فرسُ حِمِيدَان

حيدر قفه

منذ أَنْ وَعى ما حولَه وهو يسمعُ والديه يُرددان كلمةً تجري مجرى الأمثال: "هذا الميدان يا حديدان" ولما كان اسمه "حميدان" شعر أن هناك أمراً يربطه بهذه الكلمة... سأل والديه عن "الميدان" فأخبراه عن مكان سباق الخيول؛ فتمنى أن تكون له فرس يسابق بها في ميدان الخيول.

قامته تطول، ووعيه يتحرك، وتذهب به رجلاه إلى الحقل، حيث يقضي أبوه نهاره كلّه، في الحقل أخذ يركض... يلعب... يقلد الخيول... يأخذ من الحقل عوداً من عيدان الذُّرَةِ، يمتطيه ويركض به... يصهل صهيل الخيول، والعود يسحب خلفه أوراقَهُ الخضراء فتثير غباراً يُعَجِّجُ المكان، ووالده يضحك مسروراً ويقول له: ها يا "حديدان" فيعترض ويقول: "حميدان"، فيضحك والده ويقول: لا بأس... يا"حميدان"ماذا فعلتْ فرسُك اليوم؟! وتتوالد الحكاياتُ من الخيال الخصب الذي لم تُفقد براءتهُ حوادثُ الأيام...

ويصبح"حميدان"أضحوكةَ الأهل والجيران، ومجال التنادر واستدرار الضحكات التي يختمونها دائماً بعبارة واحدة: "اللهم اجعله خيراً" ثم تذهب عقولُهم سارحةً في حزن عميق، تسلكه في سلك التذكر والتداعي فَنْجَلَةُ عيونهم، وذهول عقولهم.

قال له خالُه: تعال عندي إلى المنجرة غداً، وأنا أصنع لك فرساً قوية، خيراً لك من عود الذُّرة هذا... شجعته أمه على قبول عرض خاله... ذهب إلى منجرة خاله... المنجرة في قرية لا تعرف الكهرباء... منجرةٌ بدائيةٌ... وعِدَدٌ يدوية لا تتعدى ثلاثةَ مناشيرَ مختلفةِ الأطوالِ، وقَدُّومٌ، و (فَارَةٌ) تمسح الخشب وتجعله أملساً، وشاكوشين، وعلبة غِراء، وبضعةِ كبشاتٍ من مسامير متنوعة الأطوال.

تناول خاله خشبةً طويلةً جعلها متن الفرسِ، ثم اختار خشبةً مُثَلثةً متساويةَ الأضلاع، ثم شق رأس ضلعين مسافة قصيرة، ثم خرق في وسطها خرقاً، وثبت قاعدة المثلث على الخشبة الطويلة بالغراء والمسامير، ورسم فوق الخرق من الجهتين حاجبين سميكين، وأدخل في الشق حبلاً وثبته، وقال له: هذه فرسُك... وهذا رأسها... وهذا فمها، وهذا الحبل لجامُها... وهاتان عيناها...

ركب "حميدان" فرسه وعاد يركض إلى أمه فرحاً، فلما رأت الحاجبين ضحكت!! وقامت فجمعت خيوطَ صوفٍ وصنعتْ خلف الرأس خطاً منها وقالت: هذا عُرْفُها... قال: وأين الذيل؟ فجاءت بخرقةٍ وشقتها مِشَقَاً وربطتها في طرف الخشبة السفلي... لكنه كلما ركض بفرسه، أفلتت مِشَقُ الخرقة من طرف الخشبة، وطارت خيوط الصوف من على عنقها، فيعود باكياً إلى أمه... قالت: اذهب إلى خالك يثبت لك العُرْفَ والذيل، فكان له ما أراد، إلا أن الذيل كان دائم الاحتجاج والانفصال، مما جعل "حميدان" يتردد كثيراً على دكان خاله الذي يسميه منجرة.

عَلَّقَ فرسَهُ مشنوقةً بلجامها على مسمار في عريش الدار، وكلما عَنَّ له السِّباقُ والصهيلُ امتطى ظهرها، وخرج إلى الحارة يصهل ويثير الغبار. وعرفت قدماه طريق المنجرة. وألفت يداه دق المسامير وتغرية الأخشاب، ووجد في العمل مع خاله ما يخلصَهُ من ربقة العَزْقِ والنكْشِ والتعشيب التي يفرضها عليه والده في الحقل... فأتقن الحرفة...

غادر الطفولة... وخطَّتِ الأيامُ شاربه... لكنه لم يغادره حلم الطفولة في امتلاك فرسٍ حقيقية. ومثلما يفعل الشبان في مقتبل العمر، سافر يبحث عن عمل في مكان نُقُودُهُ كثيرة... عَمِلَ... عَرِقَ... تَعِبَ... ولم تمتص الغربةُ حلمه القديم. عاد وفي جيبه رزمة من الأوراق الخضراء ذات السُّمْعة العالية.

أول ما فكر فيه الفرسُ... حاول والداه ثنيه عن هذه الفكرة، وزرع فكرة – في نظرهما – أجود... أن يشتري أرضاً... أن يصبح صاحب منجرة... أن يمتلك دكاناً يتاجر فيه بأي شيء... لكنه أبى إلا أن يشتري فرساً، واشترط أن تكون فرساً بيضاء نقية...

بحثوا... نقبوا... سألوا... فلما أعيتهم الحيلة، وجدوا مهرة صغيرة، ليست صافية البياض، لكنها تبدو للناظر هكذا، وإذا صنفوها من باب رد الكل إلى الجزء قالوا: بيضاء تجاوزاً: قَبِل على مضض متنازلاً عن عمرها وصفاء لونها...

انتقلت المهرةُ إلى ملكه... ما أعذب الحلم إذا أصبح حقيقة بين يديك، والرؤى تتقدم نحوك بلا وجل، لكن المهرة لم تكن من اللين بمكان، عندما حاول أن يمد يده ليمسد عُرْفَها نفرت... هربت... حاول الاقتراب منها... أمعنت في الهرب... شعر أن شيئاً انكسر داخله... لكن والديه هونا عليه الأمر... أخذ يترضاها بحشيش أخضر مرة... بتبن وشعير أخرى... بقطعة سُكر ثالثة... لكنها لما ألفته كانت حَمِـيَّـتُهُ قد تَشَظَّتْ، وأصبح النهج الذي يربطهما: التوسل منه طلباً لرضاها، والنفور والإباء منها... وكلما أمعن في طلب ودِّها، كلما أمعنت في رفضه... إن لم يكن ظاهرها... فباطنها ينضح بذلك.

اليوم هي مِلْكُهُ... والأيام تنفخ في عمرها وجسدها وعضلاتها... وقوتُها وجمالُها يزدادان مع الأيام رسوخاً... وتَعَوَّدَ جسدُها على مَسْحِ يده، لكن داخلها يرفضه... سمحت له أن يمتطي صهوتَها ثلاث مرات فقط، ثم نَدَّتْ فألقته أرضاً، ولم تعد تقبله... انكسر شيء آخر في نفسه... لم يعد قادراً على كبح جماحها.

كان مفتوناً بجمالها لا سيما وقد نَظَمَ شعرات عُرْفِها في خرزات، وأجاد قص شعرات ذيلها في نسق يشي بالجمال والتأنق فيه، كما تأنق في اختيار لجامها، وكلما نظر إليها على هذه الصورة افْتَتَن بها هياماً، لكنه يتذكرُ أنها لم تمكنه أن يعلوها إلا ثلاث مرات فتتراجع هيبته في نفسه، وينزوي في ركن ضيق من شهامة الرجال، ومضت به الأيام على تلك الحال...

الفرس تزداد عنفاً وشراسة، هَمُّها السباق، تجد نفسها مع لداتها من الخيول الراكضة دوماً إلى الأمام دون أن تلتفت إلى الوراء، تريد أن ترتاد ميادين كثيرة، كم تَعَطَّشَ هو لأن يكون فارس الميدان، أليس (حديدان) على وزن (حميدان)؟! لكن الأيام والأعمال لا تُقاس بالأوزان.

خرج هو من بالها نهائياً، فلم يعد الفارس الذي تستطيع به ارتياد الميادين، ولا الركض في المضامير، لا سيما إن أرادت الفوز، كيف وهي تبذل في سبيل ذلك أيامها وأوقاتها وجسدها؟!

يراها الفُرسان... الفُرسان مولعون بالتحديق في الجياد والأفراس... بنظرة واحدة – من خبير بركوب الخيل – يدرك أنها تصلح للسباق أم لا! وهل إمكانية الفوز واردة أم لا؟

تقدم فارسٌ منها... مسح على عُرْفِها بيده... ربت على ذراعها... مرر يده على ظهرها... لم تنفر... سكونها مهد له الطريق... انزلقت يده إلى عَجُزِها... بقيت ساكنة... ربت عليه... ثم امتطاها... لكزها في جَنْبـَيْها بمؤخرة قدميه... إشارة الفرسان للانطلاق... انطلقت... وانطلقت... وانطلقت...

لما عاد بها وهي تتبختر طرباً وهَمْلَجَةً، وكان عِطْفَاهُ يتراقصان إعجاباً وتيهاً... ورأى"حميدان"هذا المنظر شعر بالهوان، لكنه أصبح عاجزاً عن أن يفعل شيئاً.

جاء موعد السباق... امتطاها الفارس... ركضها... ركضت... فازت، سمع"حميدان"من مكبر الصوت اسمه مقروناً بفرسه... فازت بالمركز الأول الفرس (فضيلة) لصاحبها السيد (حميدان نَسْحَلا)... صفق بجنون لفت الأنظار إليه... لكن باطنه كان حزيناً، انعكس ذلك في المبالغة الشاذة في التصفيق... إحساسه بأن فارساً غيرَهُ امتطى صهوة فرسه طغى على فرحة الفوز، فكان لا بد أن يبالغ في التعبير عن سروره وإلا انكشف ستره...

كانت (فضيلة) فرساً ملولة، كلما تطلعت إلى ميدان جديد احتاجت لفارس آخر يمضي بها في هذا الميدان، فإذا استيقنت أنه سيفتح لها أبواباً مغلقةً، وسبلاً موصدة، حَمْحَمَتْ لتلفت نظره، وتذلل له ظهرها، فيمتطيها... يركض بها... تفوز... ينسب الفضل إليها... ويقترن اسم المهموم بها.

ميادين كثيرة فُتِحَتْ لها... كل ميدان بفارس جديد... تَعَوَّدَ ظهرها على مُقْعَدَات الفرسان، وأمست لا تستريح إلا وفارس آخر يداعب أحلامها... فتفرش الطريق له ريثما ينتهي دور الذي قبله، لكن (حميدان) لعدم خبرته بالفروسية الحقة، كان يعجب لسلوك الفرسان... لماذا يربت كُلٌ منهم على خدها... وعنقها... ثم ذراعها... ثم يمسح على ظهرها... ويربت على عَجُزِها، ما دخلُ العَجُزِ في الأمر؟!! قالوا له: يمتحن الفارس قوتها، ويتعرف على فنها وقدرتها... يسكت على مضض، ويتظاهر أنه فهم واقتنع!! لكنه كلما رأى فارساً متباهياً بشبابه، وبريق المجد يحوطه... خاف... ففرسه لا تقاوم هذا الإغراء... وهي لا محالة سامحةٌ له أن يمتطيها، والفوز هدفها الأوحد، كما أن رضى الله هدف الناسك الأمجد.

جوائز الفوز تتراكض نحوها... والفرسان يتسابقون عليها... و(حميدان) – في كل مرة – يصفق، ويرضى باقتران اسمه باسمها، وقد تنازل نهائياً عن أمل أن يصبح فارسها الأوحد، الذي يصول بها في كل ميدان، وملأت أموالُها فمه، فسكت لسانه، وتعطل الرفض عنده، ومات الإباء.

لكن الْـهَمُّ المستكن في الأعماق، لرجل اشتراها ذات يوم لتكون فرسَه هو، فيحقق أحلامه التي صاحبته منذ الطفولة، كان يسري في جسده ببطء حية تنتظر غفلةً من فريستها... وعلتْ وتيرةُ الهَمِّ مع كل ميدان جديد وفارس جديد، وما أقتل الْـهَمُّ للقلب المكلوم بالخيبة، الموصوم بالاستكانة، فوقع السيد (حميدان نَسْحَلا) مريضاً بالـهَمِّ الذي أوجع القلب فَضَيَّـقَهُ.

وفي سكون سرير المرض، فتح سجل حياته بين يديه، ووضع الميزان، وفرز ما كان!!.. ماذا كانت حياته كلها؟! عاشها لا كما يعيش الناس، بل يعمل في خط واحد لا يحيد عنه... متى تفوز فرسُه؟ وإذا فازت؛ تجدد السؤال... ومضى به الحال، لم يشعر يوماً بلذة الامتلاك، كان دوره تهيئة فرسه لِـمُقْعِدَاتِ الفرسان!! أهكذا هي الحياة؟ أم ضل به حلمه في دروبها المنتـنة، وأزقتها المعوجة؟! كم عادت له بأموال؟! وهل تعادل ما فقدت من كرامة وهو يلحظ عليها آثار الرجال فيلتزم الصمت الكئيب، ويصفق موهماً بالرضى والامتنان!!

غداً ستكبر فرسُه... ويضعف ساقاها ورجلاها، ولن يربت الفرسان على وجهها وذراعيها وعَجُزِها.., دأب الفرسان البحثُ دوماً عن خيول شابة، فللفتوة طعمها، وللانتصار مذاقه... وستؤوب إليه بظهر مثقلٍ من مُقْعَدَاتِ الفرسان، وذكرياتٍ ممضةٍ لا يجرؤان على تذكرها، وسيتحدث الفرسانُ بذكرياتهم، وتتحاشى عيناه الالتقاء بعينيها، فالجراح أعمق من أن تمتصها شيخوخة حانية، ورائحة الفرسان على جسدها أعبق من أن تزيلها انتصارات حققتها بهم في أيامها الخالية.