بعد الغروب الأول
دثرت حشائش المقبرة صدى جدثه المحشور تحت قطعة من الحجر الرملي، تعلوها كتلة ترابية، تفنن صبي المقبرة في تسنيمها، وتناثرت فوقها باقة صغيرة من أزهار البنفسج، مثل قطعة مزركشة من الأطلس الأخضر الذي انتزع من تحته قبل الغروب الأول.
الشهيق والزفير ودقات القلب والجفون كلها توقفت عن الحركة كعقارب الساعة، وغدت عنده الحرارة والبرودة سيان، وكذلك الشبع والجوع والارتواء والعطش، ولم يعد يميز بين رائحة القبر المظلم وباقات الأزهار المضيئة التي علقت يوماً واحداً ثم سُلبت بعد حلول الظلام الأول، ونسي الزمان بماضيه وحاضره ومستقبله، وفقد مع ذاكرته مفكرته وذكرياته وبطاقته الشخصية ودفتر عائلته، ومحا كل ما استوعبه من السير والتاريخ والتراجم كما تمحى الصورة على وجه الماء.
التصق جسده بالتراب كقطعة من الطين حنت إلى أصلها الوضيع واستسلمت بين يدي مبدعها بكل تواضع لا تدري من أمرها شيئاً.
لم يعد الغريب يشعر بالأرق، وهدأت نوبات السعال التي كانت تنتابه، وتوقفت أجزاء من جسده كانت ترتعش باستمرار، وابتعد عن عيون الذين جعلوا من أنفسهم رقباء على الناس، فخسروا زبوناً دائماً.
انصرف أكثر مشيعيه مسرعين، ولم يكونوا على عجلة من أمرهم، رغم أن عددهم لم يتجاوز أصابع اليد، وأنهم يعانون من البطالة والملل، وختمت البلاغة بعجوز كان يجلس القرفصاء ويرفع يديه إلى السماء، مطرقاً إلى الأرض، كأنه يحدث الغريب، أخفض من صوته السكوت، إذا أطبق شفته السفلى نحو العليا قالت الباقية آمين، سرعان ما نفض التراب عن جبته وقذف ملء قبضته من التراب نحو محدثه، ثم صفق بيديه ليقلده عدة أشخاص يحبون الإيجاز.
كان شاهد القبر الحجري الذي استعاره الحفار من الدواثر المجاورة وسنامه الترابي العلامة الفارقة التي لا تميزه عن جيرانه في مدينة القبور، وكل الذين لم ينعموا بزيارة أقربائهم منذ مدة طويلة.
خلع أبناء الحانوتي أسنانه الفضية في ساعة متأخرة من الليل ومعها قطعتين من عظم الفك الأعلى والأسفل، وهم على عجل من أمرهم المريب، وكانوا يطمعون بأسنان الشيخ ذي الطالع السيء الذهبية أو أحد فكيه الصناعيين على الأقل.
سمع الحوار الساخن بين صاحب المقبرة ومتعهد الدفن، وكاد أن يتدخل لإيقاف هذه الصفقة الخاسرة، وكان آخر عهده بالأحياء ثرثرة عجائز، كنّ يضربن التراب الندي بعكازاتهن المدببة وأحذيتهن المهترئة، ويصرخن بصوت متهدج: أما آن للغرباء أن يتوقفوا عن مزاحمتنا بقبورهم قبل الغروب.
وسوم: العدد 844