أنا القدس
زياد جيوسي
عضو لجنة العلاقات
الدولية في
اتحاد كتاب الانترنت العرب
كيف لأحد أن يروي الحكاية، حكاية القدس عبر التّاريخ؛ يروي الحكاية كما هي بدون عبث العابثين والّذين زوّروا التّاريخ والحكاية، كيف يمكن أن يتمّ ذلك من خلال عمل مسرحيّ يتمكّن من اختصار الحكاية الّتي بدأت منذ فجر التّاريخ بساعة واحدة من الزّمان، على خشبة مسرح ومن خلال ممثّلة واحدة يرافقها راقصَين تعبيريّين اثنين، كيف؟
كان هذا هو السّؤال الّذي يدور في ذهني وأنا أتّجه لمسرح القصبة لأشاهد مسرحيّة "أنا القدس"، والتي أنتجها مسرح عشتار في رام الله، وتُعرض على مسرح القصبة ضمن أيّام المنارة المسرحيّة. فالقدس حكاية من قبل التاريخ، حكاية بدأها اليبوسي الكنعانيّ جدّنا الأوّل، أرادها مدينة سلام ومركز حضارة وتجارة، مدينة محبّة وحسن جوار مع ممالك المدن في فلسطين وممالك خارج إطار وحدة فلسطين الجغرافيّة الممتدة ما بين النّهر والبحر، لتتحول هذه الأرض إلى قبلة أطماع الطّامعين والنّاهبين ولصوص الليل وقطّاع طرق التاريخ، لتصبح القدس عبر تاريخها مسرحًا دمويًّا ضحيّته أبناء كنعان، الّذين لم يتوقّفوا عن الدّفاع والقتال ذوداً عن وطنهم وقدسهم على مرّ التّاريخ، وحتّى عصرنا الحاليّ الذي يقف فيه الفلسطينيّون أحفاد كنعان، في مواجهة أشرس حملة ضدّ وطنهم وضدّ القدس.
رغم ثقتي بقدرات مؤسّسة مسرح عشتار الّذي عايشت عمله ونتاجه الفنّيّ منذ عدت للوطن منذ أكثر من عقد من الزّمان، ورغم احترامي الكبير لجهود الممثّلة المسرحيّة إيمان عون وقدراتها، إلاّ أنّ سؤالي لم يفارقني وأنا أنتظر بدء العرض- فقضيّة القدس قضيّة وطن وهي رمز من أقوى رموزه. ومثلي مَن شرب ماء القدس طفلاً يدرك كم هي قضيّة صعبة ومعقّدة كي تُروى حكايتها في ساعة وعبر المسرح.. حتّى كان اللقاء مع المسرحيّة ورواية الحكاية.
مسرح بديكور بسيط متحرّك ببعض من قطعه، ظلام دامس ينبثق من زاوية المسرح فيه نور يشعّ وكأنّه بوّابة الأمل في مستقبل تزول منه العتمة. إيمان عون تمثّل القدس كمدينة بروح امرأة يسعى الغزاة دوما لاغتصابها، رشا جهشان راقصة تعبيريّة أبدعت مع الممثّل والرّاقص التعبيري محمّد عيد، بالتّعبير عن مراحل تاريخ المدينة الأقدس والأجمل. وموسيقى تصويريّة معبّرة ترافق مشاهد العرض فتنسجم مع المشهد، ملابس مثّلت الغزاة وتاريخهم، والكوفيّة الفلسطينيّة لم تفارق مشاهد العرض الأخيرة رمزًا للشّعب الفلسطينيّ الّذي يتعرّض لحرب الإبادة، رموز مختلفة استخدمت مثّلت اليهود من خلال الشّمعدان، المسيحيّة في القدس من خلال الشّموع، الإسلام من خلال الخليفة العادل عمر بن الخطاب والقائد المحرّر صلاح الدّين الأيّوبي، وغيرها من رموز الّتي مثّلت مراحل الغزاة.
لجأ المخرج والمؤلّف ناصر عمر إلى استخدام العرض المصوّر مع أحاديث الغزاة، لكن بدون وضوح الصّورة إلاّ في المشهد الأخير الّذي مثل المرأة الفلسطينيّة.. سمعنا أحاديث الكنعانيّين والفراعنة والأشوريّين والبابليّين والفرس، وعصر الإمبراطور قسطنطين وهجمة البرابرة الصّليبيّين، عهد التّحرّر في زمن صلاح الدّين وصولا للمرحلة الحاليّة.. إضافة إلى استخدام الرّقص التّعبيري بشكل يعبّر عن الفترات التّاريخية، مُضافاً إلى دور الرّاقصين كممثّلين في بعض الأدوار الّتي احتاجها العرض، وبشكل يتناسب مع العرض ويمنحه المعاني والمفاهيم.
أجادت إيمان عون وهي ابنة القدس بدورها بتميّز؛ تمكّنت تعابير وجهها من أداء الدّور والمساهمة في رواية الحدث، وتناسبت نبرات صوتها مع المشاهد، فكان أداؤها من أجمل ما شاهدت لها عبر السّنوات الماضية. وتمكّن المخرج مع من قاموا بالأدوار والرّقص التّعبيريّ من خلق عمل متكامل؛ روى الحكاية وترَك أثرها في النّفوس وأسال الدّموع، ترك الحلم في الأرواح بأن القدس تمكّنت، عبر التّاريخ الممتدّ لآلاف السّنوات قبل الميلاد، من لفظ المغتصبين وطردهم ودحرهم، وأنّ الحرّيّة قادمة وطاقة الأمل لا يمكن أن تغلق، رغم كلّ محاولات تهويد القدس وتفريغها من أحفاد كنعان.
تقول إيمان عون وهي صاحبة الفكرة والقائمة بالجهد المسرحيّ: "ولد هذا المشروع برغبة شخصيّة منّي للاحتفاء بمدينتي، كوني ابنتها الّتي لفحتني بنورها ووهبتني حبّها، وشكّلت أزقّتها ملامح وجهي، أحنّ لها وأنا فيها وتدفعني أطيافها إلى روائح النّساء التي نسجت بالدّموع والأرجوان حكايات الجدّات- اللاتي حافظن على ما تبقّى من فتات الذّاكرة الّتي طحنتها عجلات الحروب والفجائع- لترويها للأحفاد، لذا أردت منحها صوتًا أنثويًّا آتيًا من أعماق تكوينها، فجاءت امرأة بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى، بضعفها وعنفوانها، بشبقها وحكمتها، بعطائها وألمها".
فماذا نقول نحن الّذين نقطن على مسافة قصيرة من القدس، وتعزلنا عنها حراب الجند وبنادقهم والأسلاك الشّائكة والجدران، فنُحرم من الصّلاة في أقصانا وزيارة القيامة؟ ماذا نقول حين تُغيّب الحقيقة ويزوّر التّاريخ؟ سوى أن نحلم بغد آت وبقدرة أرض الوطن على لفظ الغزاة، وعلى قدرة القدس على المحافظة على روحها الّتي هي أرواحنا، وأن نصّمم على أن نبقى لنروي حكاية الفجر القادم. فنحن أحفاد كنعان جذورنا كالسّنديان ضاربة في أعماق تربة التّاريخ.
وفي النّهاية لا بد أن أقول: "أنا القدس" عمل متميّز ورسالة وطنيّة، إبداع متكامل رغم كلّ الظّروف الصّعبة الّتي أحاطت بإخراج هذا العمل إلى النّور؛ هذه الظّروف الّتي مثّلت الشّتات الفلسطينيّ أبلغ تمثيل، إنّه عمل يجب أن يجول العالم ليحمل رسالة عربيّة فلسطينيّة، عمل يعيد رواية التّاريخ الحقيقيّ للقدس.. رواية بدأت من عهد يبوس وكنعان، حتّى وصلنا إلى ما وصلنا إليه، رواية تكشف كلّ الزّيف في تزوير التّاريخ على يد اليهود وصولاً للكذبة الكبرى الّتي أسموها إسرائيل.