
ما ذكرته هو غيضٌ من فيض عطاءِ وإبداع وإلهامِ تارا جاف, ولكنّ سؤالي الذي سيتكرّر على الدّوام, وأظنّ أنّ الكثير منكم يردّده وسيردّده هو:
لماذا هذا الإهمال الخارج عن طوره لهذه الفنّانة من قبل وسائل الإعلام والصّحافة والتلفزيونيات والإذاعات الكردية الفضائية والمحلّية؟! لماذا هذا التّجاهل لهذه الفنّانة وغيرها من الفنّانات الكرديات الّلواتي تحدّين العالم كلّه بدءاً من أفراد أسرهنّ ومروراً بمجتمعهنّ الغارق حتى العظم في مستنقعاتِ العاداتِ والتّقاليدِ البالية, رغبة منهنّ في خدمةِ الفنّ الكرديّ واستمراره, والذي يعدّ أحد الدّعائم والمقوّماتِ الأساسيّة في استمرار الكردِ كشعبٍ وكأمّة؟؟!!
تحيّة لهذه الفنّانة ولكلّ فنّانات الكرد في كلّ بقعةٍ من الأرض.
وإلى الّلقاءِ مع شمعةٍ أخرى مضيئة وحلقةٍ جديدة.
المصادر:
المقاطع: (3- 8- 11) من مقالة مطوّلة للكاتب (وريا أحمد) ترجمها إلى العربية الكاتب (يوسف كوتى), تتضمّن حواراً معها أيضاً.
المقاطع: (1-2-10) من مقالة للكاتب خالد القشطيني بعنوان (تارا الكردية تعيد للعراق قيثارته).
المقاطع: (4-5-6-7-9) من مقالٍ منشورٍ في موقع: