خطاب تاريخي

خطاب تاريخي

عبد العالي زغيلط

أستاذ بقسم اللغة والأدب العربي /جامعة جيجل ــــــــــ الجزائر

[email protected]

فتح خزانة ملابسه،بحث عن بدلة جديدة،غدًا سيكون على موعد تاريخي،المواعيد التاريخية تحتاج إلى أثواب جديدة.. في جوف الخزانة الأثواب كلها قديمة، وإن لم تكن أسمالا،أغلبها كانت تأتيه هدايا،بعد أن يتخلص منها المسؤولون المترفون، وإلى جانب البدلات القديمة تتراص الأقمصة البيضاء ،والرمادية، والزرقاء ،وتتدلى إلى جانبها أربطة العنق بكل لون وشكل وحجم.

مرر يده على رقبته ،بلع ريقه الذي تجمع في فمه المتداعي الأركان،لقد شعر لأول مرة أن هذه الربطات مشانق أنيقة.

لا بأس! قالها بصوت مسموع،ومدَّ يده ليأخذ بزته البنية فقد رأى أنها أليق للون وجهه في الصيف، فلوجهه ألوان قوس قزح، ولكن أصابعه وهي تفرك القماش أوحت إليه برأي مخالف،فالبدلة لا تصلح لفصل الصيف،أعادها مكانها، وكشرطي مرور راح يمرر البدلات المعلقة،يستوقف من حين لآخر بدلة، يدقق في تاريخها، ومدى صلاحيتها ،ثم يسمح لها بالعبور،وأخيرا وجد ما يتزين به في حفلة الغد.

شغَّل المكواة،مرر أصابعه على الحديدة المحماة وسحبها بخفة،بدأ يسوي الانثناءات العنيدة،والانكسارات القديمة،والانعطافات الغريبة،كانت البدلة رمادية ،وكانت في عناية الإهمال منذ أن طلَّق منْ لا يحب ذكر اسمها..المكواة تتزحلق على سروال الكوستيم، وتبدد الأخاديد،وتخفي العيوب،ومعمر غنداف يدندن بأغنية قديمة:حزب الثوار ومْعَاهُمْ هانَتْ لَعْمَارْ[1].

تفقد ربطات العنق..الصيف لا تصلح معه ربطات العنق..ولكن المناسبة رسمية ولا مكان للاستثناء في المناسبات الرسمية..حسنا سآخذها معي احتياطا.

قارورات العطر تتزاحم في الطرف الآخر من الخزانة،بعض منها على الطاولة إلى جانب السرير، كثير من هذا البعض جاء هدية،بعضها تهادت إليه،وبعضها الآخر جاءته رشوة مهدية أو هدية مرشوشة،العطور تكفي لتزيل نتانة أكبر مزبلة،ولكنها غير قادرة على تعطير سيرته غير العطرة.

لا يهم! الجميع سيرتهم غير عطرة،والرشوة قانون لا بد منه كي يقف المرء على قدميه،وإذا كنتُ كلبا كما يقول عني الأنذال،فلا بد لكلب ضال مثلي من وجبة تؤخذ من جيوب هؤلاء الأوغاد.

استلقى على فراشه،جفاه النوم،أطفأ المصباح ،جفاه النوم،ترصد النوم في كل الوضعيات،جفاه النوم،غيَّر أحلام اليقظة،حاول أن يشغَّل جهاز استقبال الأحلام اللذيذة إلا أنه وجده صدئا،الدنيا هكذا كلما سعى المرء في أعقابها أصرت على كشف عوراته،حتى لا تبقي له مكانا ولا مكانة،واللعنة على اليوم الذي رضيت أن أكون موظفا في البلدية "رْضِينَا بَالهَمّْ والهمّْ ما رْضَا بِينَا"،وماذا يساوي بيروقراطي صغير مثلي في دولاب الدولة،إنها تدور وتدور ولا تلتفت إلى المتساقطين على جنباتها،يا لها من وحش،وتساءل عن مصير سليمان التشيبة[2] الرجل الذي يوحي لقبه بالرشاوى التي يقبضها بعنوان مزيف ككل شيء في هذا البلد، وكيف أنه أنفق ما تبقى من عمره يبيع كتبا قديمة لا يقرأها أحد،وأنه لم يقدر على تجهيز ابنته العروس حتى أشفق عليه من كان يطردهم من شباكه يوم كان سيد الشباك!

لا ضير، لن أبقى في البلدية،الوعد الذي قطعوه لي بأن أُنْقَل إلى الدائرة لا يمكن أن يخلفوه،وكيف لهم أن يفعلوا وخطاب يوم غد ـ يا لخوفي من غد ـ بين يدي،وقفز مذعورا من سريره:آه لقد نسيت تدقيق الخطاب الذي سيلقيه رئيس الدائرة في مقبرة الشهداء،يا للهول!

جلس إلى مكتبه،ومكتبه ليس سوى طاولة وكرسي،وبدأ يقرأ ويمحِّص ما كتبه ،آخذا في الحسبان تعليمات رئيس البلدية التي أبلغه بها عن طريق رئيس لجنة الثقافة:اكتبها بخط كبير وواضح،ضع الشكل على الكلمات التي  يمكن أن تقرأ بوجهين،اعتنِ بالفواصل،لا تكتب ما يثير حساسية السلطات العليا،ركز على انجازات الرئيس،كرر مدحه وعدِّد خصاله...

يا الله .. تناول القلم وبدأ يعيد التدقيق فيما كتبه،كلمة هنا،كلمة هناك،فاصلة هنا،فاصلة هناك،ثم وضع القلم جانبا فتدحرج القلم وسقط على الأرض،لقد أنهكه التعب. ابتسم من تمرد القلم،وغضبه،رمق الساعة الحائطية،يا إلهي إنها الواحدة صباحا،لا بد من النوم،غدًا سيكون يوما شاقا.

منصب رفيع في الدائرة،وسكن خاص يخلصني من الاستئجار،ويوفر لي ما أدفع به أقساط نفقة من لا أحب ذكر اسمها،أتخلص من الديون،ويهابني الناس،وأنعم ككل البيروقراطيين بسكرتيرة جميلة تؤنس وحشتي وتبدد القلق الذي يستبد بي كلما آويت إلى هذا الوكر الذي يسمى بيتا.يا ربي لقد نسيت طعم الأنثى، واستبد به القلق،أيكون لا سمح الله قد أصابه عجز ما،حاول أن يبعد الفكرة من رأسه ولكنها أوشكت أن تذهب ليلته وتفسد نهاره..سأجرب حظي بعد العودة من مقبرة الشهداء!!

 هزه المنبه من نومه المتقطع فنطَّ من على سريره يلاحق الدقائق والثواني،كانت المرآة هي زوجته التي يرى في صفحتها صورته،مرر أصابعه على ذقنه ليتأكد من نعومة الملمس،ولكن الإبهام انحدر في أخدود عند الفم،أزاح شفتيه حتى يرى أسنانه،لم يبقِ التدخينُ والبيرة الرخيصة من أسنانه إلا تجاويف سوداء يتحصن بها السوس.

تكسْتَمَ،تكرفطَ،وبقي الحذاء،لقد نسي أن يلمعه،أخرج كومة من الأحذية أهديت له في مناسبات عديدة نظر إليها نظرة الزاهد فيها،ولكنه لا يستطيع الذهاب إلى حفل كهذا حافيا،والنعال التي بين يديه لا تعطي له المكانة التي يأملها،هــــه رب نعل شر من الحفاء.

لا يهم سينظر الناس في وجوه بعضهم،ودس قدمه اليمنى في الحذاء فأحس بوخز في العقب،حاول مرة وأخرى إلا أن الحذاء يصر على إيذائه،رفعه، دقق النظر فيه، ثم رشق به مرآة عالقة بالخزانة فارتطم زجاجها على الأرض،اللعنة عليها حتى هداياها لا تصلح لشيء،سانتعل حذاء رياضيا.

تأمل هيأته فتراءت له مضحكة وكرنفالية،بسرعة نزع الحذاء الرياضي وانتعل حذاءه القديم،عليهم اللعنة أتعبونا بالشكليات. ولأول مرة يحس بوطأة الشكليات، كانت فيما مضى أهم شيء، ولما ضاقت الحياة، وشحت الموارد، وأدبرت الدنيا أمست شكليات، وأصبحت ملعونة!

***

أمام مقر الدائرة اصطفت سيارات الجندرمة،وسيارات البلدية وسيارة رئيس الدائرة،النشيد"قسما"ينطلق مدويا من مقر البلدية،الأعلام تزين الشوارع،المسؤولون كالدمامل المتقيحة متناثرين عند مدخل الدائرة ريثما يؤذن لهم فيركبون،إنهم يتضاحكون،يبتسمون،يتغامزون بينهم، بعضهم يغرس رأسه عاكفا على قراءة الجريدة،العناوين تتحدث عن مرور خمسين عاما من الاستقلال،أحدهم كان يقرأ جريدة كتب على صدر صفحتها الأولى:الثورة والدولة وسنوات التيه والرشاد،بدا العنوان مستفزا،وعلى الصفحة الأولى من جريدة أخرى كتب عنوان كبير:على الحكومة أن تتقشف بتخفيض أجور الوزراء،والنواب والإطارات،لا شيء في هذه العناوين سوى التأكيد على أن انتظار الانطلاق نحو المقبرة يجب أن يملأ بالثرثرة أو بالقراءة التي تشبه الثرثرة.

 رجال الدرك أكثرهم شباب واجمون، يستعجلون انتهاء الحفل في هذا اليوم الحار، ينتظرون أوامر قائدهم ذو الشنبات المفتولة والكرش المندلقة،كان آخر ما نزل إليها تسوية ملف مطلَّقة،تأخر الانطلاق إلى مقبرة الشهداء انتظارا لممثل المجاهدين القزم ذو اللحية التي أعفيت حديثا،ففي خريف العمر لا يحسن بالمرء أن يبقى أمرد،أو متمردا،ولا بد من بعض الوقار عند قبور الشهداء، فلولاهم لما كان مجاهدا ينعم بالخيرات،ويطوف بين فتح الحسان وفتح الحساب!

   ها قد جاء يجر قميصه الأبيض ويتقي الشمس بكوفية أتى بها من بيت الله الحرام كما يقول،حتى يزيد إلى نياشين الجهاد المقدس بعضا من قداسة الحج والحجاز..أفسحوا له الطريق،صافح (مـَنْ) ما يسميهم من غير قصد السَّلَطات العليا،ثم توجه إلى سيارة أحضرت خصيصا له،وإثره تلاحقت الوفود،جاء كل والغ، جاءت الكلاب الضالة،وجوه النحس كما يقول عنها الناس،جاء القوادون،اللاحسون للقصعات،والمقبِّلون للأيدي التي تصفع،جاءوا من كل حدب ينسلون،المدلِّسون،المبلسون،المرتشون ،الواشون،المنحطون،التافهون،الدجالون،كانوا كثيرين على قارعة الطريق،كانوا كثيرين على قارعة الحياة!رضوا بأن يكونوا ذيلا لأسيادهم ،ترضيهم قفة ذليلة في رمضان من سلع المخازن النتنة،ينتشون ولو بوعد ،مسكن ولو بغرفة وحمام،وعلى أقدامهم الحافية سيقطعون ست كيلومترات ذهابا وعودة ليرفعوا أيديهم المتشققة من الفاقة ضراعة أن يرحم الله الشهداء،وبعدها يرحمهم ولي الأمر بحبة بقلاوة وعلبة عصير مسروقة من أموالهم، ثم يحمدون جوده، ويذكرون معروفه،ويلهجون بصنيعه.

إلى جانب رئيس البلدية كان يجلس معمر غنداف،بدا التعب واضحا على وجهه، كل من يعرفه لاحظ ذلك،غير أن رئيس البلدية لا يهتم للوجه إذا تغير،ولا يكترث للهموم عندما ترتع قطعانُها على صدور مواطنيه ،رئيس لا يقرأ العلامات ولا يهتدي بها،فالمهم عنده أن ينجح الحفل ويشهد على نجاحه رئيس الدائرة الذي يبرق إلى الوالي بحسن السيرة والسلوك، ليحوز بعدها صك الغفران من الجهات العليا ،وجديرٌ بخطاب حسن الديباجة موفور البلاغة  بهي المطلع، مختموم وختامه تزلف،أوله حمدلة ووسطه ذكر للمآثر والمنجزات،وآخره شكر وإشادة، جدير بخطاب كهذا أن يحقق ما عجزت عنه الصور ولوحات الإشهار في انتخابات مزورة.

ـ أنجزتَ ما أمرتك به.

التفت إليه الرئيس بالسؤال من غير تنبيه.

ـ بكل تأكيد..

ـ أعرف أنك أفضل كاتب في البلدية،الجميع يشهد لك بالتقافة(الثقافة) والقراية(القراءة)،حتى زبيدة (المنظفة بالبلدية) أبلغتني أنك تهدر (تتكلم)العربية والفرنسية. 

ـ ليس بالضبط.

ـ راك متواضع (هذا تواضع منك)،على كل حال رايحين نسمع من رئيس الدايرة اللي كتبتو،راني قريتها،راهي هايلة..والله شي كلمات ما فهمتهومش،بلا شك سيد الرايس يفهمهوم مليح!(سوف نسمع من رئيس الدائرة ما كتبته،لقد قرأتها،إنها رائعة،بعض الكلمات لم أفهمها،لا شك وأن الرئيس يفهمها جيدا).

الكلمات تتكور في رأسه وتكاد تنزلق على لسانه بذاءات،ومعمر غنداف يجهد نفسه أن لا تنفلت (أيها الوغد الحقير لو تدري كم من الوقت أنفقته في تحبير ما لا يحبر وتعبير ما لا يعبر لبلعت لسانك الذي لا يصلح حتى لتقليب الطعام)

 ـ إن شاء الله.

كانت إجابات معمر غنداف المقتضبة تربك رئيس البلدية،عندها توقف عن سؤاله حتى وصلوا المقبرة.

اصطفت السيارات على طول الطريق، إلى جانب المقبرة..قبالة المقبرة تشمخ دار" بنفرُّوج العربي" قواد فرنسا وراعي خنازيرها ، يعرفه كل من في المدينة،الدنيا قسمة ونصيب،وآه لو كشفت حجب الغيب للراقدين قبالة داره!

   نزلت الوفود، انتشر رجال الجندرمة في كل زوايا المقبرة،ليؤمِّنوا المقبرة..ليؤمِّنوا الرؤساء في المقبرة،ولحق بهم السواد،أكفهم خشنة،وضراعتهم قد تلقى قبولا عند من لا يرد سائلا،فَرُبَّ أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره،ولكن هؤلاء ..ولكن هؤلاء يعبدون ما يعبده السامري،لا يهم سيقرؤون الفاتحة،الكل يحفظ الفاتحة،والباقي على من استطاع.

بعدما أنهى الإمام قراءة الفاتحة،وقرأ ممثل المجاهدين الورقة التي كانت بين يديه وكان قد قرأ منها العام ما قبل قبل قبل...الماضي.

   أحيلت الكلمة إلى رئيس الدائرة،صعد المنصة التي وضعت عند النصب التذكاري ـ النصب التذكاري أنفقت عليه البلدية كما تقول الروايات،والشائعات،والمؤمرات،والبلابل(غير المغردة) ما يكفي لإسكان عشرين عائلة بلا مأوى ــ كان يضع نظارات سوداء،بحسن الظن بسبب الشمس اللاهبة،وبسوء الظن حتى لا يرى وجوه البق التي تجمعت أسفل المنصة ،ولكن الرئيس لن يكون رئيسا إذا انقرضت وجوه البق هذه.

الورقة بين يدي الرئيس،تطلع معمر غنداف،والسعادة تتقافز من عينيه،ولكنه لم يسمع الرئيس من قبل،عندما وضع الخطاب بين يديه التفت إلى واضعه بالقول:ميغسي.

ـ ميغسي! يا إلهي ميغسي مرة واحدة، وفي مقبرة الشهداء،وماذا عن الخطاب؟وبدأت الشكوك تتسرب إلى قلب معمر غنداف.

بِسْ..بِسْ..بسم الله اللحمن اللحيم..

كال تعالى:" وَأُخْلى تُحِبُّونَهَا نَصْلٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ كَلِيبٌ وَبَشِّلِ الْمُؤْمِنِينَ"[3] صدك الله العظيم

وفاءً من أبْ ..أبْ..أبناء بلديتنا لألواح الشهداء البَلَلَة،ها.. ها.. ها نحن اليوم نَكِفُ وكْ.. وكْ.. وكْفَة تلحُّم نتذكل فيها مآثل أولئك.. الذين كدَّموا ألواحهم لخيصة فداء للوطن،كي ننْ.. ننْ ..ننعم نحن وأبناؤنا بخيل هذه الألض.

  بعْ..بعْ.. بعد أكثل من سبعة أعْ.. أعْ.. أعوام من الكفاح المليل انتصلت اثْ..اثْ..الثولة التحليلية الكبلى على كُوى اشْ ..اشْ ..الشلِّ الاستعماا..الية وعلى جيوشها الجلَّالة وافْ..وافْ..تكْ..تكْ..كَتْ الحلَّيَّة والاستكلال، ونحن إذ.. إذ.. إذ نحيي هذه الذكلى العزيزة على كلوبنا،والتي هي ذكلى مَزْ..مُزْ.. مزدوجة للاستكلال والشباب، فإنه لا يفوتنا أن ننوه بالانجازات العظيمة التي حككتها الجزائل على كل الصعد.

فعلى مدى خم.. خم..خمسين عاما استطاعت الجزائل أن تن.. تن.. تنتكل إلى مصاف الدول اللا ..اللا.. اللائدة في الصناعة والزلاعة،وأن تكدِّم  صُو.. صُو.. صُولَةً ناصعة في الديموكلاطية وحكوك الإنسان، وبعد أن كَضَتْ على الإلهاب الأعمى  تفلغت لإعادة البناء والتعميل،وهذا بفضل جهود فخامة اللئيس الذي لا يُنْكِلُ ما كام به إلا حا..حا..حاكد ومتآمل على الأمن واست ..است ..استكلال البلاد.

إيمانا منا بكداسة الثولة،وتضحيات الشهداء،فإننا نعلن منذ اليوم تسمية المَكْبَلة بــ:لوضة الشهداء..

والسلام عليكم ولحمة الله وبلاكاته. إي ي ميغسي.

أنصت معمر غنداف بانتباه، وتأكد بعد دبلجة الحروف المتساقطة أن الخطاب كما كتبه،ولكن الإعلان الأخير لم يعلم به إلا لحظة قراءته!

 ها هي الكلمات تتبعثر كعصف مأكول،وها هو الخطاب الرائع يهوي في الحضيض ويبخر أحلام معمر تحت لفحات شمس هذا اليوم،وها هو رئيس الدائرة يُجْهِز على ما تبقى من أمل في تغيير الحال وتحسين المرتبة والمرتب.

بدا رئيس البلدية مرتبكا،إنه يعرف نفسه..أميٌّ من عهد نوح، مجرد حارس في البلدية أنعمت عليه البزة شبه العسكرية أن يكون مرشحا،ثم بديمقراطية الرعاع صار رئيسا،ويعرف كما يعرف الذين نصبوه أن الأحرف والكلمات أعداء أبديون له،وأنه لا يحسن إلا الختم على ما تكتبه السكرتيرة "الجميلة" يعني التي نزعت خمارها،ولطخت وجهها بصبغ للناظرين، وكشفت عن ساقيها،وما بعد بعد ساقيها وقالت للغادي والرائح:هيت لك!

ولكن مجزرة بهذه الفظاعة،وقراءة بهذا العي،وارتباكا بهذه الشناعة أخرجته من أميته،وجعلته يتصبب خجلا،لأن العرق قد تصبب من الحاضرين من حر الشمس.

  رجع الوفد الرسمي إلى مقر دار الشباب،يتبعهم العضاريد الرعاديد،في الطريق كانوا يتحدثون عن خطاب الرئيس،خطاب الكلمات المتقاطعة،بعضهم تعجبوا من أن الرئيس لم يخجل بخطابه ذاك،ولم يبد عليه الارتباك..وبعضهم قال عن خطابه أنه أسكت قس بن ساعدة! (بالمناسبة لا أحد يعرف هذا القس)

  أعدت المشروبات،أعدت الحلويات،أعدت الجوائز،أعدت الهدايا،وأعدت المفاجآت،تلاحق المترحمون على الشهداء،العرق يتصبب، ولا بد للأجير أن ينال حقه قبل أن يجف عرقه!

 شكرا لكم، لقد قلتم للشهداء كلمات ليست كالكلمات.. وهم أيضا شاكرون لكم زيارتكم.. فلا تخافوا إنهم لن يعودوا هذا الأسبوع ،ولا الأسبوع القادم.. فتمتعوا بما لذ،واستمتعوا بما طاب، لن يفسد عليكم عرسكم أحد،لن يهتك ستركم أحد،لن يكشف عوراتكم المكشوفة أحد، فليس ثمة أحد بالمرة!!

  وبدأ الحفل،وجلس معمر غنداف إلى جانب رئيس اللجنة الثقافية،كان متعبا وخائفا ، شعر لأول مرة أن تهديدا ما ينتظره، وكلما تذكر قراءة الرئيس للخطاب أمسك بركبتيه،وتحسس قلبه،لقد أجهد نفسه وهو ينتقي الكلمات،لقد وضع النقاط على الحروف،ولكن النقاط والحروف مثل زوجته الناشز أبت إلا المشاكسة،وأصرت على فضحه أمام الملأ، أيكون الأرق والتعب قد تلاعبت بالكلمات فتفرق شملها ولم تلتئم على لسان الرئيس،أيكون هناك من تلاعب بالخطاب ليطيح به..لا..لا ، أهناك من ينافسه على المنصب؟

  إنه لم يلتق الرئيس منذ أن عينوه،ولا يعرف بأية لغة يتكلم ،وما هو مستواه،ولكنه في هذه معذور،فلم يسأل أحد عن مستوى الرئيس،الجميع يسأل كيف تؤكل الكتف،حتى ولو كانت كتف خنزير.. الموسيقى والأحاديث في القاعة أعطته فرصة لينقب في أسباب العي عند الرئيس.. ولم ينتبه إلا والرئيس يسلم شهادة تقدير، ويعلن معها عن تعيين السيدة "صباح" سكرتيرة خاصة بالدائرة،وقع الاسم على طبلة أذن معمر غنداف وكأنها دقات إعلان حرب..يا إلــهي  "صباح" مرة واحدة.."صباح" ويسبقها لقب السيدة.. "صباح" ويتبعها لقب السكرتيرة الخاصة.. "صباح طرموشة" أصبحت سكرتيرة الرئيس،ها هي الدائرة قد اكتملت،وها هي المخاوف قد بلغت التراقي، فهل من راق؟

اسمها لا يحب أن يذكره حتى في سره ومع نفسه..إنه لا يحب أن يقول لأحد أو يقول له أحد صباح الخير.. وبعد أن سهر الليلة كلها لينال الحظوة عند الرئيس يجد نفسه قبل نهاية المطاف يستمع إلى آيات التبجيل لجيفة تستأجر كل شيء إلا الشرف لأنها لا تملكه!

****

   جاء رئيس البلدية ،أفسح له رئيس اللجنة الثقافية في المجلس،وحياه بتقبيل ودي،شعر معمر غنداف أنه الوحيد الذي لم يحظ بلقب الرئيس،حتى الكلاب التي ضلت سواء السبيل تنعم بلقب كهذا.

  لم يكن إذن مثقفا ولا كاتبا،كان مجرد بيروقراطي، يصفه الخصوم بالحقير، وينعته الأصدقاء بالبسيط، وماذا سيفعل به الرئيس؟

انحنى عليه رئيس البلدية،قرب شفتيه من أذنه، الرائحة الكريهة سبقت الكلمات:انسَ أمر السكن،ألم تعلم أن الرئيس فرانكفوني لا يجيد العربية،وأنت رحت تتقعر في كتابة الخطاب،وتتشدق بكلمات لا يفهمها أحد.

ـ ولكنكم أنتم من طلبتم كتابة الخطاب واشترطتم ديباجته.

ـ على كل.. منصبك سيبقى شاغرا إلى إشعار آخر.

ـ ولماذا؟  تساءل معمر بأسى واستعطاف،وذل.

ـ لا أدري،كل ما أعرفه أن الرئيس غاضب،وقد اعتبر ما كتبته إهانة لشخصه، وتمريغا لسمعته أمام الناس،وأما عن منصبك في البلدية فيبدو قرار توقيفك قد كتب قبل أن تكتب الخطاب.

ـ هي بلا شك،ومن غيرها!

ـ من هي؟

ـ ومن غيرها،وإلا كيف وصلت إلى منصب..

سكت معمر كأن شيئا ما قطع لسانه،ود لو يقول ما رآه وسمعه طوال أكثر من عشرين سنة،ولكن الكلمات تلاشت،خوفا..ربما؟خجلا..قد؟ هو لا يدري لماذا توقف عن الحديث،الخناجر الصدئة تساقطت على لحمه المتهرئ،والسعاية دين جديد يود لو يعرف شعائره،والنرجسية صارت تتلبس لبوس الوطنية ،واختلطت على معمر الثارات وتفرق دمه في مغارة علي بابا،ورأى رأي العين أن "صباح" تنزله إلى أسفل سافلين،الدياثة لها "رجالها" يا للمفارقة،الرجال لخدمة الدياثة،ورعاية القوادة،وصون انتهاك الشرف!!!

صباح الخير أيها الحزن،أهلا بالخيبة، وليحيا وطن المقصيين،المـ.. صيين.  

ـ لا يمكن للدولة أن ترتكب حماقة كهذه،المسائل الشخصية لا يؤخذ بها في مثل هذه الأحوال إنها صدفة فحسب.

لم يسمع ما قاله الرئيس، كان كمن أوقظ من نوم عميق،قام معمر غنداف واتجه مسرعا إلى المرحاض،إجابته ستكون هناك.

إنه يعرف أن تاريخا جديدا سيكتب له منذ هذه اللحظة.

أغنية للمطرب الجزائري رابح درياسة

هي إحدى كنيات الرشوة في اللهجة الجزائرية،وتنطق التاء والشين بإدغام.

وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) الصف