هؤلاء الحاقدون
هربت من خوفي بافتعال حديث مع جاري، القابع إلى جانبي في سيارة الأجرة، التي تقلّنا من عمان إلى بيروت.. كنا قد اقتربنا من نقطة الحدود السورية في درعا، بعد الرمثا الأردنية بدقائق معدودة، حيث لا يفصل بين البلدتين أية مظاهر من مظاهر الانتقال ، جبالاً كانت أو أنهاراً، أو غيرها.. ليس هناك من علامات طبيعية تنبئ بأنك قد خرجت من وطن ، ودخلت وطناً آخر ، اللهم إلا أن تقول إنه الإنسان ؛ ذلك المَعْلَمُ الذي هو بالذات صانع الحدود ، ولا شيء غيره.
- قلت لجاري : اقتربنا من الحدود السورية .. أليس كذلك؟
كانت كلماتي تخرج من حنجرتي مرتجفة ، حين وجهت له السؤال ، ودون اكتراث منه، ومن غير أن يكلف نفسه عناء الالتفات نحوي ، قال بصوت خافت :
- أظنّ ذلك ..
- قلت له بتوجس : هل هي أول مرّة تزور سورية..؟
نفث دخاناً كثيفاً من "سيجارته"، ثم رماني بنظرةٍ متأملةٍ ، وقد شحن سحنته بتضاريس متعاليةٍ، وقذفني بكلمةٍ غير مُجامِلة :
- وما دخلك أنت...؟!..
أسرعتُ إلى تصحيح الموقف قائلاً: لا تزعج نفسك.. فأنا لا أبتغي إلا قتل الوقت الصامت المتطاول .
لم يعرني أي اهتمام ، بل أشاح بوجهه عني ، وتابع سحب الأنفاس من لفافته التبغية ، وكأنه يقول : قتل الوقت يكون بمثل ما أنا أقتله الآن.
عدّلت من جلستي ، وباعدت وجهي عن وجهه، وقلت في سرّي: لعلك لا تدري أنني أحمد الله على أنني لم أذق هذا الطعم الخبيث في حياتي. لقد عافاني الله منه.. وبقي الدور عليك . وهكذا فقد أجلت بهذا الحديث العبثي مع جاري الخوفَ ، وأمضيت الدقائق التي تفصلنا عن الحدود السورية . فرغم أنني لا أحمل شيئاً مُداناً، وأنني ذاهب إلى جامعة بيروت العربية، وليس إلى سورية ، فقد كان مصدر خوفي تلك المجلات الإسلامية التي تصدر في مصر علانية، وقد اصطحبت منها عدداً لا بأس به، وضعتها في صندوق كرتوني، أبتغي بيعها للطلاب أمام الجامعة في بيروت، كي أتدبر منها جزءاً من نفقاتي، حيث سأمضي بضعة أيامٍ أقدم فيها الامتحانات النهائية (لبكالوريوس التجارة)، وقد علمتُ من الأخبار، ومن خلال سماعي لتجارب بعض الأصدقاء ، أن القوم المتنفذين في سورية حاقدون على كل شيءٍ يَمُتُّ إلى الإسلام بصلة .
ودخلت السيارة بنا ساحة مركز الحدود ، وهنا راودني الخوف من جديد ، وشعرت بقلبي يقفز من مكانه قفزاتٍ مؤلمةً ، تهزّ جسمي الضخم وجثتي الهائلة هزاً أزعج جاري النحيل، فأخذ يتحيز في المكان بعيداً عن حراكي اللاإرادي، ورحت أدعو في سرّي ضارعاً إلى الله ألا يكتشف جواسيس السلطة مجلاتي التي كنت آمل منها بعض الربح. وتوجست خيفة من الاحتمالات ومآلاتها، وراح بعضها يبعث في جسدي صرخات داخلية تهزّ كياني، لأردد في سرّي:
- ماذا لو أن السائق كان من عيونهم..؟ لقد رأى المجلات عندما حمّلتها، إذ فتح (الكرتونة)، وسألني عنها، وعن سبب حملها معي، وأجبته، ولكنه دار برأسه يميناً وشمالاً، ومطّ شفتيه مستغرباً مستنكراً، وقال:
- قد تسبّب لنا مشاكل على الحدود.
- لماذا..؟! إنني أحملها إلى بيروت وليس إلى سورية، وهي مجلات علنية، تصدر في بلد عربي مأذونة ومتداولة في كل البلاد.
- لكنها إسلامية..!
- وماذا في ذلك؟
- كأنك لا تعرف النافذين هناك..!
- إنني أتحمل المسؤولية عن هذا الحمل.. توكل على الله..
ضحك ضحكة ساخرة ، ثم أغلق باب صندوق الحقائب، وقال وهو يهزّ كتفيه بلا مبالاة:
- أنت حرّ..!.
تركني في تلك اللحظة، وقد غرس في كياني ألف شك وألف حيرة، لكنني صمّمت على المضي في حمل المجلات، لأن فيها ما يكمل نفقتي، فأنا طالبٌ فقيرٌ يتيمٌ ، انتزعَ بهجة التعلم من أنياب الفقر واليتم ، وبسلاح الصبر والتحمل والإصرار، وكلها هِبَاتٌ غالية من الله.
((آهِ.. "أيتها الحرية الواقعة في فخ" )) بعد الإذن من (شكسبير) صاحب الجملة، لماذا تزيّنين لنا المضي في الأمل ؟. ألأن اغتصاب كل شيء في الأوطان عودنا الصبر، ثم الاقتحام؟.. أم لأن ذلك قادنا إلى اللامبالاة واللاحذر؟.. وفجأةً .. قفز إلى مخيلتي ذلك الجار المتعجرف ، وجال في كياني سؤال يقول : لعله أحدهم ؟! لكنني طردت هذا الخاطر ، حين جاءت فرقة الجمارك ، وفتشت السيارة ، ثم ذهبت دون إبداء أية ملاحظات ، و فزت بشيء من الراحة . غير أنني عندما أرسلت بصري إلى بعيد في آخر الساحة ، رأيت السائق يتداول الكلام مع اثنين من الموظفين ، يرتدون لباساً مدنياً، ورأيتهم يوجهون النظر إلى المركبة التي تقلّني، عندئذٍ تأكد لدي الشك في ذلك السائق ، ولم أستطع أن أحتفظ بالراحة التي راودتني للحظات، بعد مغادرة رجال الجمارك ، وأخذت التخمينات البائسة تتراكم في مخيلتي بلا إجابات ، وشعرت بوشاح مختلط من معادلة الخوف والرجاء يطرز تضاريس وجهي ، لكن ذلك لم يدم طويلاً، إذ رأيت الحاقدين الصغيرين يقتربان من السيارة، بصحبة السائق (الجاسوس)، حتى إذا لامس أحدهما ظهر صندوق الحقائب في مؤخرة السيارة، طلب من السائق فتحه، وفي الحال ذهبت يد الآخر إلى (كرتونة) المجلات مباشرة، وفتحها، وراح يقلّب محتوياتها، وإذ تأكد له نوعية المجلات، توجه لي بالسؤال:
- هذه الكرتونة لك..؟..
- نعم..
- كيف تأتي بهذه المهربات إلى البلد..؟
رفعت بيدي خصلة من شعري الطويل الناعم ، تدلت فوق جبيني الذي تحول إلى خليط من اللونين الأصفر والأبيض ، ثم قلت :
_ سترك يا رب .. إني أحملها معي إلى بيروت لأبيعها وأرتزق منها..
- لا.. إنك مخرّب.. أنت تحملها إلى المخرّبين هنا في بلدنا..
- أبداً.. أنا طالب يدرس في بيروت ، ولا أعرف أحداً هنا.. وطريقي إلى بيروت مباشرةً، وهي مجرّد مجلات لا غير..!
- على كل حال.. سوف نرى.. وأمر زميله جازماً حازماً قائلاً: اقبض عليه. ثم أضاف: وخذ هذه المهربات معك.. "أهٍ.. أيتها الحرية الواقعة في فخ.. تحاولين الوجود، فإذا بك تقعين بمزيد من الشباك"، مع الاعتذار مرة أخرى من (شكسبير).
- ألأنها مجلة..؟.. أم لأنها إسلامية ؟ تساءلت في سري.. وأجابني صوت من أعماقي يقول : لكليهما : المجلة والإسلامية ، ألا تعلم أنهم حاقدون على الحرف إلا حرفاً يمجِّد حقدهم..
واقتادوني إلى مركز الشعبة السياسية في درعا ، حيث قابلني ضابط المركز في البداية بأدبٍ وضيافة ، وكم كانت دهشتي عظيمة حين اكتشفت أن الذي يكتب الاستنطاق هو جاري في السيارة .. ! لقد ضحكت في سري كثيراً ، وقلت : شاهر .. أنت مغفل !
سألني الضابط عن المجلات وإلى أين هي ذاهبة ؟ قلت له : إنها مجلات .. مجرد مجلات . ثم إنني أصطحبها إلى بيروت لأبيعها هناك ، وأحصل على بعض المال . وعند آخر كلمة قلتها ، انتفض الضابط انتفاضة ذبيحٍ لم يكتمل فعلُ السكين فيه ، فتغيرت معالم وجهه ، بعد أن بدت للحظات ناعمةً مطمئنةً ، فقد غشاها ما غشاها من نار الغضب ، فاسودّت وجنتاه، واصفرّ جبينه ، وارتجفت شفتاه ، وراح يطلق الكلمات ، كأنها رصاصات مدفع رشاش : أنتم مخرّبون ، لا ينفع معكم التعامل الحسن، العنف هو الذي ينفع معكم ، أنتم كلاب ، مخربون.. أولاد (....) (وَلَا).. إن لم تقل الصحيح ، فسوف نذيقك ونذيق هذا الجسم الضخم الذي تحمله سوء العذاب... وصاح بالجلاوزة قائلاً: خذوه إلى القبو.. واعملوا له اللازم..! كي يفصح عن الحقيقة.
ومن حسن حظي أنهم أوكلوني إلى مجنّد (جندي يخدم العلم) من حلب، ليس من فئة أهل الحكم، وبدأ معي التعذيب، بأن رفع رجلي إلى محاذاة حديد النافذة بشق نفسه، لأن رجليّ كانتا أثقل من وزنه هو، ثم ربط قدميّ بالحديد بحبل نحيف، وذهب إلى آخر القاعة الراعبة المضاءة نصف إضاءة، ليحضر (الكابل) المجدول، ليقوم بضربي به، فلما عاد وجدني قد خلَّصت رجليّ بأن رفعتهما إلى الأعلى، ثم أنزلتهما بقوة إلى الأسفل فقُطع الحبل، وفككت قدميَّ ، لكنه عاد يحاول من جديد مرة ومرتين وثلاث مرات، حتى كلَّ وملّ، وهو الذي كان غير مقتنع بما يفعل ، ولكنه الأمر.. عندئذٍ قال لي : اسمع ، سأرفع رجليك لآخر مرة وأربطهما بحديد النافذة ، ثم أبدأ بضرب الحائط ، وما عليك إلا أن تصرخ صرخات المتألم.. وذلك كي يسمع الضابط ومن حوله، فيطمئنوا إلى ما يحدث، وهكذا أمضيت معظم الليل على هذه الحالة، وفي تلك الأثناء كنت أدندن ببعض الكلمات ، أسلي فيها نفسي : ((رباه.. هذا الليل يتنزى قهراًً، وحديد النافذة يقطر أشباحاً، تهوي على ذاكرتي، تبتغي أن أفقد يومي، وأن أنسى غدي ، كلا.. لن تستطيعوا سرقة وقتي، ولا محو الهدف من قلبي، ما دامت صيحة عمر تجلجل في زمني وفي كل زمن: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً". ولسوف أدفع الثمن مهما غلا، ما دامت كلمات ذلك الطفل تسكن قلبي وعقلي : "اصبري أماه فإنك على الحق"، و لا تمحوها ظلمة ولا ظلم.. فحشود التاريخ المضيء خلفي، وإشراقة الغد المنتظر من قِبَلي..)). وظللت كذلك حتى حنا عليّ نداء الفجر ، يهتف من منارة المسجد القريب ، ليقول : أن استيقظوا أيها النيام ، فالخير الخير في هذا الفجر الوليد.
وكأن المجند الموكل بي قد حنّ لكلمات المؤذن ، فقال لي :
كفى.. كفى يا هذا.. لقد قتلني هذا القهر! سأتركك الآن.. فالقوم الآن جثث نتنة، يحشرها النوم وهي ثملة..
وفي الصباح عاد الضابط وقابلني ، وما زالت آثار السُّكر تطيح بمعالم وجهه . قال لي وهو يفرك رقبته ويتثاءب : بعد ما حصل لك الليلة ، ماذا تقول لنا ..؟
- لقد قلت لك الحقيقة من قبل، ولو أن لي علاقة بأحد في سورية لأعلمتك به، وخلصت نفسي من هذا المأزق.. ألا تصدقني..
- قال : طيب.. طيب.. سوف نعيدك إلى بلدك.. ولكن المجلات مصادرة..!
رباه لقد كان قراراً مفاجئاً ، وما كنت موقناً بالنجاة ، لعلّ قدري المقدور من الله هو الذي ألهمه تلك الكلمات وهو بين صحوٍ وثَمَلٍ..!
ولكي أثبت قناعته بقراره قلت له :
- يا سيدي.. أنا رجل فقير ومحتاج لهذه المجلات.. أرجو أن تعيدها لي.
- لأ ، لأ.. أبداً ، ونادى أتباعه ، وقال لهم: خذوه وألقوه قريباً من نقطة الحدود الأردنية..
وعند كلمة ( ألقوه ) ، لم أستطع مقاومة قول الشاعر وهو ينشد :
( نحن عشاق النهار سنظل نحفر في الجدار )
( إما فتحنا ثغرة للنور أو متنا على وجه الجدار )
وسوم: العدد 812