لماذا لم تستيقظ ابنتي لتناول وجبة سحورها ؟
كنت في حديث صباحي على الوتساب مع صديق عزيز عليّ يعيش في أوروبا فإذا به في سياق كلام عن رمضان وتجارب الناس مع هذا الشهر الفضيل يحكي لي واقعة طريفة حدثت لابنته. أحببت أن أُطلِعَ عليها القارئ لِما فيها من فائدة معنوية وروحية قد تساعد المرء على الوقوف على بعض أسرار الحياة.
يقول لي صاحبي: ” جاءت ابنتي من العاصمة حيث تتابع دراستها الجامعية لزيارتنا في الشمال. كانت أمها مريضة ولم ترها منذ شهرين على الأقل. لكنها تعالج في مصحة خاصة في مدينة بعيدة جدّاً عن بيتنا. اِتّفقنا على أن نقوم بزيارة أمها غداة وصولها.
قضت ابنتي الليلة عند جدتها، وفِي الصباح أخبرتني في الهاتف أنها لم تستيقظ لأخذ طعام السحور، ليس بسبب المنبّه الذي ما فتأ يرنّ ويلحّ في الرنين بل لكونها كانتتعتقد أنها في حلم أو كابوس أو عالم آخر. نصحتُها بما أنها ستسافر قصد زيارة أمها وستقطع أكثر من مائة كيلومترا أن لا تصوم.
وبعد أن اِلتهمت السيارة الطريق الطويل ووصلنا الى المدينة التي توجد بها المصحة المذكورة آنفا حتى هرولت ابنتي شوقا لرؤية والدتها فرأيت عند اللقاء شيئا تجاوزني. رأيت الزمن الإنساني في شرط العناق والاحتضان والالتصاق والدموع، وقد تحوّل إلى لحظة وجودية مذهلة يتجلى فيها حضورٌ قوي عظيم جذّاب يكاد يكون إلهيّاً !
وبينما أنا أتجوّل في أزقة المدينة الهادئة النظيفة الجميلة، وحيداً صائماً، بعيداً عن أسرتي الصغيرة التي كانت تباشر وجبة غذاءها في مطعم بروطاني، إذ أشرقت في قلبي خاطرة ! همستُ بها لابنتي في اُذنها بعد أن فرغت من الأكل وعادت تحدثني فرحة بقضاء لحظة ممتعة مع أمها وجدّتها وأخيها الصغير: لم تستطيعي القيام لأخذ سحورك، ياعزيزتي، لأجل حكمة أرادتها مشيئةُ الله ! أراد الله أن تأكلي مع أمك التي لم تراك منذ أكثر من شهرين، أراد الله أن لا يحرمك من الجلوس مع أمك وأن لا يحرمها ويحرمكم كلكم من قضاء لحظة جميلة فيما بينكم !
وأضفتُ قائلا : ألآ أردّد على مسامعكم دائما أن رحمة الله أوسع ممّا نتصوّر ونأمل ؟
اِبتسمتْ لكن ابتسامتها لم تكن ابتسامة عادية! كانت عريضة وعميقة تحمل في ثنايا الشفتين وسماء العينين شفافية غريبة تلمع بنبض التصديق، ووهج التسليم.
كانت عظمة هذه الابتسامة في بساطة ونصاعة رسالتها. كانت ابتسامة ثقةٍ فيما يقوله الأب لابنته ! وكانت، في آن واحد، ابتسامة ثقة في الرب، في رحمة الله !
وهذه الثقة تنقص الكثير من المسلمين الْيَوْمَ لأنهم يعيشون علاقة متوترة، مبنية على الخوف، مع دينهم وربهم ! وهذا الخوف يتحول إلى خوف من الحياة نفسها ويجرّ الإنسان إلى عدم الثقة بذاته !
وعندما تكون الذات الفردية على هذا الحال فما بالك بالذات الجماعية التي تكوّنها وتنتمي إليها الذواتُ الضعيفة المهزوزة، الخائرة والخائفة من كل شيء ؟
هل يمكنها أن تنجح في تخطّي عقبات الحياة وتجاوز تحدّياتها ؟هل يمكن لها أن تساهم في عمران ما ؟ هل تستطيع أن تكون خلاقة مبدعة ومنتِجة؟ هل بمقدورها أن تساهم في العطاء المعرفي والعلمي والحضاري فتدفع بنفسها، ومجتمعها والإنسانية التي هي جزء منها، إلى الأمام ؟ هل يمكنهاعموما أن تنجح في تخطّي
أعود إلى ردة فعل ابنتي. لم تكتف بالابتسامة بل قالت لي في حماس شديد: لن أضيع فرصة النهوض لأخذ السحور غدا فأنا عازمة أكثر مما مضى على النجاح هذه المرّة!
وهنا حصل ما سيجعلني أفهم السرّ الحقيقي بصدد إرادة الله. سمعت قلب ابنتي يتكلم ! وهذا شيء غاب عني في البداية. كانت إرادة الله أن لا تستيقظ ابنتي من أجل وجبة السحور، وأن تفطر، وأن تقضي وقتا سعيدا مع أمها بالقرب منها أكلاً وحديثاً وامتلاءً عاطفيا وحضوراً شعورياً لأن الله اضطلع على قلبها فعلم أنّها كانت صادقة ! وهل هناك شهادة أكبر على حب الله مثل الصدق ! صدق القلب ؟! كفى الله ابنتي عناءَ الصيام، وهو من الحقائق الربّانية الكبرى، وعوّضها بحقيقة ربّانية أخرى. هذه الحقيقة تتجلّى في عنايته بها بوجوده في قلب علاقتها بأمها. هكذا ظلّت حقيقة الصيام في حميميتها الإنسانية-الالهية متواصلة في شكلها الآخر المضاد الذي هو الإفطار ، بخيط رفيع من نور الرحمان الذي كان حاضرا في علاقة البنت بأمها !
وها أنا أذهب بعيداً في تأويلي، إنّني أدّعي كاْب أنّ في إرادة الله عدم اِيقاض ابنتي لتناول سحورها حتى لا تصوم علامة على حبه لها !
وكم أتمنى وأدعو الله أن لا أكون مخطئا لأنّه إذا كان ما أحس به صحيحا فسوف أكون أسعد أب على وجه الأرض » !
انتهى نصّ صاحبي الراوي ! والحال، لا أخفي على القارئ أنّي أغبط هذا الأب الصديق !
وسوم: العدد 776