الوان الزهور ....
كان كل شيء في خرطوم زمان مرتبا ومعدا تبعا لخطة تُوضع قياسا على عدد السكان ، فتفي الخدمات دورها المطلوب وفقا لذلك!
كنت تشاهد عمال تنسيق وسقاية الزراعة وهم يجتهدون في جعل الشوارع حدائق ممتددة على مساحة البصر فتجعل نهار العاصمة أريجا لا ينقطع وهو يملاْ ذاكرة الشم ، ليبدأ تمازج ألوانها الجميلة مساءا مع انعكاسات الأضواء التي تتدفق كالشلالات في الطرقات وواجهات المحال ، حيث ألهمت الناس على تسمية اشياءهم الرائعة التي تعجبهم تيمناً بليل الخرطوم !
وهو ليل يلفه الأمان والأمن غير المفتعل في صخبٍ وقور في أغلب فعالياته إلا فيما ندر كاستثناء مستغرب وليس قاعدة باتت هي الأصل الآن !
كان إيقاعاً للحياة وجرسا حالماً لا تنام بعده العاصمة الا وقد غسلت وجهها وأطرافها وتمسحت كعروس مدت رجليها في غفوة الدلال بعد الانتهاء من وضع حنائها استعداد لعرس الغد المتجدد مع شروق الصباح الباسم !
كانت شبكات الصرف نظيفة عميقة مغطاة تمتص مياه الأمطار لتنساب قبل أن ترتاح ولو قليلا في
في اتجاه مجراها الطارد لها والذي يسعها مع مهامه الصحية الأخرى.
وهاهي بفضل التطور العكسي تحولت الى مكبات للنفايات والفوضى وقد كانت في عاصمتنا قديما مصلحة تسمى التنظيم !
الان كبرت تلك العروسة وشاخت وتبدل شبابها من عاصمة صغيرة ثلاثية الأبعاد المحدودة غضة جميلة الى عجوز اكتنزت أطرافها بترهلات لاحدود لها في كل انحاء جسدها الضخم ، وتشققت قدماها وتشمطت كفاها ولم تعد تتقبل حناء الماضي الآفل!
ولعل الصورة أعلاه تعكس كيف ، تراجعت عاصمتنا منكسرة الخاطر أمام ضغطها السكاني المريع الذي زحف اليها مع المجبرين بمختلف الأسباب والذرائع على ترك الريف فجاءوا بكل تباين ثقافاتهم وعاداتهم وتفاوت وعيهم ..وزاد من بلل طينها قصور السلطات في المحافظة عليها كعاصمة وانفلات زمام الخطط عن أياديها و التي ترّشد التوسع في البناء وقياس الخدمات عليه وضبط ايقاع الحياة وفقا للمعايير الحضارية!
كل ذلك دفع عاصمتنا للتنازل عن مسماها الرسمي كمدينة ، لتصبح قرية كبيرة .. بل ان أهل القرى باتوا أكثر تحضرا بعونهم الذاتي حفاظا على مظهرها وتسير دفة خدماتها بعد أن أصبحت الدولة خارج شبكة الخدمة تماما !
و يبدو أن برك ومستنقعات الخريف الذي يفاجي السلطان كل عام وذلك التكدس المشين للقاذورات و تمدد الأوحال وتعفن المياة الراكده والحاضنة لتظاهرات الحشرات الناقلة للأمراض ، يجعلها بجدارة تستحق لقباً غير مسماها الحالي جزافا كعاصمة .
لاجدال في أن الوعي السكاني هو العامل المساعد في صيانة المظهر العام في كل مكان ولا يقتصر الأمر على توفر الإمكانات المادية وحدها ولن يكون مجديا البتة ..ما لم يستصحب معه حزمة عوامل أخرى أهمها توفير المعينات اللازمة المتمثلة في مرافق الخدمات و التي يقوم عليها من يتولونها من العاملين المختصين بالرعاية والصيانة المستدامة حتى لاتتدهور و تتلاشى ومن ثم توجيه الناس وتثقيبهم على كيفية الإستعمال وبالتالي وضع القوانيين التي تعقبها كآخر مرحلة العقوبات للمخالفين !
حتى يشعر الناس بأن الأماكن العامة بدءا من الشارع الذي يرتسم ولو غير معبد من أمام كل باب وليس إنتهاءا بالأسواق والساحات والمركبات وغيرها هي مثل منازلهم التي يهتمون بترتيبها من الداخل !
وسوم: العدد 684