ذكريات الروح
زياد جيوسي
عضو لجنة العلاقات
الدولية في
اتحاد كتاب الانترنت العرب
في رحلتي إلى دمشق كنت أستعيد الروح وذاكرتها بعد عقود من الزمن، وما أن حطت بي الرحال في عمّان الهوى، حتى كنت أكتب في صباح اليوم التالي عن اليوميات الدمشقية، وفي مساء الخميس كنت أنشد الدرب لرحاب "مركز رؤى للفنون"، لزيارة المركز وأصدقائي فيه، فقد ارتبط "رؤى" في روحي حتى أصبحت أرى فيه تجسيد الحلم والرؤيا، وما أن خطت قدماي صالة المركز حتى شدني معرض للفنان: د. محمود صادق، وربما للمصادفة السعيدة أن يحمل المعرض اسم "ذكريات الروح"، وأنا الذي عاد من الشام وفي روحه منقوشة ذكريات الروح.
شدني المعرض بقوة، وقبل أن أحتسي القهوة كانت اللوحات قد أمسكت بكلتا يدي، شدتني إلى داخلها، جعلتني أجول في ثناياها، شعرت بها تعيدني إلى ريف وطني الممتد، أتفيء الزيتون، أستظل بالنخيل، أجلس أمام "طابون" الحاجة أم عزمي، أتناول قطعة خبز ساخنة خارجة من فوهة "الطابون"، أغمسها بالزيت والزعتر، تتراكض من حولي الدجاجات ملتقطة الحب من الأرض، أحسست بنفسي أستفيق مع صوت الديكة تعلن الفجر والصلاة، شعرت بإشراقة الشمس في صباح ربيعي ريفي حنون.
هكذا كان انطباعي الأول عن المعرض، وحين احتسيت القهوة في حديقة "رؤى" كنت أشعر بالدفء رغم البرد، فغادرت من هناك وأنا أشعر أن بعضا من روحي بقي هناك، فكان لا بد من العودة في يوم السبت في محاولة لاستعادة ذلك الجزء من روحي، الذي رفض المغادرة وأصر أن يبقى هناك، فاستعدته مثقلا يحمل المعرض بأكمله، يوزع الحمل على امتداد مساحة الروح، فغادرت "رؤى" مثقلا بالجمال، فجلست إلى مقهى فينا في فندق عمرة الذي أصبح يحمل اسم كراون بلازا في غيابي الذي امتد أحد عشر عاماً، فهذا المقهى كنت من رواده قبل أن تلفني رام الله العشق تحت جناحيها بعد مغادرتي عمّان الهوى والحب.
في ذلك المقهى الذي ترك في الذاكرة نقوشا ليس من السهل أن تمحى، جلست أرقب حركة الشارع المزدحمة من خلف الزجاج، وأرقب وجه قمري جميل يجلس إلى منضدة مجاورة، هادئ ملائكي القسمات، يجالس عجوزاً فكأنه الربيع يجالس الخريف، فساهم هذا المشهد في إحياء جمال الربيع في لوحات "ذكريات الروح"، فلم أجد نفسي إلا محلقة تكتب أو تنقش ما تركت اللوحات في داخلها.
حقيقة لا أستطيع أمام الجمال إلا أن أبتعد عن أدوات النقد التقليدية الجامدة، وأترك زمام الحديث لروحي وهي تحلق خارج أطر هذه الأدوات، تطير فوق الغيمات، تلتقط النجمات المضيئة في فن إمتلك القدرة الهائلة على تجريد حياة الريف، مشكلات الوطن، في لوحات زيتية كل لوحة منها تمثل مجموعة من اللوحات، وفي مجملها العام تتمثل في لوحة كبيرة، ولعل هذه إحدى المزايا التي تفرد فيها الفنان والتقطتها عيناي، فكل جزء من أية لوحة في المعرض تقريباً، لو فصلناه عن الأم لكان لوحة متكاملة، فلوحات الفنان أشبه بالأسرة في ريفنا، أسر تنبثق من أسرة، كل منها كيان قائم بذاته، وكلها معا تمثل جمالية الأسرة الكبيرة المترابطة.
من أهم المسائل التي لفتت نظري أولاً أن الفنان رغم أنه مرتبط بالريف إلى درجة الانصهار، إلا أنه لم يعايش القرية إلا ثلاث سنوات في بلدة دير غسانة بالقرب من رام الله، في مرحلة الابتدائية من دراسته، وثانياً قدرة الفنان على استخدام الألوان الفاتحة المشرقة، فهي ألوان الفرح والحلم، فألوانه هي ألوان الحياة، ألوان الطبيعة المشرقة، فلا يلجأ للألوان الداكنة إلا في زوايا محددة قليلة، ومن المعروف أن الألوان الداكنة تخفي دوماً العيوب التقنية في اللوحات، وفي نفس الوقت لاحظت استخدامه المكثف لكميات اللون، فهو كريم في سكبه الألوان، مع قدرة كبيرة على التعامل معها بدون أن يظهر هناك نشازاً في التناغم بين جزيئيات اللوحة، ولا سيلانا من حفافي إنسكاب اللون.
تميز الفنان د. محمود صادق إضافة لتجريد الريف وإبرازه بصورة متميزة، بقدرته على تطويع الأسطورة والحكاية والموروث والتقاليد الشعبية، فمن استخدامه أسطورة تموز وعشتار في لوحة "تموز"، إلى حكايات الريف الموروثة في لوحة "وكان ياما كان" ولوحة "إدراك المجهول"، إلى التقاليد في ألعاب أطفال القرية في لوحة "برج الحمام" والعرس التقليدي في لوحات "زفة" و "عروس" والاحتفالات في لوحة "وجع المزمار"،مروراً بحاجياتها اليومية كلوحة "يوم الغسيل" الذي تجد ساحات البيوت ممتلئة بالملابس المنشورة تحت الشمس، فتعطي القرية طابعا جمالياً خاصا، وجلسات النساء في التبصير في الفنجان في لوحة "قارئة الفنجان"، إلى الموروث الصوفي والدراويش في لوحتي "رحلة أبدية"، دون إغفال الحاجات الطبيعية للإنسان كما لوحات "ومضة شمعدان" و "إمرأة تشعل القمر" ولوحة "عاشقان"، إلى استخدام الرموز في اللوحات التي تحمل الهم الوطني، كالصلب الذي يرمز للسيد المسيح في لوحة "الكلام الذي لا يقال"، فيحيله إلى صلب لشعب بأكمله، ورمزية تكبيل الفارس ووضع الفزاعة مكانه في لوحة "الزمن الجديد" وارتباط المخيم بالواقع في لوحة "في طرف المخيم" والحلم والمرأة الوطن في لوحة "ذكريات الروح" التي حمل المعرض اسمها، إضافة لرموز تكررت في معظم اللوحات، حتى أني أجزم أني لو شاهدت لوحة مغفلة من التوقيع تحمل هذه الرموز، لعرفت فوراً أنها تعود له، فالديك والحمامة والمرأة تكاد لا تفارق اللوحات، حتى أصبحت تُعرف عن هوية الفنان وكأنها توقيعه على اللوحات، فالديك كما أراه يمثل الفجر الجديد، القوة والعنفوان، والحمامة تمثل الريف والسلام، فنراها أحيانا في لوحات الفنان في حالة يرثى لها، وكأنه يصور حال السلام الآن، والمرأة هي الأم والزوجة والابنة والحبيبة، وهنا رأيتها الوطن والأرض كما في لوحات "وطن" و"جسر الأمل"، ففي أكثر من لوحة شابهت جسد المرأة وجلستها خارطة فلسطين.
يلاحظ أن الفنان يترك الوجوه عادة بدون ملامح، وكأنه يريد من المشاهد أن يتعامل مع المشهد المتكامل، فملامح الوجوه وخاصة العيون لها قدرة خاصة على جذب الانتباه، وفي نفس الوقت لجأ الفنان إلى أسلوب اللولبية الذي استخدمه الواسطي في رسم المقامات، لكن بتطوير القاعدة التي تنطلق بشكل لولبي من إطار اللوحة باتجاه مركزها، فجعل المركز متنقلا حسب طبيعة الموضوع، فخرج من التقليد الذي لا يتناسب مع الواقع ولكنه حافظ على الروح، فأبدع في كافة المناحي التي طرقها، حتى أنه من خلال لوحاته استفزني وأثار روحي، وربما استفز وأثار الكثيرين، فهل أشكر الدكتور محمود صادق على هذه الجمالية التي أغرقني بها، أم أقول له: سامحك الله فقد تمكنت من إثارة روحي ودفعي للكتابة في وقت كنت قد قررت أن آخذ إجازة وأرتاح ولو قليلا؟
"عمّان الهوى 8/12/2008"