منشطر الذات
الحلم الأول :
استغرقت كثيراً في النوم ، مررت خلاله بمراحل عديدة لم أعي فواصلها
جيداً ، لدرجة اختلاط نهايات بعضها ببدايات الأخرى ، وهذا ما أكد لي بعد
أن طرّدّت جزءاً كبيراً منه بقوة قاهرة واستغربت وتساءلت بل وتكللت
بالعجب : من أين تملّكت هذه القوة القاهرة التي استخدمتها وكانت طيّعة
جداً ونفّذت رغبتي بسرعة أذهلتني ..؟ طرّدت بها قسماً لابأس به من تراكم
ذلك النوم الداكن الثقيل ....!
كنت أتململ وأعيب على نفسي بأنها لم تتمكن من إزالة تلبد النوم المهيمن
عليها كاملاً ، الذي أعترف أيضاً أن له فضل كبيرفي تخلصي من إرهاق يوم
مشتت التركيز، ضائع جل ساعاته في محاولة تشطير ذاتي ..!
وبالرغم من ذلك كله حسبته كابوساً أو هو حقيقة جزء من كابوس ، ولا
أحد من أولئك الذين رأيتهم يتناوبون علي في مراحل هذا النوم أو الكابوس أو
هو منام تعس لا أدري ، وكانوا أناساً بشراً مثل هيئتي ،أكد لي أنني أخضع قسراً
لأي من هذه ، بل كانوا وكأنهم يحاكون واقع يومي الفائت بل واقع بعض الأيام
التي مضت أيضاً ، ولم تكن بأي حال تتمتع بأقل قسوة وغربة من يومي العتيد
الذي فارقني وهو على يقين أنه لم ينقشع نهائياً ..
أول إنسان رأيته في الصباح الباكر جداً ، وأنا خارج من مدخل العمارة التي
أسكن فيها ، كان حارسها ، مررت من جانبه ومضيت ، أيقضني بصوته
الحاد ، راداً التحية التي لم ينطقها لساني ولم تخرج من فمي ، كنت أطلق
عليه ب (حارسي الشخصي) لأنني الساكن الوحيد الأعزب في البناء كله
وكان يوهمني أنه يفعل ذلك تقديراً لي .ومع ذلك كان متفرجاً لم يفعل لي أي
شيء حينما دخلت بيتي ووجدته خالياً لا أثاث فيه ، بل وفيه أشخاص غرباء
يتناوبون بالضحك ، ولم أستطيع فعل شيء حيالهم ..تساءلت في سري كأني
رأيت ملامح الحارس بين أولئك الذين كانوا في شقتي في المنام ..؟!
ركبت الحافلة ولم تكن مزدحمة لأنني كنت مبكراً ، ومع ذلك آثرت الوقوف
ولم أجلس على مقعد طيلة الوقت حتى وصلت إلى أقرب محطة ، أسير
منها عشرة دقائق وأكون بعدها في مقر عملي ، لقد كان سائق الحافلة ينظر
إلي من المرآة العاكسة أمامه ، وهو يبتسم حيناً عندما تلتقي عيناي بعينيه ،
وعندما ألوح بوجهي جانباً ، أسمعه يضحك وضحكته عالية وكأنما أحد ما
يجاوره ويبادله الضحك في هذا الصباح غير المزدحم ..! مع أنني لم أرى
شيئاً من ذلك أبداً ، وفي الزمن القصير لمعت في ذاكرتي ملامح كانت شبه
مطابقة لملامح سائق الحافلة ، لكنها سرعان ما هربت ، ذلك لأن رجل
الأمن في أول مدخل لمقرعملي استفزني بسؤاله المتجاوز لصلاحياته :
لم لم تأتي للعمل يوم أمس يا أستاذ ؟ وها أنت اليوم تأتي مبكراً ؟ وقفت
متسمراً في مكاني مركزاً على قسمات وجهه الذي ارتسمت عليه ابتسامة
كالتي رأيتها قبل قليل وقد هربت مني ، وها هي تأتي بصاحبها الذي كان
أحدهم هناك .. !
ويبدو عليه وباستمرار ابتسامته الصباحية ،أنه لن يتوقف عن استفزازي
ذلك لانه حوّلها إلى قهقهة ماكرة لتمرير شيء ما يريده ، تركته في حالته
ودلفت متجهاً لجهاز بصمة العين ، التي امتنعت عن التعرف على عيني
مكررأ المحاولة ثانية وثالثة ، لكنها أصرت على تنكرها ..! فاجأني صوت
امرأة مألوف على مسامعي من خلفي يخاطبني : تمهل قليلاً مهندس نعيم ، أرني
عينيك ..وأخرجت منديلاً من حقيبتها ،واقتربت كثيراً مني حتى طابقت عيناها
بعيني ، نعم هي سارة موظفة ال HR أخذت تمسحها ، وهي تردد :يبدو أنك
لم تنم جيداً يا استاذ ؟ وقبل أن أعقب على تساؤلها ، أجاب رجل الأمن وهو
يدخل البهو وينتهز فرصته التي زرعها سلفاً بقهقهته الساخرة :
الجهاز لن يعمل حتى السابعة والنصف بقي خمس وأربعون دقيقة ، بإمكانكما
قضاء موعدكما بالمقهى المجاور، وظل يقهقه راجعاً إلى حيث كان ..
همست لسارة قائلاً مشير إليه : كان أحدهم نعم لقد رأيت ملامحه ، وأبعدت
وجهي قليلاً وأنا أشدد التركيز بوجهها ، قلت لها: إطمئني ياسارة لم أراك
معهم ..أنا متأكد تماماً ..!!
الحلم الثاني :
كانت رائحة العطرأقوى مما كانت عليه في الصباح ، ويبدو أنها قد وضعته
مجدداً قبل أن تأتي على غير عادة منها ، إذ كان البريد الداخلي يأتي به موظف
إداري درجته أقل بكثير من سارة ، حيث هي حقوقية مفرغة لصياغة وتدقيق
كل ما يتعلق بالعقود مع الشركة مهما كان محتواها أومصدرها ..وهالني
التعجب من عملها هذا ، ويبدو أنها عرفت ذلك فاستبقت أي سؤال مني وبادرت
قائلة مفككة لغزها الجديد وبتكلف واضح :
- لاعليك مهندس نعيم ، موظف البريداليوم في حالة مرضية عند الطبيب
وقد كلفني المدير العام بهذه المهمة نظراً لأمور هامة ومستعجلة مع
إدارتك الفنية ، وطلب مني إبلاغك بمقابلته في الساعة الثانية عشرة ،
أي بعد ربع ساعة من الآن ..
وقفت متسمراً مرتبكاً أمامه ، هو يدعوني للجلوس ، وأنا أقاوم تلك الحالة التي
خرجت بها من بيتي في الصباح ، متمنياً أن لاتعود إلي هنا على الأقل في هذا
المكان ، وفضلت أن لا أجلس أبداً ، إنني إذا جلست فيقيني في شك أنني لن أستطيع
الوقوف ثانية أبداً ، وسوف تحل علي الكارثة لامحالة ..!
ذلك الوجه الذي كان نصفه في العتمة الحالكة ونصفه رمادي ، هو الآن أمامي
و ماانطبع بمخيلتي كان مشابها له تماماً ، فكيف لم أتذكره ؟ وكيف لم يخطر
في ذهني أنها ملامح المدير العام ذاتها ..؟! بل وإضافة لكل ذلك فلماذا يستقبلني
بقهقهة منسوخة عن قهقهة رجل الأمن في الصباح ..؟ !
الحلم الثالث :
لولا الأستاذة سارة حقيقة لما اهتديت لمكتبي ، فقد كانت في انتظاري عندما خرجت
من مكتب المدير العام وأنا بحالة مغيّبة تماماً ، يبدوأنها في لهفة واضحة لم أعهدها
فيها إطلاقاً ، ولأول مرة منذ سبع سنوات تاريخ بدء عملي هنا ، أراها تشعرني
بوجودي أو وجودها ، حيث لم يكن أي مبرر أو أي فرصة لنتكلم مع بعضينا مثل
ما حدث اليوم ..
ساعتان قضيناها معاً ، أنهينا كل الأجندة التي طلبها المدير العام ، في الفرع
الجنوبي للشركة ومستودعه ، ومن المعلومات الجديدة التي أضفتها لذاكرتي في
هذا اليوم الغريب عن الأستاذة الحقوقية سارة ، أنها تمتلك سيارة ، وأنها تقودها
بمهارة وخبرة عالية كما رأيتها ..!
خرجنا من المطعم بعد أن تناولنا وجبة غداء جيدة ، وأكدت لي سارة بأن فاتورة
ثمنها يغطيها مكتب المدير العام بناء على تعليماته أيضاً .
الحلم الرابع :
اعتذرت سارة بشدة عن قبول دعوتي لشرب القهوة في شقتي ، معللة ذلك
بضيق الوقت وطول طريق العودة لمنزلها ، كان الحارس واقفاً في وسط
المدخل الرئيس للعمارة والشرر يتطاير من عينية ، ظننته يريد أن يعاتبني
من جراء لامبالاتي له في الصباح ، لم ينتظر حتى أبين له تصرفي ، بادرني
بحدة وعصبية ، ملوّحاً بأوراق يمسك بها في يده بوجهي :
لم لم تخبرني يا مهندس نعيم بأنك تريد أن تبيع الشقة بهذا السعر ، كان بإمكاني
أن آتيك بزبون يدفع لك أكثر من هذا المبلغ الذي بعتها فيه ، ألم تثق فيّ
كل هذه السنين التي خدمتك فيها ؟
وقفت متخشباً بمواجهته أستمع له وهو يردد الأسئلة ويكررها علي ، لم
أنبس بحرف واحد ، انتظر الحارس بعد طول محاولاته ، أن أفيده بأي جواب
لكني لم أفعل ، لم يعلم ماذا حل بي ، ولم يعلم ماذا تحرك بذاكرتي ، وما
الذي جال بمخيلتي ، وبقيت جامداً كأنني تحولت إلى حجر أصم ..!!
يبدو أنه اقتنع بأنني الآن أمامه بحالة غريبة ، فقرر أن يأتيني من غير اتجاه
ولكن وقبل أن يفعل أي شيء ، مددت له يدي بصعوبة بالغة ، وطلبت منه
بصوت خافت ،مشيراً له أن يقودني إليها ..
وبمجرد ما فتح بابها ، بد ت كما رأيتها في الليلة الماضية ، خالية إلاّ
من أولئك الذين عرفتهم واحداً واحداً ..... وقد اغتصبوها ...!!
الحلم الخامس : .......... ؟
وسوم: العدد 811