هل المنشد أو الداعية بحاجة إلى شهادة دكتوراه
نجدت لاطة
المنشد الكبير أبو راتب يحضّر الآن رسالة الدكتوراه، وهو على وشك الانتهاء منها، فقلت له: يا أستاذ أبو راتب أنت أكبر من عشرين رسالة دكتوراه، فلماذا تتعب نفسك لنيل هذه الشهادة ؟ ولماذا تضيّع وقتك فيها؟ والنشيد الإسلامي بحاجة ماسة إلى هذا الوقت الذي يذهب في كتابة رسالة دكتوراه؟ فأجاب بما لم أقتنع به.
والمشكلة أيضاً أن الداعية الكبير عمرو خالد يفعل الشيء نفسه، فهو أيضاً يحضّر رسالة الدكتوراه، ويضيّع وقته في كتابتها.
لأن كتابة رسالة الدكتوراه تأخذ من حياة الطالب ثلاث سنين في أقل تقدير، وتكون رسالة الماجستير قد أخذت من حياته سنتين في أقل تقدير، وهذا يعني ضياع سنين طويلة من حياة إنسان له شأن في الدعوة أو في النشيد. لذا وجدنا أن المنشد أبو راتب ليس له حضور كبير في السنين الماضية في الساحة الإنشادية كما كان فيما قبلها، وسبب هذا الغياب هو انشغاله بكتابة رسالتي (الماجستير والدكتوراه) بالإضافة إلى انعزاله في مجاهل أمريكا.
والداعية عمرو خالد مقلٌّ في تقديم البرامج التلفزيونية، فهو يقّدم برنامجاً تلفزيونياً واحداً في سنة كاملة، وهو الذي يقدمه في شهر رمضان، وكان الأصل أن يقدم عدة برامج في السنة الواحدة، والسبب أنه مشغول في كتابة رسالة الدكتوراه.
وأتساءل: ما هذا العلم الخطير الذي سيأتينا من رسالة أبو راتب ورسالة عمرو خالد؟ هل سيحلّ الأستاذ أبو راتب مشكلة الفن الإسلامي في رسالته؟ وهل سينقل الأستاذ عمرو خالد الناس إلى حالة الالتزام من خلال رسالته؟ الجواب: طبعاً لن تفعل تلك الرسالتان شيئاً في حال الفن والدعوة، وإنما ستوضع رسائلهما على أدراج الرفوف ثم تنسيان، وبالتالي لن يكون للرسالتين شأن. إذاً فلماذا تضيع سنين طويلة في كتابتهما؟ أليس الله سيسأل الأستاذين عن تلك السنين التي أفنوها في كتابة رسالتين لا نفع يُذكر منهما؟ وكان الأصل أن يفني الأستاذان الكريمان أوقاتهما فيما هما مختصان به، أي في النشيد والدعوة، لأن النشيد الإسلامي بحاجة كبيرة لوقت أبو راتب وجهده، والدعوة بحاجة ماسة إلى وقت عمرو خالد وجهده. أما حين يتخلفان عن النشيد والدعوة لانشغالهما بكتابة رسالة الدكتوراه فإن هناك ضعفاً سيصيب النشيد والدعوة، لأن الاثنين كبيران في مجاليهما، والنشيد والدعوة بحاجة إلى كل ساعة من حياتهما.
إن سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه كان يقرأ القرآن قليلاً، بسبب انشغاله بالتخطيط للحروب الكبرى التي خاضها ضد المرتدين والروم والفرس، مع أن القرآن الكريم شيء مهم في حياة المؤمن، وقراءته أولى بكثير من كتابة رسائل ماجستير ودكتوراه، ولكن خالد بن الوليد كان يدرك أهمية تلك الحروب في نشر الدعوة، لذا نجده قد خفف من قراءته للقرآن وانشغل بالتخطيط لتلك المعارك التي فتح من خلالها الدنيا ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
إن ديننا العظيم علمنا أن نعطي نفوسنا حقها، فرحم الله امرءاً عرف قدر نفسه، فوضع نفسه في المكان المناسب له ولفنه ولدعوته.
وأنا أقول بكل صراحة: لو أن المنشد أبو راتب لم يذهب إلى أمريكا ولم ينشغل برسائل الماجستير والدكتواره لكان حال النشيد أفضل بكثير من الآن، وليس فقط حال النشيد وإنما حال كثير من الفنون الأخرى، ولرأينا برامج فنية كثيرة، ومسرحيات إسلامية، ومهرجانات فنية ضخمة.. لأن أبو راتب لديه إمكانيات فنية كبيرة، ولديه علاقات عامة كثيرة بأهل الفن تكفي لإنتاج أعمال فنية مختلفة تنقل ساحة الفنون الإسلامية إلى قطاعات واسعة من الناس.
والأمر نفسه مع الداعية كبير عمرو خالد، فهناك تقصير كبير من قِبله في متابعة شباب صناع الحياة المنتشرين في الدول المختلفة، فعلى سبيل المثال فهو لم يزر الأردن منذ سنتين، ولم نرَ له في القنوات الفضائيات إلا برنامجاً واحداً ، وهناك أمور دعوية أخرى هي بحاجة له وإلى وجوده فيها أو لمتابعتها..
المشكلة أن كتابة رسالتي (الماجستير والدكتوراه) تأخذ من مرحلة الشباب الشيء الكثير، فمثلاً قضى المنشد أبو راتب خمس عشرة سنة مشغولاً بأمريكا وبكتابة رسالتي (الماجستير والدكتوراه) والآن أصبح عمره ستاً وأربعين سنة، وهو الآن سيعود من أمريكا بعدما انتهى من كتابة الرسالتين، أي سيعود بعد أن انتهت مرحلة الشباب التي هي مرحلة النشاط والحركة، فهل ستكون همته ونشاطه مثلما كان سابقاً أيام الشباب؟ ندع الأيام تحكم على ذلك.
وقد يعترض علي البعض بأن كتابة رسالتي الماجستير والدكتوراه تزيدان في ثقافة الطالب، وبالتالي سيتأثر نشاط هذا الطالب بهذه الثقافة ويزداد وعيه . فأقول: كتابة الرسالتين ستزيدان في ثقافته حتماً ولكن ليس بالشيء الكثير، لأن هناك أشياء روتينية وشكلية خلال كتابة الرسالتين، وهذه الأشياء الروتينية والشكلية تأخذ وقتاً كبيراً من جهد الطالب، فمثلاً كتابة الفصل أو الباب تحتاج إلى تنقيح طويل، ومن ثم إلى تصحيح من قبل المشرف على الرسالة، ويحدث ذلك مراراً وتكراراً، وهكذا مع كل فصل وكل باب من فصول وأبواب الرسالة.
ثم إن الطالب في الماجستير والدكتوراه يتوقف تماماً عن المطالعة، ولا يقرأ من الكتب إلا ما يخص رسالته، أي يتوقف سنين طويلة عن المطالعة في الكتب المختلفة التي تزيد من ثقافته ومن وعيه، وهذا يعني حرمانه من الثقافة العامة، وكم رأيت من طلبة في الدراسات العليا وهم منشغلون بكتابة الرسالة فقط.
ولا بد أن أطرح هنا سؤالاً مهماً: لماذا لا يحرص المطرب كاظم الساهر على نيل شهادة دكتوراه؟ ولماذا لا تهتم المطربة نانسي عجرم بشهادة الدكتوراه؟ الجواب: لأنهما يدركان تماماً أنهما أكبر من عشرين شهادة دكتوراه متخصصة بالفن، ويدركان تماماً أنهما يقدمان رسالة سامية ( برأيهما ) من خلال الفن إلى عشرات الملايين من الناس بما لا يستطيع أن يقدمه آلاف الدكاترة في الجامعات. فلماذا تغيب هذه المعاني عن منشدنا الكبير وعن داعيتنا الكبير؟ وقد سُئل المفكر الإسلامي الكبير مالك بن نبي عن سبب ترك العمل بشهادته الهندسية، فقال: الأمة بحاجة إلى مفكرين وليس إلى مهندسين.وأنا أقول: الأمة بحاجة إلى فن المنشد أبو راتب وإلى دعوة عمرو خالد وليس إلى شهادتيهما.
ويذكر الشيخ يوسف القرضاوي أن الإمام حسن البنا رحمه الله كان سيسافر في منحة دراسية إلى أوروبا، ولكنه عدل عن ذلك وتفرّغ للدعوة.
وحين سافر الملحن الأردني محمد الغرابلة إلى أمريكا، قيل له هناك: النشيد الإسلامي بحاجة إلى وجودك في الأردن وليس في أمريكا، فرجع إلى الأردن وأنشأ مؤسسة فنية إسلامية وأصبح يخدم دينه وفنه الإسلامي أكثر من ذي قبل.
ملاحظة لا بد منها: كلامي هنا خاص بالمنشد المحترف وبالداعية الكبير، ولا أعني أبداً أن يترك المنشد الهاوي أو العضو في فرقة إنشادية دراساته العليا، ولا أعني أن يترك الداعية العادي أو غير المشهور أو غير المؤثر في الجماهير العريضة تلك الدراسات.