عجورة ... وبطاقة المكس الملعونة
يمسح إبراهيم العرق المتصببَ على جبينِه ، ويتدارك مايسيلُ منه على رقبته ، ويملأُ شفتيه ب : ( لاحول ولا قوة إلا بالله ) ، ممتزجةً بأنفاسِه الحَرَّى ، وتدفعُه أفكارُه وتحليلاتُه إلى آفاقٍ ربيعيَّةٍ نائية ، ويُخيَّلُ إليه أنَّ رطبَ نخيلها مازال شهيَّ المذاق ، حُلْوَ المطلع على تلك الباسقات التي تأبى الخضوع أو التآكل ، ولن تجفَّ تحت أفيائها نجاوى المطاردين من أهلها الأوفياء ...
ويلهم ... جعلوهم يخلطون حبَّ الوطن بوهج هذا الغتم الذي يكادُ يأخذُ بمجامع النفس ، ويتحسَّونه قدرا معسولا بالصبرِ والأملِ ، وإنْ طفح الهرصُ على بعض مساحات من أجسادهم الطاهرة التي لم تنبت على السحت ، وساقوا مشاعرَهم قسرًا لتطحنَها نقائصُ المهزومين برحى طلباتِ وأذواق موظفيهم بمحطة المكس في شارع غربتهم الطويل . ويعتدل إبراهيم في جلسته على الكرسي الخشبي الذي يتسع لثمانية أشخاص ، وليرحل عن هذا المكان شطرَ مراتع الصِّبا ، وبساتين الذكريات الوارفة بثمار اليقين بالله عزَّ وجلَّ ، والتي لايراها أهلُ الأسواق المزيفة بما يُسمَّى ... ديمقراطية ، حرية ، عدالة ، حقوق الإنسان ... إلى آخر قائمة البضائع المستوردة من المخزن الغربي المتعفن . فذكرياتُ إبراهيم وإخوانه تسمو بها قيمُها الربانية التي لاتباع وتُشترى على يد أصحاب تلك اللوحات المزركشة والقابلة للتآكل والزوال . فمغانيها الفينانة لايستطيع بريقُ السَّرابِ أن يُصحرَِّها ، فقلوب أهلها الأبرار لاتشتعلُ فيها نيرانُ الحقدِ ، التي اتقدت في أكبُدِ غيرِهم على ركام زمن الكساد . وتمتد به دروب المناجاة التي تلتقي نهاياتُها بمرابع الخطوات الأولى ، على مزارع الوفاء ، ولم تزل ظلالُها ممتدةً لكل أهل المنظومات الرصينة التي تحاول أن تتغنَّى بحبِّ الوطن ـ ولو بفتور ـ ويستيقظ إبراهيم ، ويهزُّ رأسَه مؤكدا أنه وإخوانه الصَّابرين مازالوا يعشقون تجديد أعمارهم على نفسِ مراتع الفطرة الأثيرة ، فنهاراتُها الأثيرة لم تزل تغسل كلَّ أدران الجاهلية الثانية ، جاهلية المسلحين بالضياع والظلم واللامبالاة ، مع الذين سخَّروا التقنيات والتكنولوجيا الحديثة لصناعة أنياب الحقد لإرهاب الخلق ، وليقطعوا عليهم دروب عودتهم إلى نفسِ النهارات المشمسة ، وأُمسياتها المقمرات . وينظر إبراهيم إلى ساعته وكأنه يستعجلُ عقاربَها للخلاص من وهج البالونات الحرارية التي تتفجر باستمرار في مركز قَطْعِ بطاقات المكس الملعونة . وللاستراحة ـ المؤقتة ـ من مداهمة أفكار ودفاتر عتيقة أخرى عمرُها ثلاثون عاما . وتطرق سمعَه تحيَّةٌ : السلام عليكم ورحمة الله . فيرفع رأسَه من وطأة المشوار الثقيل الطويل الذي كان فيه ، ليردَّ التحية بأحسنَ منها : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، وما أن رأى أخاه مباركا يقف إلى جانبه ... حتى زاد التحية بالترحاب والمعانقة وببعض الدموع المشوبة بالشوق ، فمبارك عائدٌ من أرض الوطن ، وفي وجهه ارتسم شريط ذكريات الأيام الخوالي... مراتع الصِّبا ، الروحات ، حلقات المساجد ، أحياء المدينة التي تشهد لهم بالطهارة والمآثر .
حيَّاك اللهُ يامبارك . كيف الأهل ، والأحباب ، كيف الوطن ؟!ليتنهد العائد ويبعث الآهات الملأى بثِقَلِ الأغلال والاستهتار بالناس والمال والقيم ، وتتثاقل الكلمات على لسانه ... إنها بخير ، بخير إن شاء اللهُ يا أخي . ويطرقُ مبارك إطراقة ثاكل مكلوم ... إطراقة أراد لها أن تمتد ليسرد على مراكب صمتها ، و وحشة وجومِها قصصا تستحقُّ التَّدوين في ملفات التاريخ السَّاخنة . ويقطعُ إبراهيم صمتَه المؤقت قائلا :حدِّثني يامبارك . لقد طلب أمرا صعبا على مبارك ، أجابه العائد : عـمَّ أحدثُكَ يا إبراهيمُ ، عن الأموات الذين قضوا نحبَهم !! أم أموات الأحياء الذين أكل الشَّقاءُ نخوتهم وإرادتهم !! أم عن الناس الذين ... ويقاطعه إبراهيم قائلا : لا . لا .ويأخذ مبارك بتلابيب لوعة الحديث من جديد ليقول : أعن أبيك وأمك !! أم عن ... رفع إبراهيم يده ، وكأنه يقول كفى ... ونظر نظرة صوب عينَيْ مبارك تملؤُها معاني الصبر على قدر الله ، وتترقرقُ فيها عبارات الحمد والثناء على الله تبارك وتعالى ... أنا أعلمُ يا أخي بأنَّ والديَّ قد فارقا الحياة ، وكذلك بقية أعمامي وأخوالي ، والعديد من أبناء اخواتي وأرحامي ، والكثير من إخواني في الله . إنها ثلاثون عاما ، فلا حول ولا قوة إلا بالله ، وإنا لله وإنا إليه راجعون . ردَّدَ مبارك : إنا لله وإنا إليه راجعون . لله ماأعطى ولله ما أخذ ، والابتلاء يا أخي هو من سنة الله في المؤمنين وفيه الخيرُ والرحمة والفتح إن شاء الله . واسترسلا في حديث عن الوطن ، ولياليه المدلهمة بالنوازل ، فأوصلَ الحديثُ مباركا لسؤال إبراهيم عن سبب وجوده اليوم في هذا المركز الذي وصلتْ أخبارُه المضحكة المبكية أصقاعَ الدنيا ، نظر إبراهيم إلى صاحبِه وفي عينيه بريقُ بريد ممتاز مضمون ، رسائله لاتحمل الكذب ولا التلفيق ، رسائل آلاف القلوب الموجعة ، وكأنه لايريدُ فضَّ مكنوناتها الآن . وفي هذا الموقع المتميز بأنواع العيون والآذان التي تصطاد الكلمات بل تلتقط حتى الهمسات ، إضافة إلى حفظ مشاعر بقية زوار المركز من الذين يعانون من ثقل وبطءِ مرور دقائقه ناهيك عن ساعاته ... مُضافة إلى شدة المقت الذي يكاد يهتف بدناءة مافيه من الكراسي والمناضد والجيوب الفارغة ، وعلب الأرشيف التي صمَّمتْها حضارةُ التغريب التي أعلنت الحرب الضَّروس على أُمة محمَّد r ، وبكل مافي هذه الحضارة من سفاهة وارتكاس ... قال مبارك : والله ياأخي ماعاد يخفى على الناس شيءُ مما تقول ، ولكني أسألك عن سبب انتظارك في هذا المكان ، أجاب إبراهيم وهو ينظر إلى جوانب البناء الشَّاحبة ، رغم مافيه من لمسات حضارية ممسوخة يُزجي مرآها المملول ذبول الأمسيات المقمرات التي عهدناها في مضاربنا أيام زمان !! وكأنَّ هذه الجدران مستوردةٌ أيضا ... نعم يا أخي سبب وجودي هنا هو للحصول على بطاقة المرور ، أو مايُسمونها ... أتم الكلام مبارك أي ما تُسمَّى اليوم ( ببطاقة المـكس الملعونة ) . تبسَّم إبراهيم أنْ : نعم . الكرت اللازوردي الممهور بختم حضارة حقوق الإنسان . ومسح العرق الذي مازال يسيل على جبينه ورقبته . وتراءت خلف بريق ابتسامته أطيافُ إباء وشمم . تتمايس في ومضاتها راياتُ الفتح والنصر ، التي أحجم عن حملها المغرورون بفتنة الحضارة المشؤومة . وتركوا للغتم ـ الذي ترى آثارَه على وجوه القوم هنا ـ يلوِّنُ فجاءات الليالي بمساحات من النكد والمرارة ، لكنَّ القلوب مازالت تلتفت إلى هزيز أقدار الله الغالبة ، وهي تستوعب معنى قوله تعالى : ( ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون ، وترجون من الله ما لا يرجون ) 104/النساء . طأطأ مبارك رأسَه خضوعا لله ، وهو يعلم علم اليقين معنى الآية المباركة ، وردَّدَ : ( وترجون من الله مالا يرجون ) .
الساعة الثانية بعد الظهر ، بدأت الهمهمات والهمسات حول نوافذ صالة المركز المكشوفة على شمس الظهيرة ، تناول بعضهم بطاقاتهم ، وبعض موظفي وشاغلي وظيفة المكس طفقوا يغادرون ... قال مبارك : قُمْ يا إبراهيم إلى النافذة ، اسألْهُم فلعل وعسى ... أجابه : لعلَّ وعسى هنا كافة ومكفوفة مثل ربَّما . نحن ... ويقطع إبراهيمُ كلامَه منتبها إلى إشارة موظف هام في مركز المكس ، استأذن إبراهيم صاحبَه ، وتوجه صوبَ المنادي الذي أمسك بيده ، وقرَّبَ فمَـه من أُذُنِه ، همسات ، ثمَّ أمسك الموظف الهام بيد إبراهيم وراح يحدثُه بحرارة ، مع ابتسامة باهتة مفتعلة لاتخلو من إحساس بارد غريب !! شلَّ تقديرات مبارك الذي ينتظر الخبر السَّار . أحاديث المسؤول الهام استغرقت عشر دقائق بما فيها الابتسامات والهمسات ... وخرج المسؤول بعدها ، يلملم سيرَ بنطاله على جنبات بطنه ، ويقوم بعملية تعديل لمظهره الخارجي ، ثمَّ غادر !!
تقدم مبارك متفائلا إلى حـدٍّ ما ، وقال : بشِّرْ يا إبراهيم . تبسَّمَ إبراهيمُ ـ على عادته ـ في مثل هذه المواقف وقال : لابشَّرهم اللهُ بخير ، ولا دفع عنهم الضَّير ، لقد أكَّدَ لي مَنْ حدَّثني أنَّ السَّيدة عجورة ، رئيسة ديوان مكتب المكس أنها مازالت تصرُّ على أن أدفع (1000) دولار ، وأما هو فقال بأنه ليس طمَّاعا كثيرا ، فهو يرضى بنصف المبلغ ، وبغير العملة الصَّعبة . واستطرد : صدِّقْني يا أخي بأني لستُ متضايقا من دفع المبلغ مع أنه ظلمٌ صارخٌ وابتزازٌ رخيص ، ولقد دفعتُ ـ والله ـ مثلَ هذا المبلغ لمَنْ كان قبلها ، ولوصيفه أيضا مثل ذلك ، ولقد جئتُ قبل عدة أيام ، وأخبرني هذا الموظف بأن السيدة عجورة مازالت في حالة النفاس ، وهي منزعجةٌ جدا جدا لأن مولودتها الجديدة جاءت ومعها مرض ( ... ) وأن العمليات الجراحية التي تنتظرها سوف تكلف و تكلف . قاطعه مبارك مبتسما قائلا : وأنت وأمثالك ستدفعون ثمن الدواء ، وتكاليف المستشفيات !! قال إبراهيم : نعم ، ومعها أيضا تكاليف بطاقة المكس الملعونة . قال مبارك : واللهِ إنه لأشدُّ الظُّلم والبغي ، وإنه لأكلٌ لأموال الناس بالباطل والعدوان ، ولكن ... ماحيلة المضطر إلا ركوبها . وخرجا من ردهات المشاعر التي تثير الاشمئزاز ، وغادرا مركز انقلاب الحقائق واختلال الموازين ، فبدلا من أن يتيسر أمر المواطن في غربته عندهم ، بات وكأنه يتعامل مع ...!!! . حقا إنه مركز حارب الحبَّ بالكره ، والأُلفة بمرارة الحقد والانتهازية ، والصدق بزيف الكذب . هكذا كان مبارك يرعد ... وأتمَّ حديثه : رحم اللهُ جَدِّي فقد كان يكرر لي في كل مناسبة قولته المشهورة : الحلال يذهب يابُنيَّ ، ولكن الحرام يذهب كلُّه وبأهله أيضا . هيهات يا أخي لايمكن للمال الحرام أن يجعل عبيدَه أغنياء أو سعداء ، ولا أدري كيف يستسيغ هؤلاء بلعَ أتعابِ الناس بالباطل عيانا جهارا . تبسم إبراهيم وقال : هيهات هيهات ... نهاية الصِّيغة بيد الله وحده ، والله غالب على أمره ، ولكن أكثر الناس لايعلمون .
دعا إبراهيم صديقَه مباركا لتناول طعام الغداء معا في المطعم المجاور (للفندق ) الذي ينزل فيه معظم مَنْ جاؤوا يطلبون البطاقة الملعونة من مكتب عجورة . ضحك مبارك وقال :حان موعدي مع الأهل ، فلدينا مشوار لكنَّه ليس في أهمية مشاويركم العجورية ، وما جئتُ إلى هذا المكان إلا لأشاهد مَن له علاقة بالموعد ، حيثُ قال : إن لم تجدْني في مركز المكس ، فأنتظرك في ... قطع إبراهيم عليه كلامه قائلا : لابد من تناول الغداء معنا اليوم ، اعتذر مبارك ، و وعد أن يأتي غدا صباحا بإذن الله إلى مكانهم في (الفندق ) .
أوقف إبراهيم سيارة أُجرة منطلقا إلى حيث إخوانه الذين ينتظرونه ، فاستقبلوه كالعادة سائلين عن أخبار البطاقات الملعونة ، وعن مدة النِّفاس بعد ولادة (مدام) عجورة ، وعن ارتفاع قيمة لوائح استخراج البطاقة ... أمسك عدنان بيد إبراهيم قائلا : دعكَ الآن من هذه المهازل ، واستمع لأقصَّ عليك رؤياي في الليلة المنصرمة . وانغمسا في فيءِ مواجهة تُنسجُ قراءتُها من معطيات أقدار الله في خلقه ، كان الطعام قد أُعدَّ ، وبسمل القوم حيثُ الطعام الطيب من المال الحلال ، وما فات عدنان تحضير الشاي على الطريقة المصرية ، ففيه نكهة خاصة مباركة . ومن هدأة استراحتهم في ( الفندق ) لبُّوا نداء مؤذن المسجد المجاور ، ليجدوا أنفسَهم في أمن وطمأنينة بيت الله . أدُّوا الصلاة ، وذكروا ربَّهم ، وسألوه فضلَه وعفوَه وفرجَه ، وعادوا إلى مكان استراحتهم ، لتهدأ أجسادُهم على فُرُشِهم ، فيالهم من غرباء تكاد تُسدُّ في وجوههم الأبواب لولا رحمة الله ولطفه ، وتكاد تتقطع بهم الأسباب إذ لم يبقَ إلا باب الملك الدَّيَّان الذي لاتأخذُه سِنةٌ ولا نوم . وهبَّ إبراهيم من فراشِه رغم نكد وتعب يوم ذاق فيه لذع حرِّه الشَّديد لساعات حتى داخ رأسُه من المكاره، فأسبغ الوضوء ، وتوجه إلى الله في ركعتين يصلِّيهما في جوف هذا الليل البهيم ( اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد أن تجعل لنا فرجا ومخرجا ، ياحيُّ ياقيوم ،ياذا الجلال والإكرام ، اللهم أريتَنا غضبك ، فأرنا رحمتَك ، سبحانك سبحانك لم يكن لك كفوا أحدا يا أرحم الراحمين ) . وجلس يذكرُ اللهَ بما فتحَ عليه في تلك الساعة المباركة من وقت السَّحر ، ففيها تهيئةٌ للنفس حيثُ السُمُو ، وتهيئة للقلب حيثُ الأنوار التي تمنحه القوة ، وتأخذُه غفوةٌ ، ولكنَّ عدنان حرمه منها ، فصوتُ مؤذن المسجد المجاور يردِّدُ : الصَّلاة خير من النوم . توضَّأ الجميع ، وتهادت خُطاهم إلى بيت الله ، يؤدون فريضة الفجر المشهودة ، ويشعر إبراهيم بإحساس غريب في صباح هذا اليوم ، كان منشرح الصَّدر رغم الكآبات الغامرة ، تملأ فؤاده السَّكينة رغم مايدعو النفسَ البشرية للقلق ، غصص الجدب تلاشت تباريحُها المضنية على صدره ، وتلاشت عواصف الأشجان القادمة من الوطن ، والتي مازالت تعصف منذ أكثر من ربع قرن ، وهي تحمل مرارات الأحقاد والإرهاب المـبرمج ومناظر المقابرالجماعية التي تتراءى أمام العيون ، وربما نقلتها بعضُ وسائل الإعلام ( الخاصة ) ، إضافةً إلى أخبار ابتزاز الجيوب الفارغة ـ والمملوءة بالسحت ـ للأيدي المقيَّدة بحبال التقدم الحضاري المميَّز لمنعه الأطفال والنساء من الدخول أو الخروج من مراتع الصِّبا إلا بعد تأدية ضريبة المكس اللعين ، وكتابة التقارير (المفبركة) لتقديمها لمدام عجورة بعد مهرها من الأساقفة الكبار أصحاب الاختصاص !! ويالها من أنثى في ثوب ذكر ، وتلك ثمرة محاربتهم للعفاف والحياء والطهارة والحجاب ، ولا غرو فقد أرادوه زمنا للفجور والسفور ، ومرتعا لتنفيذ أوامر الصهيونية بشكل دقيق ، حسب تعليمات بروتوكولات حكماء صهيون صدق مروِّجوها ، أم كذبت هي حين ظهرت من بين الكواليس . راح إبراهيم يستقرئُ تاريخ ثلاثة عقود ، يغشاها الكِبرُ والاستهتار بكل القيم ، ويتحصن خلف هذه المتاريس موظفو البطاقات الملعونة ، وأمثالُهم داخل الوطن الجريح ، بوجوه كالحة تغشاها القترات ، ولعنات المقت التي تراكمت لكثرة المسافرين بقطارات الغربة القسرية ، فكانت لهم علامة لاتفارق جباههم وبها يُعرَفون ، ولولا صوتُ فرج الصديق الحميم لإبراهيم ، والذي جاء إلى هذا المركز لنيل البطاقة العجُّورية ... لامتدت به القراءاتُ لهذه الحِقبة الذميمة إلى وقت صلاة الضحى . قال فرج : أين وصلْتَ ياإبراهيم ؟ قالها فرج وقطعة الجبن في فمه تذكره بطعمها البلدي اللذيذ ، والآخرون على مائدة الإفطار .أجاب إبراهيم : وصلنا إلى حيثُ أراد الله ربُّنا وربُّهم ، وهل يريد ربُّنا لنا غيرَ الخير !!
حمد القومُ ربَّهم سبحانه ، فقد أطعمهم وسقاهم في هذه الربوع المباركة ، وجلسوا على جنبات البهو الرئيس ( للفندق ) ينتظرون الوقت الذي توزَّع فيه بطاقات المكس الملعونة على بغض المغتربين كل يوم . وريعُها أضحى بابا للرزق الممحوق بإذن الله مهما تضخَّم في جيوب أكلة السحت . وتوزعت أحاديث الغرباء بين السُّخرية من فعائل المغفَّلين ، ومكر أسيادهم أصحاب المخططات الجهنمية لمحاربة الإسلام وأهله . وبين لذَّة الصَّبر الجميل المحمول على رفارف وحي ( ولا تحسبنَّ الله غافلا عمَّا يعمل الظالمون ) ... فاجأهم دخول أخيهم مبارك ، باسم الوجه ، مشرق القسمات قائلا ( بعد السلام عليكم ورحمة الله ) : مابال الغرباء لايذهبون إلى مركز توزيع بطاقات المكس الملعو ... قاطعه إبراهيم الساعة الآن التاسعة ، والموعد إن صدقوا الثانية من بعد الظهر . ضحك مبارك وليس من إلآ التَّبسُّم ، وأشار إلى الرائي ( التلفاز) الذي أخذ مكانه في صدر البهو ، وكأنه عجورة أو ذلك الموظف الهام الذي تكلم مع إبراهيم أمس عند الساعة الثانية . لماذا لاتضغطون على زرِّ التشغيل ؟ ففيه بثٌّ حرام وفيه وفيه بثٌّ حلال ، وفيه أخبار سارة . استغرب الجميع من تلميحات مبارك وتعليقاته ، وقال له فرج : عدْتَ اليوم بأنفاس جديدة . قال مبارك : أجل أبشروا عُدت برفقة الأخ عبدالحميد إلى مركز إحراز بطاقات المكس الملعونة ـ كما يسميعا الناس ـ ليحصل أيضا مثلكم على واحدة منها ، وعند وصولنا المركز رأينا حشدا من الناس على غير العادة ، وهم في حالة هرج ، سألْنا أحدَهم : ما الأمر يا أخا العرب ؟ فأجاب مباشرة والابتسامة تملأ جنبات وجهه : فُرِجَتْ ، وهل بعد الضِّيق إلا الفرج !! وتدخَّل رجلٌ آخر قائلا : ألمْ تسمعْ أخبار َ صباحِ هذا اليوم ؟ ألمْ تشاهد الرائي ؟ قلنا له : لا . قال : عجيب ... إذن ...اذهبا واستمعا وشاهدا وأكثرا من الشكر لفارج الفرج .
أسرع فرجٌ إلى التلفاز ، وضغط على زرِّ التَّشغيل ، وراح الجميعُ يستمعون ويشاهدون فصولَ مآتي الفرجِ القادمِ من السَّماء . ومعاني الفرج بعد الشدة ، واليسر بعد العسر ، تترجمُها نشراتُ الأخبار العالمية . انسلَّ إبراهيمُ من بين الحاضرين ، فناداه مباركٌ : إلى أين ياإبراهيم ؟ قال : أريدُ أن أُجدِّدَ وضوئي ، وأُصلي ركعتي الشُّكر لله ربِّ العالمين ، ومشى خطواته ، وهو يرددُ البيتَ الشِّعريَّ المشهورَ ، بعدَ أن غيَّرَ تركيبتَه الزمانية :
وكم أمرٍ تُساءُ به مساءً وتأتيك المسرةُ في الصباحِ
وسوم: العدد 836