الفنّانة مرزية فريقي
الفنّاناتُ الكرديات شموعٌ احترقتْ لتنيرَ دروب الفنّ الكردي
الشّمعة التّاسعة
الفنّانة مرزية فريقي (تحيّة البيشمركه)
1958-2005
نارين عمر
اسمها مرزية وهو مشتق من الأصل العربيّ (مرضية), وكما يقول العرب (اسم على مسمّى), كانت مرضية من قبل وطنها وشعبها وأسرتها وجمهورها الذي أحبّها بصدق وعشقَ صوتها.
عندما يكون الحديثُ عن فنّانةٍ بحسّ وفكر وعبق مرزية فريقي, يظلّ القلمُ والفكر والحسّ يعلنون تقصيرهم في التّعبير والفصاحة.
حياتها الاجتماعية :
ولدت الفنّانة مرزية في مدينة مريوان في كردستان ايران, وتنتمي أصول عائلتها إلى مدينة(سنه). أنهتْ دراستها الابتدائية والمتوسّطة في مدينةِ مريوان, ثمّ توجّهتْ إلى مدينة سنه لإكمال دراستها هناك بعد أن انتسبت إلى دار المعلّماتِ فيها وأنهتها بتفوّقٍ, ثمّ عادت إلى مريوان وهناك عملتْ كمعلّمة في ابتدائية إحدى القرى التّابعة لمدينتها.
بدأت الغناء في التّاسعة من عمرها من خلال مشاركتها في الحفلاتِ الغنائية والموسيقيّة التي كانت تقيمها المدارس التي كانت تنتسبُ إليها, بالإضافة إلى المناسباتِ الاجتماعية التي كانت تشاركُ فيها للأهل والمعارفِ.
تزوّجت في عام 1978 من الفنّان الكرديّ ناصر رزازي, وأنجبا معاً ثلاثة أولاد (ابنة وولدين).
في عام 1985 هاجرتْ مع زوجها وولديها إلى السّويد وهناك أنجبت ابنها الثّالث.
توفيت يوم 18/9/2005م في ستوكهولم عاصمة السّويد إثر تعرّضها لنزيفٍ دمويّ في الدّماغ.
حياتها السّياسيّة :
الميّزة الخاصة والبارزة لهذه الفنّانة العظيمة أنّها كانت معلّمة للمرحلة الابتدائية نتيجة دراستها لدار المعلّمات, ما يعني أنّها نشأتْ في بيئةٍ متعلّمةٍ ومثقفةٍ أجازت لها إتمامَ تعليمها, واختيارها لهذه المهنة يدلّ بحدّ ذاته على سعةِ صدرها وعشقها للطّفولةِ والأطفال الذي مهّدَ لها طريق السّياسةِ والتّحزّب لتأتي الميّزة الأخرى في حياتها السّياسية وتجعلها امرأة سياسيّة بامتياز من خلال انتسابها إلى الحزبِ الشّيوعي الايراني (توده) في بدايةِ انطلاقتها.*ومن ثمّ انضمامها إلى حزب كادحي كردستان ايران*, أثناء التحاقها بصفوفِ البيشمركه ما يعني أيضاً أنّها كانت امرأة عاشقة لوطنها الذي سكن في كلّ خليةٍ من خلاياها وكلّ شريان دمٍ يروي جسدها وروحها فأسكنها الوطنُ بدوره في حضنه الذي لا حضن يشبهه في العطاءِ والودّ, وكانت عاشقة لشعبها ووفيّة لهم ولبيشمركةِ شعبها حتى انضمت إلى صفوفهم وهي امرأة (ونعرف كلّنا ما يعنيه انضمامُ امرأةٍ إلى صفوفهم).
تعرّضتْ مرزية للسّجن والتّعذيبِ والظّلم من قبل النّظام الايراني نتيجة مواقفها الشّجاعة التي كانت تبدي فيها رفضها الشّديد لممارساتِ النّظام ضدّ شعبها, ولمطالبتها بحلّ قضيةِ شعبها بطرقٍ سلميةٍ ونضالية سواء من خلال انضمامها للأحزابِ الكردية أو من خلال مشاركتها في المسيرات والمظاهرات الجماهيرية والسّياسيّة. والميّزة الثالثة في حياتها أنّها مناضلة صلبة وشجاعة في ساح الدّفاع عن المرأة وقضاياها, وكانت ناشطة فعّالة في الدّعوة لرفع الغبن والظّلم عن المرأة ومنحها الحقوقَ الثقافية والسّياسية وفكّ القيود والأغلال التي تكبّل حياتها تحت مسمّى العادات والتّقاليد والأعراف.
وفي نضالها يقول الكاتب الأستاذ فاروق حجي مصطفى:
(...عرفت في الأوساط الكردية والأوروبية بأنها مقدامة على الدفاع عن شعبها في سائر كردستان وكانت تشارك في كل المظاهرات للأكراد في اوروبا ولذلك كانت اغانيها سياسية وذات معنى وعمق وابعاد حيث بالإمكان رؤية مآسي الأكراد ومعاناتهم...).
بينما يقول الكاتب الأستاذ محسن جوامير:
(...كم كانت مزهوة وهي ترى جنوب كوردستان محررا وشعبها في هذا الجزء يتقدم نحو بناء مستقبله، آملة أن تصل هذا الشعاع إلى عمق الأجزاء الأخرى..! لهذا لم يكد يستقر بها المقام في السويد، حتى كانت تفكر في أن تعود إليه وتعيش فيه بقية حياتها، ففعلت..
ومازالت العينات من التراب الكوردستاني التي جمعتها في قنينة لتستأنس هي وزوجها الأستاذ ناصري رزازي بها في ديار الغربة، باقية في السويد وهي تبكي أمها : دايه مرزيه..!).
حياتها الفنيّة :
بدأت الغناء وهي في التّاسعة من العمر وربّما أقلّ, هذا يعني أنّ ملكة الغناءِ والفنّ ولدت مع ولادتها الأولى, وربّما تشكّلتْ معها منذ تشكّلها كجنينٍ في رحمِ أمّها, ويبدو أنّ ثقتها بنفسها وشخصيتها القويّة والمتزنة وعشقها للحياةِ والبشرِ ووعي وثقافة أسرتها قد اجتمعوا معاً ودفعوها إلى إظهارِ موهبتها الفنيّة في سنّ مبكّرةٍ جدّاً.
لكنّ المحطة الأبرز في حياتها الفنيّة كان زواجها من الفنّان ناصر رزازي الذي أحدثَ تغييراً كبيراً في فنّها وغنائها وخاصة بعدما شكّلا ثنائيّاً غنائيّاً وفنيّاً متميّزاً لما كان يتمتّعُ به كلّ منهما من الصّوتِ القويّ والمؤثر والاختيار الصّائب للكلماتِ والألحان والصّدق الفنّي النّابع أصلاً من صدق نفسيهما وروحيهما حتى تمكنّا من تحقيقِ حضور جماهيريّ متميّز.
لأنّها عشقت وطنها وشعبها وعشقت الإنسانية والبشرية من خلالهما فقد غنّت بعشق وصدق ومحبّة لهم جميعاً فبادلها هؤلاء المحبّة ذاتها والصّدق عينه, ولأنّ الغناء عندها كان تعبيراً صادقاً عن معاناةِ الشّعوب ومظالم الأوطان, وخير وسيلةٍ للانعتاق من كلّ أنواع المعاناة والانطلاق نحو عالمٍ أكثر رحابة وحرّيةً وسعادة, وفي ذلك يقول الأستاذ محسن جوامير:
(... إذا كانت الأغنية تعني عند البعض قضاء الوقت في فضاء الخيال وتحليقاته الإبتذالية، فإنها كانت عند الفقيدة نشيد التحرير من نير الظلم والإنعتاق من العبودية التي طال أمدها على الكورد وجعلت منه ضحية الإستبداد...).
لم يقتصر غناءُ مرزية على لهجةٍ كردية دون أخرى, بل كانت تغنّي بالّلهجاتِ المختلفة لأنّها كانت مؤمنة بوحدةِ شعبها ولغتها على الرّغم من تعدّد الّلهجات وهذا ما
جعلها تسكنُ في قلوب ملايين الكرد وستظلّ ويقول الكاتب الأستاذ شمال عادل سليم بهذا الصّدد:
(...صوت الراحلة مرزية يمتاز بالأصاله الكوردية و القوة ودقة التعبير, وهي أول مغنية كوردية سجلت أغاني و أناشيد ثورية كوردية كما غنت بأربع لهجات كوردية كما كانت تجيد غناء الشعر الفصيح و الشعبي غنت للمرأة و للبيشمه ركة و لكوردستان و للأطفال و للحرية...).
نضالُ فنّانتنا وهي في ديار الغربةِ لم يقتصر على الغناء وإقامةِ الحفلاتِ الفنيّة فقط, بل ساهمتْ مع زوجها الفنّان ناصر في تأسيس العديد من النّوادي والمؤسّساتِ الثقافيّة التي كانت تخدمُ في النّهاية الحركة الفنيّة الكردية.
عندما هاجرت إلى السّويد انقطعت عن عالم الغناء لفترةٍ من الزّمن ولكنّها سرعان ما عادت إليه ترتمي في أحضانه بشوقٍ ووجدٍ, فيضمّها بحنانٍ ورفق, وبدأت تنقلُ فنّ شعبها إلى مختلف الدّول الأوربية والأمريكية لتعرّف شعوبها بفنّ وغناء شعبها, ولكي تغنّي للجالياتِ الكردية هناك وتدخلَ البهجة إلى نفوسهم الشّجية, وفي ذلك يقول الكاتب الأستاذ فريدون هرمزي:
(...انقطعت عن الغناء لعدة سنوات الى أن استأنفت نشاطها الفني مرة ثانية عام 1994 حيث سجلت انذاك البوماًُ غنائياً اصبح حديث الساحة الفنية لفترة من الزمن. لم تكتف مرزية بتسجيل الاغاني بل اخذت فنها الى دول اخرى عديدة مثل ايطاليا، المانيا، سويسرا، بلجيكا، الدانمارك، فنلندا، كندا، استراليا، الولايات المتحدة الامريكية وغنت للجاليات الكردية هنالك، وقد جاءت الى كردستان لأكثر من مرة حيث غنت في كل مرة تحية للبيشمركة...).
لم يقتصر غناؤها على عشق الوطن والشّعب والبشر فحسب بل غنّت لطبيعةِ كردستان الغنيّة بدفئها وسحرها وفتنتها التي كانت وما تزالُ ملهم الفنّانين والشّعراء والمغرمين والعشّاق, وملاذهم الآمن من قحطِ الواقع ومرارةِ العيش.
مرزية فريقي غنّتْ بصدقٍ وعشقتْ بصدقٍ, فأحببناها بصدق, وعشقنا صوتها حتى النّشوة.
مرزية فريقي كانت تحملُ في قلبها وروحها محبّة كلّ أبناءِ وبناتِ شعبها, فبادلها هؤلاء الوفاء والإخلاص.
عجزت الكلماتُ عن رثائها, صمتَ النّطقُ حداداً عليها, شلّ الفكرُ للحظاتٍ إثر سماعه نبأ رحيلها المفاجئ, ليتسلّل صوتها العذب إلى أسماعنا ونفوسنا من خلال النّسائم التي تهبّ من جهةِ روحها إلينا, فعلمنا وقتها أنّها رحلتْ جسداً فقط, وتركتْ روحها أمانة في أفنان قلوبنا وأرواحنا. روحها التي تسيرُ في شرايين وخلايا ابنيها وابنتها الرّقيقة دلنيا رزازي التي ورثت عذوبة الصّوتِ من والديها ومن الفنّانة المتألقة ليلى فريقي, فجعلتنا نرثيها كلّما استمعنا إلى أغنيتها المؤثّرة, ونبكيها بحرارة.