قصص.... قصيرة
عبد الرحيم عبد الرحمن منصور
· قالت
خرج هائما يحس أن روحه تهوم في أجواء السعادة والفرح , وأن قدميه ترسمان خطواته فوق السحاب , كل شيء حوله .. أمامه .. وراءه .. عن جانبيه .. بضحك ويحييه .
الورود تبتسم له بسعادة , السنابل تشرئب بأعناقها لتحييه , العصافير تغني لمرآه , الجداول والينابيع تعزف الألحان العذبة لتسترضيه , حتى الفراشات أقامت " كرنفالا " مدهشا احتفاء به , أما الضفادع الحكيمة فقد خرجت عن صمتها وحيته وهي تقول له : ما بك أيها المجنون !؟ فقال لها وهو يحاول أن يحضن الفضاء بين ذراعيه: لقد قالت لي : ( إني أحبك ) .
· الأطفال عصافير الوطن
وقف يستجدي الجنود فسحة حرية ولكنه لم يحظ إلا بالقمع . يريدأن يحضر لأطفاله لقمة طعام , جرعة ماء, حبة حباة , كان يقول : أطفالنا لا يريدون أن تنبت بلادهم النار , وتنمو في وهادها السموم , وتترعرع في جداولها الثعابين والعقارب .. إن أمهم أرضعتهم من صدرها لبنا سائغا صافيا , كي يكون كل واحد منهم حارس وطن آمن , تملأ أجواءه البلابل والحساسين والطيور المغردة , وتسرح في روابيه الحرية والعدل , وتسج في جداوله السعادة والهناءة , وتضج جنباته بصيحات الأطفال وضحكاتهم التي تنافس تغريد الطيور والعصافير , يهتفون للحياة بين شقائق النعمان , وزهرات النرجس , وأغصان الياسمين .
صاح في الجنود بصوت جهوري ودع القهر. وضع الجنود أيديهم على رؤوسهم خوفا من الصوت , أغلقوا كل منافذ الأحاسيس , وأغلقوا كل مسارب الإنسانية , ولم يبق سالكا إلا أوامر الإجرام , وفوهات البنادق التي تسطو على الحياة بنذالة وخسة . ولكن الأطفال لا يزالون يحملون في خيالهم الحر, صورة الوطن الجميل بأزهاره وأشحاره وثماره وطيوره وإنسانه الذي يقدس الإنسان , وهم ينظرون إلى عصابات الإجرام يأكلهم الحقد والغيظ وتحرقهم إرادة الحياة المتنامية في براءة عيونهم الطفولية المتقدة .
· طفل الملعب
ذهب إلى الملعب يحمل كرته الصغيرة بيده اليمنى , وحذاءه الرياضي الجديد بيده اليسرى , كان يمشي مزهوا بهذا الحذاء الذي حصل عليه بعد أن ظل يجمع القروش في حصالته لشهور عديدة , ولما وصل إلى الملعب وجد مجموعة من أقرانه الذين يحبون الرياضة ويعشقون الكرة ، انخرط بينهم بسعادة ، ومارس لعبته بهناءة ، ولكنه أحس أن حذاءه المطاطي كان متقاعسا متكاسلا حردا بعد أن أرسل بريق عينيه اللامعتين إلى جهة طفل وحيد كان يقف خارج الملعب مشجعا بحماس زائد دون أن يشارك في اللعب ، عندها فكر مليا ، وأدرك سبب تمرد حذائه عليه أو كما كان يحس ويشعر، حينئذ خلع حذاءه الأثير وتقدم من الطفل بكل حب ومودة قال له : خذ ... البس هذا الحذاء وادخل الملعب .. لم يصدق الطفل الحافي !! ولكنه لبس الحذاء وانطلق إلى الملعب يعدو خلف الكرة الجامحة تلفه السعادة والامتنان .
أما هو فقد أحس للمرة الأولى في حيانه أنه غدا إنسانا يعرف قيمة الإنسان .
· لمحة ...
خرج من بيته مبكرا كعادته ليحضررطلا من الخبز لعياله قيل أن ينطلق إلى عمله ، كان الشارع خاليا ، لم تزل الحركة فيه نائمة . وصل إلى المخبز كان مزدحما بالناس ، كانوا يتدافعون ، ولكنهم كانوا صامتين ، انخرط بينهم ، خاض معركته معهم ، حصل على خبزه ، حمله بين يديه فرحا .
لمح طفلا يجلس خلف الزحام يرمقه بلهفة وشغف ، هز رأسه وتابع سيره , في اليوم التالي رأى نفس المشهد بعد المعاناة نفسها ، ولكنه هز رأسه أيضا وتابع سيره ، وفي اليوم الثالث رأى الطفل نفسه بذات المكان ينظر إليه بعينين مليئتين بالتوسل ، اتجه نحوه ولما أراد أن يكلمه وقف الطفل وجرى مسرعا وهو يتلفت خلفه بجزع وخوف .
وقف هنيهة يفكر في المشهد ، ثم عزم على أمر ، ولما عاد في اليوم التالي لم ير الطفل ولم يقع له على أثر . لم يعد الحاج حمدي مهتما بشراء الخبز إنما صار همه العثور على الطفل ، أخذ يبحث عنه ، حتى وجده على باب أحد الأفران يراقب الناس كعادته ، فتقدم نحوه متوددا وحضنه بمحبة وحنان أبوي دافق ، عرف قصته وعلم معاناته ...
· سر الكنز
خرج من المدرسة ومشى في طريق البيت ، وهو يخبىء كنزه في جيب مريوله ، ويضغط عليه
بأصابع كفه الصغيرة ، كان يوما حافلا في المدرسة ، فطابور الصباح كان مختفا لدجة
أنه رفع صوته بالهتاف إلى أقصى ما يستطيع من حماس ، أما مكوثه في الفصل فكان عبثا ،
إذأنه لم يفهم من معلمه أدنى كلمة ، لأنه كان في رحلة في أرجاء البلدة والتي ختمها
في ساحة الحي التي كان يلعب فيهم مع أتراب ساروا في درب الملائكة ، وذهبوا إلى هناك
حيث ينتظرونه كما وعدوه ، قالوا له مودعين : إنا لن نعود فإذا اشتقت إلينا فالحق
بنا .. نحن بانتظارك ، ثم ضحكوا ، ولوحوا بايديهم وغادروا .. ما زالت قبضة يده تمسك
بكنزه المخبأ في جيب مريوله وهو يستعرض صور أصحابه الضاحكين ،فيضحك مثلهم ولهم
ويقول في سره : إلى لقاء قريب . وقبل أن يصل إلى البيت وبالقرب من مسجد الحي رأى
مجموعة من الأطفال يعاكسون دبابة تمترس بها جنود نظام الطاغية ، ويرشقنها بالحجارة
الأبية . أخذ يربت بكفه الصغيرة على كنزه ، وهو يقول في سره : جاء دورك الآن أيها
الكنز الحبيب ، ثم تقدم ...ولحق بأصدقائه الذين كانوا ينتظرونه هناك ..
· إعترافات شيطان
قال زغروب بن هردابشت الشيطان الموكل ببيتنا ، والمختص بغوايتي شخصيا : انطلقت إلى عملي كالعادة ، بعد غروب الشمس ، وقد دب النشاط في مفاصل جسمي كله ، حتى إذا بدأ الليل يرخي سدوله ، كنت قد وصلت إلى بيت صاحبي ، وقفت له بالباب أنتظره ، وأنا أغني بفخر :
نحن الملوك والإفساد صنعتنا ==== وجدنا إبليس للشر قائدنا
لا يعجز الشيطان عن بشر ==== إلا من كان للقرآن محتضنا
ندعوه ننفخ في أوداجه فكرا ==== بها يغدو لنا أسير النفس مرتهنا
لا يذكر الله ولم يعبأ بصالحة ==== من الأعمال وكيف ذا.. ونحن هنا
لكن أخو التقوى أعيانا مشاكسة ==== وأحرق بآية الكرسي مهجتنا
يقول زغروب قيده الله في سلاسل جهنم :
فلما جاء صاحبي ، ابتدرته مؤهلا مسلما ، هاشا باشا أسعى بين يديه ، أرغبه بالشهوات
، وأبدأ معه بالهفوات ، وأسد أذنيه عن كل ما يرضي ربه ويؤذينا ، فلا أذان يسمع ،
ولا صلاة يصلي ، يسهر الليل كله فيما يغويه ويضله ، حتى إذا نادى المؤذن لصلاة
الصبح ضحكت وقلت له متظاهرا بالنصيحة : قم إلى النوم فقد آن الأوان كي تهجع وتستريح
، فاليوم جمعة ، وهو يوم عطلة مسستفادة ، فلا عمل ولا عبادة ، وإياك أن تستيقظ قبل
أن آتيك وبالرغائب والشهوات أسعدك وأسليك ، فما زلت في طور الشباب ، فاغتنم اللذات
ولا تغلق دونها نافذة ولا باب ، ثم أعقد فوق رأسه ثلاث عقد _ كما علمني جدي إبليس _
أكبله بها ، وأقول له مودعا : نم فليلك طويل ، وسأعود إليك في التو واللحظة التي
تحتاجني فيها لأكون في خدمتك .
ويتابع زغروب : وهكذا أبقى معه حتى الغروب فأبدأ معه من جديد وأكرر له وأعيد حتى
يبقى عن ذكر ربه وعن الصالحات بعيدا بعيد ..
هذا عملي وهذا واجبي أقوم به على أكمل وجه وأحسن حال كي أحظى برضا جدي وأنال منه الوصال .
إعتذار : أعتذر إذا كانت الأبيات غير موزونه ( فماهي إلا شعر شيطان خبيث )