لحظة وداع

لطفي بن إبراهيم حتيرة

لطفي بن إبراهيم حتيرة

[email protected]

 ..هو البحر لا ساحل له, هو اللّيل لا فجر له, وهو الوحيد لا إلف له..الطريق يرتقي أمامه صاعدا مرّة وينحدر أخرى..القرية خلفه تبتعد و تبتعد..الشّمس أمامه تعلو بهدوء وشموخ..النهار بدأ يلوح..نسيم الواحة يهبّ عليه نديّا رطبا..وقف ونظر خلفه القرية لم تعد كما هي لقد أصبحت مكانا يشبه المقبرة والناس فيها كأنّهم أصنام متحرّكة..أو خشب مسند ة..

الناس في قريتي ترهقهم الذلّة.. تفنيهم الكآبة..عيونهم في غروب دائم .

أنظارهم أنفاق لا تعرف آخر..نوافذ مظلمة..شوارع القرية بلا أسماء وإن وجدت الأسماء فهي زائفة كاذبة..الحياة في القرية ثقيلة..رتيبة..متعبة...

أعصاب مكدودة ..مشدودة كأوتار شدّت إلى آخرها لا تعطي إلاّ نغما نشازا واحدا..مملاّ..

 ـ آه..القرية...؟

قال متنهّدا ثمّ واصل الطّريق..العمر يمضي والحياة صارت قاسية..الفساد أصبح عادة وسلوكا..الفساد صار هواء نتنفّسه, طعاما نشربه..

 ـ إسمك و لقبّك..؟

سألك المعلّم..

 ـ الطفل الجريح..

أجبت..

فقال صارخا:

 ـ ماذا..؟ماذا قلت..؟

 ـ الطّفل الجريح..

أجبت بهدوء..

ـ من أين أنت..؟

ـ من قرية الرّيح...

فقال مندهشا مبتسما ببلاهة:

ـ الطفل الجريح من قرية الرّيح.. قافية جميلة ...

فقلت غاضبا:

ـ ليست جميلة هي حزينة...

 ...القرية بركة آسنة.. بحيرة عفنة متعفّنة..ملأت جيفا وامتلأت نفاية..ترى الماء فيها ساكنا جميلا وتحته فرّخ البعوض وباض..وتنام القذورات..القرية متاهة قاتلة.. البيت.. المقهى.. البيت.. في القرية أكثر من عشرة مقاهي وكأنّنا ولدنا على مقاعدها.. نفس الوجوه ونفس الكلام نلوكه صباح مساء ونجترّه كلّما تحدّثنا.. فراغ دائريّ بل هودائرة مفرغة تتّسع ثمّ تتّسع إلى أن تصير كالرّحى التّي تطحن الرؤوس والحجارة معا...

 ..مثقل أنت.. مرهق أنت.. جرحك ينزف..دموعك حصباء.. خرساء.. صمتك بئر بعيد الغور الماء فيه قليل..

كلامك طائر يطير بلا جناح.. ويغرّد بلا لسان..

المجهول يناديك.. القدر يناجيك.. الحلم يراودك وأنت والطّريق والشّمس والرّحيل..الرّحيل ..

 الموضوع: الرّحيل..

 <<الرّحيل دمعة سقطت على وجه الأرض.. و الأرض يومئذ خراب ويباب>>..

 ـ ماهذا؟..من هذا؟..

قالت لك أستاذة العربيّة..

فقلت و أنت شبه تائه:

ـ هذا ما عندي؟.

فأخذت الورقة ونشرتها أمامها ثمّ قرأتها بصوت عال:

 <<الرّحيل دمعة سقطت على وجه الأرض.. و الأرض يومئذ خراب ويباب>>..

فصحت فيها:

ـ هذا أكبر من دماغك؟.

وخرجت من القاعة لا تلوي على شيء..

 ...كنت دائما تبحث عن السكون.. لكنّك لم تجد ه.. سافرت بعيدا.. سهرت طويلا.. سرت كثيرا.. فكّرت عميقا و بحثت... لكنّك ما وصلت..

قلت:

ـ خير الطّرق ما لم تكن له نهاية.. هيهات.. هيهات البداية هي النهاية و النهاية تكون عند البداية..

 ...القرية خلفك.. وكلّما إبتعدت عنها إقتربت إليك.. وكلّما فررت منها زاد حظورها فيك.. أنظر خلفك كم هي ساكنة وادعة و مسالمة كأنّها طفل نائم بين أحضان أمّه.. أنظر إلى الواحة أنظر إلى النّخيل كأنّهن عذارى أفقن من نومهنّ يمشطن شعورهنّ ..

 قال لي جدّي رحمه الله حين لم أستطع الصعود إلى النّخلة :

 ـ لم الدراسة و أنت لا تستطيع الصعود إلى النخلة؟.

 فقلت له:

 ـ ياجدّي في المدرسة لا يعلّموننا كيف نصعد النّخيل..بل يعلّموننا سوء الأدب و الكذب والنّفاق..

 ..المحطّة أمامك و القرية غابت عن ناظريك.. لماذا لم تخبر والدتك التّي تركتها نائمة لماذا؟ وتدّعي أنّها أغلى شيء عندك..

 ..إلى أين تذهب؟ والغربة ولدت معك.إلى أين تفرّ؟ وأنت صريع الوجع.. غريق في العجز.. خطاك تئزّ قدماك تئنّ.. أطرافك ترتعش.. غصونك ترتبك.. أوراقك تتهاوى.. أركانك تتداعى في كلّ يوم.. لا زوجة.. لا ولد.. لا عمل.. لا سكن ولا بيت.. لا صديق.. لا رفيق...

 ـ عبير الوّرد...

قالت ضاحكة..

فقلت مبتسما ابتسامة مصطنعة:

 ـ أنا عرق القهر..

فضحكت مقهقهة..

 فقلت متبرّما:

 ـ أليس جميلا أن يلتقي الورد بالقهر؟.

فقالت:

 ـ هذا غريب.. وجهك يقول عكس هذا..

 ـ دعكي من وجهي فوجهي قناع أصطاد به النّحل و الفراشات التّي تريد الإ نتحار...

 ـ أنا لست فراشة أنا نحلة تأخذ قبل أن تعطي..

 ـ هكذا هي الفراشة تحسب النّار نورا تقتبس منه لكنّها جاهلة فتقع في النّار محترقة...

 ...لاأحد في القاعة.. نافذة التذاكر مغلقة.. الساعة تشير إلى السادسة إلاّ ربعا.. ساعة الخلاص قربت.. باب المجهول قريبا يفتح على مصراعيه.. البحر أمامك فهلمّ إليه.. شاطيء الأمان أو الغرق...