تخبيص في تخبيص.. وتعفيس في تعفيس
نوال السباعي
كاتبة عربية مقيمة بإسبانيا
إهانات، شتائم، وتكفير.. هذه هي المحصلة «اللطيفة» التي انهالت عليّ بسبب الحلقات الثلاث الخاصة التي كتبتها عن مسلسل باب الحارة هنا في صحيفة «العرب»، والتي أدليت فيها بدلوي من الناحية التحليلية التربوية الفكرية الثقافية لوضع الإنسان والمجتمع في المنطقة العربية اليوم فيما يتعلق بهذه «الظاهرة-المسلسل» الذي لم أضيع بسببه -بفضل الله- ولا حتى ثانية واحدة من وقتي ولا وقت أسرتي هذا الرمضان، ولا أدري ما الذي آلت إليه أحداثه الجسام العظام، ولا نسبة متابعة الجمهور ولا رد فعله عليه.
وقد كنت قلت عنه إنه جدير بالدرس والبحث والتمحيص من النواحي المذكورة أعلاه، ولم أتطرق -فيما أعلم- إلى النواحي الفنية فيه، لأن اهتمامي كان منصباً على الاستجابة الجماهيرية للمسلسل وليس على المسلسل، إلا أن من أعجب الرسائل التي وردتني حول هذا الأمر، رسالة أرفق معها موضوع ضخم كتبه أحدهم في موقع إلكتروني «فني إسلامي» غير مشهور -ولله الحمد-! لم يدع فيه إهانة ولا شتيمة إلا وألحقها بي، بدءا بعنوان المقال «ما هكذا باب الحارة يا ست نوال»، مرورا بقوله مباشرة دون تحليل ولا تفنيد ولا إيراد لعبارة واحدة أو فكرة واحدة مما كتبت: «فوجئتُ بما كتبتْه الكاتبة نوال السباعي عن مسلسل (باب الحارة) وهذا يعني عندي أنها لا تختلف عن كثير من الإسلاميين الذين يعيشون خارج عصرهم، ويُخاطبون أناساً يسكنون في المريخ أو في المشتري أو في عطارد، ويكتفون بأن يلعنوا الظلام.. وبالتالي يفشلون في استقطاب الجماهير نحو التديّن». وأردف: «مشكلة بعض الكتّاب الإسلاميين أننا نجدهم متخصصين في لون من الثقافة، ولكن فجأة نجد لهم مقالاً بعيداً عن ذلك التخصص، فتراهم يشطّون في مقالهم، ويكتبون فيما لا يعرفون، فيكون مقالهم تخبيصاً في تخبيص، وتعفيساً في تعفيس، فيسيئون للعمل الإسلامي من حيث لا يشعرون».
«فمسلسل باب الحارة ناجح بكل المقاييس -والكلام ما زال لناقد النقد- الفنية والدرامية والموضوعية والتهذيبية، وأنا أخذت رأي أحد كبار الأدباء الإسلاميين عن المسلسل، لأن الأدباء هم أهل الاختصاص بفن الدراما -!!- باعتبار أن المسلسل في كل الأحوال قصة ممثّلة، فقال لي بأن المسلسل ناجح ورائع، وينبغي على الإسلاميين -هكذا- إذا وجدوا مسلسلاً نظيفاً أن يقفوا معه ويشجّعوا أصحابه عليه، لا أن يقفوا ضده وينتقدوه». «متى ينتهي الإسلاميون من ظاهرة (لعن الظلام) في قضايا الفن الدرامي؟ كم أشعر بالأسى على حال الإسلاميين وهم يرَون بأمّ أعينهم كيف أن الأجيال تُمسخ بالأفلام والمسلسلات الهابطة وهم لا يفعلون شيئاً، وإنما يكتفون بأن يلعنوا الظلام، وهذه -كما نعلم- عادة الإنسان البائس واليائس، وعادة الإنسان السلبي في الحياة».
في الواقع إن هذه المقتطفات من ذلك الموضوع «النقدي» لا تحتاج مني لكثير تعليق، لأنها تدل قطعيا على أن هذا الشخص لم يقرأ أكثر من ثلاثة أسطر من جملة ما كتبته عن باب الحارة! وثانيا لأنه لا يدري هل أنا كاتبة إسلامية أم ألعن الظلام أم يائسة مستيئسة؟ أم أن ما أكتبه هو تعفيس في تعفيس وتخبيص في تخبيص! بل لا يعرف شيئا عن كتاباتي النقدية حول مسلسلات أخرى سابقة، ولا حتى عن إنتاجي الأدبي وهو -على قلّته- معروف في المنطقة العربية. ولقد سأل صاحبنا أحد «كبار الأدباء الإسلاميين» فقال له رأيه في المسلسل! وأردف أن الواجب كان يقتضي أن أنصر المسلسل وأدافع عنه! وفقط لأنني كاتبة محسوبة على الخط الإسلامي! ويكفي هذا الكلام ليعرف الواحد حجم «المافيا الفكرية» التي يتعرض لها كتّاب الصحافة العربية اليوم بشقيهم الإسلامي والعلماني، لا يكلف الواحد من هؤلاء «القرّاء» نفسه عناء قراءة موضوع واحد كاملا! لأنه وبكل بساطة لا يستطيع استيعاب كل ما فيه ولا حتى نصفه ولا ثلثه، فيأخذ -كما نقول في الشام- «الكباية من راس الماعون»، ويجرد مفاتيح كومبيوتره، ودون أن يكلف نفسه مجرد عنت البحث «الغوغلي» -على الأقل، وهو أضعف الإيمان!- عمن ينتقد ويشتم، يبدأ بتوزيع الإهانات يمينا وشمالا.
لا يستطيع هؤلاء الناس استيعاب -مجرد استيعاب- أن يقوم «إسلامي» بنقد مسلسل اعتبره «إسلاميون» آخرون محسوبا على الخط الإسلامي! هذه الظاهرة المستفحلة في صفوفنا لهي دليل خطير على مرض أشد خطورة، وهو مرض «القمع الفكري» الذي نعيشه، مرض التقنين على الرأي، ووضعك في إطار محنط لا ينبغي لك أن تتجاوزه من قريب أو بعيد! لقد وصل الحال ببعض المجلات الإسلامية التي أكتب فيها منذ ربع قرن أن امتنعت عن النشر المشترك مع «العرب» لمقالاتي الخاصة بباب الحارة، وفقط لأنها وبكل بساطة تخالف ما يعتقده معظم العاملين فيها والمحيطين بهم، من أن «باب الحارة» هو مسلسل إسلامي رفيع المستوى! لكن المفاجأة لم تأت من هذا القبيل، لقد كان ذلك عندما نقلت بعض الصحف والمواقع العلمانية المقالات الثلاث عن صحيفة العرب القطرية، وأعادت نشرها حتى بلغت أعداد من قرأها عشرات الآلاف، فانهالت عليّ رسائل «القراء الإسلاميين» بالشتائم والإهانات والتكفير، ووصلتني رسالة من أحدهم يدعو عليّ بقطع يدي التي تكتب هادمة لقيم الأمة وأخلاقها!
من هذا الذي يمنح نفسه الحق في تصنيفنا وترتيب هويات أقلامنا إلى الحد الذي يجعله ينصب نفسه قاضيا بالشتيمة والإهانة على ما نقول وعلى ما يصدر عنا؟! ومتى نخرج من قمقم التصنيف، حيث يأتي كل منا مكتوبا بين عينيه «آيس من أن يقرأ له أحد غير إسلامي»! أو «قانط من أن يستطيع احتماله أي إسلامي»!
لطالما كانت هذه التصنيفات سيوفا مسلطة على رقاب الكتّاب من علمانيين أو إسلاميين، وأذكر مرة وكنت في أحد أهم مؤتمرات وزارة الأوقاف الكويتية، وكنت يومها أقدم ورقة خاصة بوضع المرأة والإعلام، أن أحدهم وهو من الكتاب العلمانيين المعروفين، خرج من المؤتمر وكتب مقالا لاذعا حول المؤتمر وحول المنظّمين، ثم أردف «أما هذه الكاتبة الإسلامية التي أتوا بها من مدريد فلقد كانت تدور وتلف حول موضوع الحريات الممنوحة للمرأة ولم تعرف كيف تجيب عندما واجهتها بما للإسلاميين من باع في إذلال المرأة ومهانتها»! وكانت ورقتي يومها خاصة وفقط بموضوع الإعلام العالمي والمرأة المسلمة، لم تتطرق في حرف واحد لموضوع حرية المرأة في الإسلام، ولم يسألني ذلك الكاتب شيئا ولا أعرف له وجها، ولمّا كتبت إليه في الصحيفة التي نشر فيها مقاله أستفسره، لم يرد جوابا. إنها ملابسات التصنيف التي تتعامل بها معنا المافيا الفكرية من أي لون ومذهب كانت!
متى كان درجة التزام الكاتب بدينه حائلا دون قدرته على خوض القضايا الكبرى التي تشغل بال الناس في بلاده؟ ومتى كان التدين أو عدمه حكرا وحجزا للصحافي -والصحافية على وجه الخصوص- عن أداء مهمته تجاه هذه الأمة؟ ومن هذا الذي يستطيع أن يدّعي أن وطنية المرء وإخلاصه مرتبط بدرجة تدينه والتزامه؟! إنها «مافيا فكرية إنترنتية» بكل ما تعنيه هذه الكلمات الثلاث.. شريحة فارغة متفرغة لا عمل لهم إلا القصّ واللصق والاستنساخ، وسباب هذا وشتيمة الآخر، نصّبوا أنفسهم مدّعين وقضاة ومحامين وجلادين في آن واحد، وراحوا يوزعون ويكيلون الاتهامات لعباد الله ذات اليمين وذات الشمال.
هذا «التخبيص» وذاك «التعفيس» يستدعي من الصحافيين العرب على اختلاف مذاهبهم وقفة جادة توقف هذا الانهيار وهذا التعدي وهذا التفسخ في فهم مهمة الصحافة والفكر والأدب في حياة الأمم والمجتمعات. إن الصحافي أو الكاتب أو الأديب الذي لا يستطيع أن ينهض من عثرة «التصنيف» ويسمو فوق ضيق حدود الانتماء إلا لهذه الأمة لن يستطيع قط أن يدعي أنه صاحب رسالة، وإن عجز الأديب أو الصحافي أو المفكر عن الوصول إلى مختلف شرائح الناس لهو العجز ولهو العثرة التي يجب اقتحامها. وللحديث صلة وشجون.