الصَّدمة الحلوة
رآهما في موسم الحج ، وفي ميدان عرفات ، في اليوم الذي يفغر الله فيه الذنوب ، ويعتق الرقاب من النار . عانقهما والفرح يغمر مُحيَّاه ... أهلا أخي أبا خباب ، أهلا أخي أبا ربعي ، حيَّاكما الله ، تقبل الله طاعاتكما ، تعالا نجلسْ ساعة تخبراني فيها عما خفي عني من حكايا السنين العجاف ، اجلسا ... اجلسا ... بسط لهما حصيرا جلبه أمس من مكة المكرمة ، وراح يسألهما عن الأحباب والأصدقاء. وحمد الله على ماسمع من الأخبار الطيبة ، وعن قدوم عدد من العصاة إلى حجِّ هذا العام تائبين ، وكرر الحمد لربه أن وفَّق أهل الغفلة للإقلاع عن المعاصي ، واللحاق بركب الأبرار ، وقد ندموا على مافرَّطوا في جنب الله . .. يقول هذا وعيناه تنظر في جموع الحجاج الذين عزموا على ألا يعودوا إلى الذنوب والموبقات ، بعد أن غفر الله لهم ماتقدم من ذنوبهم ، وسيعودون إلى أهاليهم كما ولدتهم أمهاتُهم . وتعتلج في صدر أحمد الذكريات ، ذكريات الأيام الحلوة في بلدتهم الهادئة الآمنة ، وتلوح له من بعيد صور بعض الأصدقاء الذين كانوا يعاندون ، ثم صاروا يجاهرون بالمعاصي ولا يقبلون النصيحة ولا يتقبلون الموعظة ، ونظر إلى أبي خباب يسأله عن زياد وطارق وعبدالحميد و ... فتبسم أبو ربعي وكفى أخاه أبا خباب الجواب وقال : كلُّهم ــ والله ــ بخير وكما تحبُّ لهم من استقامة وتوفيق من الله ، ولكن المفاجأة عن بعض الأصدقاء ستأتيك على قدمين بات صاحبُهما ذا خلق ونهج قويم أتمَّ به صورته التي خلقها الله في أحسن تقويم . ردَّ أحمد : ماذا تعني ياأخي ؟ ما أعنيه ماستراه ... أقسم عليه أحمد أن يخبره عن المفاجأة ، وما كان لأبي ربعي إلا أن يقرِّبَ له المشهد ، فقال : المفاجأة أن صاحبها تعرفه ، وربما توارى خياله الآن وراء مساحات الغربة التي غيَّبت الكثير من الصور والذكريات لطول العهد ، قاطعه أحمد : بالله عليك اذكر لي اسمه . قال أبو ربعي : هو قدخرج من السجن منذ ثلاثة أشهر فقط ، أشرقت نفسُه بالأمل ، بعد أن فاضت بالأحزان والأسى في غيابة السجن ، ربما وجد جزاءَ ما اقترفت يداه من معاقرته للخمرة ، وتعاطيه للمخدرات ، وإتيانه الفواحش ما ظهر منها وما بطن . لقد حدَّثنا حين زرناه بعد خروجه من السجن ، وقد عاد إليه عقلُه و وعيُه ، فقال : لاتعلمون مقدار أثر المخدرات على حسِّ وعقل وإرادة مَنْ يتعاطاها ، وأنتم تعلمون السبب المباشر لدخولي السجن ، لفعلة ذلك الجاني الذي قتلني بألف طلقة نارية خلال تلك الدقيقة التي فقدت فيها عقلي ، وكنت أروم قتله ولكن الله يفعل مايريد !! امتقع وجهُ أحمد ، وهزَّ مشاعره ثِقلُ ماوقر في أذنيه من أخبار ، واستعجل أخاه أباربعي بإتمام الرواية ، فأجابه أن صاحب المفاجأة أتمَّ الرواية ، فقال لنا حينها : كان معي في العنبر سجين أقسم أنه بريء مما نُسب إليه ، فالرجل من الصالحين ، وأُدخل السجن بدعوى أنه شتم أحد المسؤولين الكِبار أمام أحد الجواسيس ، وكان سجنه رحمة لنا في تلك الظلمات ، كان يشجعنا لكي لايعترينا يأس ، ويذكرنا بسعة عفو الله ، وأخبرنا بأن باب التوبة مفتوح إلى يوم القيامة ، مهما كانت الذنوب ، ولا زلتُ أحفظ الحديث النبوي الذي سمعتُه منه إذ قال : عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : ( إنَّ الله تعالى يبسط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيءُ الليل ، ويبسط يده بالليل ليتوبَ مسيءُ النهار حتى تطلع الشمسُ من مغربِها ) رواه مسلم ... وأذكر ــ يا إخوتي ــ أني قمتُ من عند الرجل ، وأنا والله أبكي ، وداخلني شعورٌ غريب أرقَّ عيني تلك الليلة التي لم أذق فيها طعم النوم ، وشعرتُ بأن نارا قد اشتعلت في أعماق صدري ، وأخذتني الحيرة ، وجلست في اليوم الثاني أفكر ... أفكر في سبب معاناتي وقلقي هذا الذي اعتراني ، وأنا الذي كنت لاأسأل ولا أبالي بما كان ولا بما سيكون . وتذكرت كيف جرفتني الأهواء ، وعلمت ــ حينئذ ــ قلة علمي بالحياة ، وضآلة قدري بين الناس ، وعدم قبولي عند الله ... انتهزها أبو خباب فرصة فقال : إنها المخدرات ورفاق السوء وعدم التربية البيتية الواعية للأبناء . المخدرات عانت منها كل المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية ، وحاربتها بضراوة ، ووضعت القوانين الصارمة لمكافحتها ، وديننا الإسلامي حرَّمها منذ أربعة عشر قرنا ، ومتعاطي المخدرات والخمور والمسكرات بكل أنواعها يعيش رهن القيود المؤلمة ، وفي حالات من الأسى والخمول ، حتى أن كلمة ( الخادر ) تطلق على الفاتر الكسلان البعيد عن القيام بالواجبات . ردَّ أحمد : هذا صحيح والمواد المخدرة تؤثر على الجهاز العصبي عند الإنسان ، فيتغيرالأداء الوظيفي لبعض أجهزة الجسم ، وهو مايُعرفُ بالتأثير الفسيولوجي ، كما يؤدي تأثير المواد المخدرة إلى استخدام غير واضح للقدرات مثل التفكير والإحساس والكلام ، أتمَّ أبو ربعي حديثه ، وراح يلعن الخمور والمخدرات ، ويحذر من كل المنومات والمسكنات التي تستخدم في غير أغراضها المعروفة لها . إنها تستحوذ على مشاعر ووعي المدمن طبقا لخواصها وتركيبها الكيميائي ... واستغرق الأحبة الثلاثة في الأحاديث ، وما نبَّههم إلا أصوات أفواج الحجاج : ( لبيك اللهم لبيك ، لبيك لاشريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لاشريك لك ...) ويرى أحمد صديقه الحبيب أبا أُويس بين الحجاج ، فناداه وانضم إلى إخوانه يشاركهم المشاعر ، وأهدى كلَّ واحد منهم كُتيِّبًا جميل المظهر والمخبر كما قال . تناوله أحمد وإذا به يتحدث عن (( أسباب تحريم المخدرات ، وقصص أخرى )) . ففتح صفحة وإذا عنوانها : أسباب الإدمان ، قال أبو ربعي بالله عليك اقرأ لنا هذه الأسباب . فراح يقرأ :
وتكمن أسبابُ الإدمان ، وعدم الصبر عن تعاطي المخدرات في أمور عديدة أهمها
أولا : تركيب المادة وخواصها .
ثانيا : طريقة الاستعمال ، فبعضهم يتعاطى المخدرات عن طريق الاستنشاق ، وبعضهم عن طريق الفم ، وبعضهم عن طريق الوريد .
ثالثا : سهولة الحصول على المواد المسكرة ، وتوفرها في أيدي تجار الشر لعنهم الله .
رابعا : تأصُّل المخدر عند مَن يتعاطاه ، فلا يكاد يصبر عنه .
خامسا : أوقات الفراغ ، وما أدراك ما أوقات الفراغ !!
سادسا : ضعف الوازع الديني عند أهل الأهواء ورفقاء السوء .
سابعا : وهْمُ تناولِ المخدرات لغرض اللذة الجنسية .
ويضطر الجالسون حول أحمد إلى قطع حديثهم ، الذي استوعبتْه أصوات الملبين وأصوات الذين يذكرون الله ويسألونه ... وأغلق أحمد الكتاب وهو يقول : الحمد لله الذي حفظ علينا ديننا وعقولنا وأنفسنا وأموالنا وأعراضنا ، ويلتفت أبو ربعي إلى أبي خباب مع ذكر كلمة وأعراضنا ( حيث استذكر القصة المؤلمة ) ، وقال : لعن الله المخدرات والخمور ومِن روَّجها أو استعملها أو تاجر بها ، وقرأ قول الله تعالى : ( ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ) . نودي لصلاة الظهر والعصر جمعا وقصرا بعد خطبتين أفاض فيهما الخطيب بالنصائح الربانية في مسجد نمرة، وخرجوا من المسجد ، وسأل أحمدُ عن صاحب المفاجأة ، فقال أبو ربعي ، إنه ليس ببعيد ، ولكننا اتفقنا إن ضيَّعنا بعضا فاللقاء عند غروب الشمس حول تلك الصخرات ، وأشار إلى مكانها ... وهم يحثون خطاهم نحو جبل الرحمة ، حيثُ التهليل والتكبير ، والدعاء والدموع ، وحيث تعلقت القلوب بالله ، فلا ترى إلا أصداء نداءات الأشواق تنطلق تشق أجواء الفضاء ... يا أرحم الراحمين ، ويأتيهم الجواب من نبيِّهم صلى الله عليه وسلم يوم قال وهو في نفس هذا المكان المبارك : ( أتاني جبريل آنفا ، فأقرأني من ربي السلام ، وقال : بشِّرْ أهل الموقف والمشعر أن الله نظر إليهم ، وقد غفر لهم ، وتحمل عنهم التبعات ) فقال عمر رضي الله عنه : يارسول الله ألنا هذه خاصة ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : ( بل لكم ولمن جاء بعدكم إلى يوم القيامة ) فقال عمر رضي الله عنه : كَثُرَ خيرُ اللهِ وطاب .
وقبل الرحيل من عرفات ، والشمس تحتضنها أيدي غروب ذلك اليوم المشهود ، تذكر الإخوة أخاهم ، فراحوا يبحثون بالقرب من الصخرات ، ويتلفتون في الوجوه المباركة ، وإذا بأحمد يلمح صديقه الحميم أيام زمان عمَّارا وهو مستغرق في الدعاء ، وقد ذهل عمَّن حوله ، وقسمات وجهه يتثنَّى فيها النور ، حدَّث أحمد نفسه وهو يقول : أبشر ياعمار هذه أنوار التوبة ، هذه أنوار التوفيق والمغفرة ، والتفت إلى بقية أصحابه وقال : أظنُّ أنني وجدتُ صاحب المفاجأة قبلكم ، انتبهوا ذاهلين وهويشير إلى عمَّار الذي مازال مستغرقا ، يسبح في عوالم الأفق الأعلى ... وقفوا حوله ، وانتبه الحاج عمَّار إلى أصحابه ، وكانت دهشته عظيمة ، وربما توازي فرحته برؤيته لأخيه القديم أحمد، انتفض واقفا ورمى بنفسه على أحمد معانقا باكيا يغص حلقُه بكلمات لم تُفهم ، جلسوا جميعا في هدأة السكينة التي تلف الموقف الكبير ، ثم ساروا مع الناس يقصدون المزدلفة .
استأذن أحمد بقية إخوانه ليسير مع عمار ، ويستذكر الأيام الخوالي ، فتنهد عمَّار وقال : آهٍ ثمَّ آهٍ على ما انصرم من أيام الضياع ، ردَّ أحمد : لا عليك يا عمار هذا يوم يجب ما قبله برحمة الله وعفوه ، أنت اليوم قد وُلدت من جديد ، قال عمار : الحمد لله ... كانت الصدمة مرة ، وكادت تقودني للخلود في النار ، كنا جالسين ننتظر ليأتي إلينا بشابة كعادتنا القبيحة آنذاك لفعل الفاحشة ، وكانت الصدمة مُرَّةً قاسيةً ، وقد هممت بقتل ( ؟؟؟؟ ) حين أدخل علينا أيام الطيش والفجور خطيبتي ( ؟؟؟؟ ) تصوَّر ياأحمد خطيبتي التي ستكون زوجتي بعد أيام في تلك الفترة ، وتدارك الأمر مَن معنا من رفقاء السوء ، وجيء بي إلى السجن ،ومكثتُ فيه ستة أشهر ، وكانت توبتي خلف قضبانه الحديدية على يد سجين بريءٍ . ردَّ أحمد : إنها صدمة حلوة جاءت بك إلى هذه الرحاب ، وأدخلتك ديوان الأبرار الصالحين ، وأبشرك بأن اثنين من أولئك الحاضرين قد رجعا إلى الله ، وجاءا إلى هذا المكان وحجَّا ، وتلك الفتاة صارت نصيب غيرك ولها الآن ثلاثة من الأولاد ... أعلمُ ذلك يا أحمد ، وهذا ما أعانني على نسيان تلك الأيام التي لبَّس فيها الشيطان علينا الكثير ... الكثير من الأفعال القبيحة والسلوك المشين . كانت خيمة أبناء الديرة كما يسمونها تنتظرهم في مزدلفة ، وقد انتظم فيها خمسة حجاج ينتظرون أحمد ليتموا مناسك حجهم ، فإذا بهم عشرة حجاج ، وكانت المفاجأة الحلوة رؤية عمَّار للسجين الصالح الذي وجده في السجن في بلدته ، هبَّ الرجل منتفضا : عمار ... عمار تعانقا طويلا وأصوات الملبين والداعين رفعت وفاءَهما فوق السحب البيض التي كانت تغطي مرابع المزدلفة .
وسوم: العدد 844