حوارات الشحاذين
ليس أتعس من الشحاذ إلا من من يأكل وحيداً في جمع كبير” .. جان بودريلارد ..!
لا شيء ينبئك بصدق عن أحوال الناس وحركة المجتمع كعملية بيع أو شراء لسلعة مستهلكة تكون أنت أحد طرفيها! .. مكتسبات عملية التسوق ليس مصدرها البائع والمشتري والسلعة - “محل العقد” - فقط .. بل ما تعكسه وجوه المارة وصيحات الباعة، وتلافيف الحوارات المتبادلة في أثناء المفاصلة، الأمر الذي يعطيك ألف جواب لألف سؤال يغنيك عن كتب السياسة والاقتصاد والاجتماع ..!
من بين التفاصيل الرتيبة والمتكررة التي نتعثر بها طوعاً أو كرهاً في أثناء التسوق حوارات الشحاذين ذات الجانب الواحد التي يديرون دفتها مع وجوه المارة الصامتة الممتعضة من الحاحهم الرتيب، ومن بين هؤلاء الشحاذين استوقفني ذات مرة شيخ ستيني نظيف الثياب مهيب الطلعة.. لو حضر الصلاة برفقة بعض ذوي الشأن لحلفوا - “بالتقطعهم”–على أن يؤمهم للصلاة من فرط وقاره وحسن سمته..!
يجلس ذلك الشحاذ الأنيق صباح كل يوم على عتبة أبواب المحلات المتلاصقة في موقع استراتيجي - يتوسط الصيدلية والسوبر ماركت وبائع الخضار واللحم- ويشرع في ملاحقة أصحاب العربات عند نزولهم منها أو عودتهم إليها .. ثم يبدأ في ترديد مطالبه بصوت قوي رصين لا تتناسب مع مهابته وما تتطلبه مذلة السؤال من خفوت و انكسار..!
تطورت علاقتي بذلك الشحاذ تطوراً مدهشاً قبل أن تنتهي، فقد بدأت بدهشتي العظيمة من كونه شحاذاً، ثم تمرحلت إلى إعطائه بعض النقود من باب “إطفاء الحجة” بعد أن كان يصر – في كل مرة- على النظر في عيني بثبات مخيف طالباً المساعدة بلهجة آمرة..!
بعد بضع مرات انتزع فيها مني بعض النقود كرهاً بدعوى الفرار من سؤاله المتلفع بالإكراه، قررت ألا أسمح له بإرغامي على التصدّق على رجل موفور الصحة أنيق الثياب مثله، فعمدت إلى تجاهله، لكنه بات يلاحقني وفي عينه ذات التحدي الصامت.. ولعله كان يعوّل في إلحاحه على نزوع المتسوقين الظاهر نحو “إطفاء الحجة”بإخراج بعض الفكة ..!
ذات جمعة مباركة قررت التسوق في شارع آخر كان يبعد مسافة معتبرة عن الشارع المعتاد، وهناك استوقفني استجداء سيدة منقبة تحمل في يدها “روشتة” دواء، سألتني المساعدة لدفع ثمن علاج طفلها المريض الذي كانت تحمله برهق وتحميه من حرارة الشمس بخرقة كالحة اللون بائسة المنظر ..!
عدت في اليوم التالي إلى موقع تسوقي الصباحي العتيق فرأيت ذات السيدة المُنقبة وهي تحمل ذات الخرقة الكالحة .. لكنني لاحظت بدهشة اختفاء الطفل .. كانت السيدة المنقبة تجلس بالقرب من ذات الشحاذ الستيني الأنيق.. استوقفني كثيراً طابع الجلسة الذي كان يشبه اجتماعات المدراء بالموظفين .. أثارت حيرتي صرامة وجدية رئيس مجلس الإدارة التي كانت تكسو ملامح الشحاذ الأنيق الذي اتضح أمامي جلياً أنه يدير شبكة تسول مترامية الأطراف..!
* كانت تلك – على كل حال – من اللحظات النادرة التي يتفوق فيها غرابة الواقع على خيال الكاتب ..!
اخر لخظة
وسوم: العدد 689