الخطاب المبجّل
كان من بين السامعين، حينما تفجّرت قريحة أحد الخاملين ويدعى "صابر الزعانيفي" في ذلك المقهى الّذي يعجُّ بالزبائن الكرام حين انبرى يتحدّث ويحادث الجالسين أمام شاشة تلفاز كبيرة معلق على الحائط، كاسرًا مزاجهم، وهم يشاهدون مباراة كرة القدم، بخطبة بابويّة غرّاء، وراح قداسته يحدّثهم بلسان سلسٍ سليمٍ عن شمولية الدّين في الحياة والمجتمع ومدى أهمية تطبيقه بحذافيره؛ لأن الدين يطرح للناس جميع الحلول اللازمة والمناسبة لكافّة قضايا الأمة الشائكة وحتى المستعصية. ثم تحدث عن فخرِ الأمةِ حين كانت تطبّق الشريعة بصورة صحيحة فوصلت إلى ما وصلت إليه من رقي حضاريّ وتقدم علميّ، وعن ذلّها حين ابتعدت عن الدين بسبب الغزو الثقافي الأوروبي وتآمر الأخرين عليها.
والخطبة المبجّلة هذه، والَّتي امتدت لدقائق معدودة، تقطّعت بها السبل حين تعالت صيحات المتفرجين عند إحراز الهدف الأول من المباراة المصيرية الأخيرة من الدوري.
وقتئذٍ نقلته الذّاكرة أثناء سماعه تلك الموعظة إلى حديثه الانسيابيّ بفخرٍ واعتزازٍ قبل أيامٍ عن بطولاته ومغامراته ومُواقعته في أثناء سفره للعديد من بنات الأبيض والأصفر وحتى الأسوْدِ ومن جميع الأعمار. فقال في نفسه.. لعلَّ الرجلَ أصابه الورعُ وقد صار أُمَّةً وعادَ إلى دينهِ وتاب إلى ربهِ. ولكنْ ما إنْ وطئتْ قدماهُ عتبةَ بابِ المقهى، بعد يومين من ذلك الخطاب التاريخيّ المقدّس، حتّى سمعه يحدّث زميلهُ عن بطولاته ومغامراته ومواقعته لإحدى بنات الهوى أثناء رحلته الأخيرة إلى بلاد المشرق الأقصى، وراح يصف له جسدها وصفًا دقيقًا وبالتفاصيل المملّة..
شعر الشّاب بغثيان في معدة كلماته ثم أحسَّ بقشعريرة في أفكاره وتشنّج في مشاعره وتساءل في نفسه: عمن يكذب قداسته؟ أيكذب على ربّه أم على نفسه أم على الناس أجمعين؟
ثمَّ اتّخذ لنفسه مجلسًا في زاوية المقهى، وطلب من النادل إحضار كأس من القهوة السادة، وقال لصاحبه: "في بلادنا حين تتحدّث عن الطب تجد القصار والبلاط والبناء قد صاروا يفهمون في الطب خير الفهم. وحين تتحدّث عن الدّين أو السّياسة تجد البوابرجي والكندرجي والطوبرجي وحتى المواسيرجي قد أصبحوا جميعًا ملمّين في الدّين أو السّياسة كلّ الإلمام. وحين تتحدّث عن التكنولوجيا.. واوو... تجد العامل والخامل وحتّى السّائل قد تحوّلوا جميعًا إلى تكنولوجيين ومكتشفين ومخترعين.. هذه هي حال الناس الذين يفكرون أنهم يفكرون ويظنّون أنهم يعرفون.
وسوم: العدد 771