المـقـامة الـمـنامـيَّة
حدثني بمن هو الأحداث خبير وفي علم الرجال أمير :
بأنه عاد من عمله متعَبا, وبات شعرُه- من وعثاء السفر- مُرعِبا, فوجد غداءه حاضرًا , وبيته بنعم الله عامرًا, حتى أزفت الآزفة , ورأى أم البنين خائفة , وصار للبيت دوي كدويِّ النَّحــل , وسَمِع الصراخَ الجيرانُ والأهل ؛ فقد عاد الأطفال من المدارس , وأتــى معهم العويل والوساوس , وانتشر الـغــبـــار والــشــرر, وزاد الـخطــر والضرر , وقد قال قائلهم :
ﻛﺄﻥ ﻣﺜﺎﺭ ﺍﻟﻨﻘﻊ ﻓﻮﻕ ﺭﺅﻭﺳﻨﺎ ﻭﺃﺳﻴﺎﻓﻨﺎ ﻟﻴﻞ ﺗﻬﺎﻭﻯ ﻛﻮﺍﻛﺒﻪ
يقول الأمير
ففرتُ منهم لما خفتُهم , وتركتُهم إلى أُمِّـــهــم , ودلفتُ إلى غرفة في البيت بـعــيــدة , لعلَّي أحظَى بقيلولة سعيدة , حـتـى زُلزلتْ الأرض زلزالها , وقمت خائفًا أتحسس أخبارها , وإذ ببنت الأكرمين - وقد عقدت عليها خمارها - وتتناول من المُسكنات مئين, ورأيت أحد الصبية رافعًا ذراعه , والآخر يجــرُّ ساقَــــه , فقد دُقت بينها "خناقه ", وفكرتُ أعترض وأحتج , فقد كاد عقلي أن يرتج , لكني عدتُ أدراجي ورجعت القهقهرى , فقد طُلب مني القول دون فَــــرَى , واحتكم الأولاد إليّ , مَن يا أبي فعل الغَـــيّ ؟ فقلت: يحكي أشدكم إصابة ؛ فـهـــو- غالبًا- أقربكـــم إلى الإصـابة , فقال : أيرضيك أن أُسحل كالحرامي , ويأكل الكبيرُ ذراعي, والأولَى أن يكون لنا راعــــي, أوليس الكبير راحم للصغير, وأنت في علم الرجال أمير , فقال أكبرهم , بل إن الصغيرَ موقرٌ للكبير ؛ والحديث النبوي الصحيح معي مـــؤيــدٌ وظـهـيـــــــر .
قلت للأمير , وماذا عن أوسطهم ؟
قال : لم يرض لنفسه أن يكون ســلـــبــيًّــا , ولا أن يكون رفضه خفيًّا , ولم يكن ميله للأقوى , بل التزم الحقَّ والــتقـــوى , وانــبــــــرى كالســَّهــــــم ؛ دفاعًا عن أخيه المأكول , والصغيرِ الـــمســحـــــول , وَشَـــــرَع لأكـــبــرهم يــــقـــــــول : كيف لك أن تقهـــــرَ وتَـظــــلم , والصغيــرَ تأكل وتـقـضــــم , لا أرضَ لك هذا التأنيب , وأنت مــــؤدَّبٌ– مــــــن أبـيــــك- أفضل تأديـــب , وطالَما فسَّــــر الآيات , واستنبط لنا منها العبر والعظات , ووصَّى الوصايا الغالية , وردد علي مسامعنا قولَ أبي العتاهية :
وأخــــــلاَقُ ذِي الــفَــــضْــلِ مَـعْـــرُوفـــــةٌ
بـــبــــــذلِ الـجـمِـــــيــــلِ وكــــــــفِّ الأذَى
فانتشى الوالد وخـــفَّ , وازدرد ريقَــــه الذي جَــــــفَّ , واتـَّــجــه بـــكُلِّه إلى الـــمَـــلُــــوم , ليوجه له العقاب المقسُـــوم, وأراد أن يوقِـــــفَ مـُـــرُوقَـــه بعد أن انتفختْ للوالد عروقُـــــه :هـــــمَّ الكبـــيـــر بالاعتذار, وطلب من أبيه الانتظار, وانكبَّ على رأس الصغير يُـــقبِّلهـــا, واعــتــــــــرف بجــــريـــرتـــه أولـِهــــا وآخـــرِها , وقال : لو أنَّ أخـــــي بسط يده إلي لـيـــؤذيــنــي مــا أنا بباســــطٍ يـــدي إلــيـــه , ولن أرفع عـقــيـــرتــــي بعــــــد اليـــــــوم عــــليــه .
فهتف الأميرُ وكبَّر, وشَكَـــر الابـــنَ الأكــبـــــــر, وتَــســـــامـــح الــــقــــومُ وتــغــــافــرُوا , بعد أن ذهبــــوا للأمــيـــر لــيـتــنـافـــروا , وقضـــوا لــيــلَتــهــم في السَّمـــر , من بُعيد العــشـــاء حتى السَّحر .
وسوم: العدد 855