الأغنية العربية في ذمّة من ؟

غادا فؤاد السمّان

الأغنية العربية في ذمّة من ؟

غادا فؤاد السمّان

عندما تضيق الملامح الفنية وتنحسر وتتماهى وتتغرّب، كما نشهد اليوم، فلا ريب في أننا ازاء تخبّط آخر في الهوية لا يقلّ شأناً عن الأخطار التي تحيق بالمنطقة.
ولا بدّ من التنبّه لعواقب التغاضي المستقبلية، والانعكاسات السلبية التي تنجم عن ضياع السمات الفنية الصانعة للحضارة والمؤسسة لتاريخ أمة. أهمها خواء المخزون الحضاري وهو في حقيقة الأمر واحد من الواجبات الثقافية التي تتطلب المتابعة والتدقيق في جهد وأمانة واخلاص،والتفاني لتظهير أصدق الحالات وتصديرها. وذلك لخلق موروث حقيقي للجيل بل للأجيال القادمة. فالفن هويّة،والهوية لا تُقرّ الا بالتراكم الانتاجي والزمني، المستمد والمرتكز على المبادئ والقيم، كعمل خلاّق وأخلاقي في آن واحد.

ولا شك في أن الموسيقى هي الوجه الآخر للحضارة، وتعتبر الموسيقى لغة حيّة وعلماً قائماً بحدّ ذاته له قواعده وأسسه وأصوله ومناهجه ومدارسه التي حافظت على اصالتها وعراقتها مع بعض الاجتهادات الذاتية، ويُجمع حملة لواء الأغنية العربية الأصيلة على أنها تتصل بقطبين حيويين جداً يوفران الشحنة الابداعية فيها، الأول: اللغة العربية التي تحمل في كل حرف من حروفها الدلالة والوزن والايقاع والحالة التي تسمح بالتقطيعات العروضية، حيث تتشكل التفعيلة الوزنية
والتي تقترن اقتراناً وثيقاً بالصبغة اللحنية كالفرح، والحزن، والاقدام، والتقهقر، والحثّ، التروّي، والتصعيد، والتأمل... الثاني: احكام التجويد واصول الترتيل القرآني والتواشيح الدينية، كل ذلك كان اسهاماً لتهذيب الحاسّة السمعية، وصقلها كمطلب ضروري لتغذية النفس وارضاء الروح، وإن أول آلة موسيقية عرفت كل مزايا الموسيقى وخصائصها هي الحنجرة البشرية التي تجيد تجسيد المقام النغمي، موسيقى لحنية واداء مموسق من دون الاتكال على أي آلة لحنية غير
الحنجرة، وخير مثال عـلى ذلـك المـقرئ الشـيخ عـبـد البـاسط عبد الصمد الذي يؤدي التجويـد القـرآنـي فـي إطـراب بـالـغ، وتفريد لا يضاهى، ومـن هـنا نلحـظ ان الأذن العربية التي أجادت الفصاحة اللغـوية اللـفـظـيـة تمـيـزت أيضاً بالبـلاغـة الموسيقية من خلال مرونة الأوتار الصوتية والتي جاءت الآلات الوتـرية عـلى شـاكلتـها متـنوعـة ومطـواعة، خلاف الآلات الموسيقية الغربية التي تعتمد النفخ والأصابع في حركات محدودة، لا تفسح للمؤدي خـارج نطـاق الملحن
ان يتـفـرّد أو أن يرتـجل نهـائـيـاً.
لذا نجد ان الرعيل الأول للموسيقى العربية الذي عرف "فصاحة اللغة وبلاغة الموسيقى واصول التجويد وقواعد الانشاد" صمد الى يومنا هذا ورسّخ كالوشم بصمته والتي يجهلها الويم اكثر من تسعين في المئة من المقبلين في شغف الى عالم الغناء والذين يروّج لهم السماسرة والتجار في شكل مريع على حساب الفن والذائقة والهوية، إذ يخفق هؤلاء في معرفة الحد الادنى من المقامات الموسيقية المتداولة في التأليف لنجد ان التأليف الموسيقي الغنائي اليوم يقوم على الخلط الايقاعي، والاستيراد العشوائي للقوالب اللحنية الغربية، والاستعراض المجاني المبتذل للجسد الانثوي ارضاء للتقنيات الالكترونية، والشركات التجارية المدعومة برؤوس أموال ضخمة مشبوهة على الأغلب، غايتها الوحيدة استغلال الكبت النفسي عند المشاهد العربي خاصة، واستثمار قصور المرأة العربية عن ارضاء الرغبة الجنسية واشباعها عند الكثير من شريكها الشرعي، أضـف صـيـغ الإغـواء الجـمـاعـية التـي تسـتقطب أكبر كـم مـن الطــاقـة الشـبابية لترويضها وقولبتها وتفريـغـها وتبـديدـها فـي أفـضـل الأحـوال، وهـلـمّ جـرا.يبقى القول ان الأغنية العربية الكلاسيكية اليوم تعاني أزمة وجود وأزمة هوية شأنها في ذلك شأن الوجوه الأخرى من القضايا العالقة في عالمنا العربي، تحتاج الى بحث ودأب لتجديد ملامحها وتأكيدها بعيداً عن الطفيليين والعابثين باسم الفن، وباسم الحداثة، وباسم التجريب. والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم، هل ما يُقدّم من تجارب دمج وتغريب في الموسيقى والألحان حالياً هو انتاج عبثي آني يُقدم أصلاً لذائقة تألفه ومنتهية الصلاحية تتفاعل معها الجموع وتحتشد للرقص والخـلاعة معلنة سهولة قيادها، مثل كل الجوانب الحياتية الأخرى كالمشـاريع السـياسـية العربية التي تطرح تباعاً وتـتبـعها القـطاعـات والقـطـعـان بلا حـول أو حيـلولـة؟!
فالأغنية والصورة كانتا تجتهدان لخلق موضوع انساني ما ذي قيمة لحنية وفنية عالية ويعتمد على الترجمة الادائية الغنائية التي تُعتبر المكمّل الأساسي للصوغ الكلامي واللحني. وأتساءل مجدداً ما الذي يدعو هذا المتلقي عينه الذي يتفاعل تماماً مع الرصين الى التغاضي عن مغبة شيوع الرائج الخفيف المخرّب؟
لا بد إذن من تفعيل المهمات الاضافية الملقاة على عاتق الكثيرين والمعنيين بلا استثناء بإحياء المعنى الحقيقي لرسالة الفن واعطاء القيمة الفُضلى لصيغ التداول الفني المقبل إذ استعصى على الحالي.