فزتُ ... وربِّ الكعبة
كم من ليلة مقمرة جميلة مرَّت على مشاعري التي تغنَّتْ فيها بحُلو الخطاب ،وكم من ليلة مظلمة بئيسة أوحشتني فعشتها في عِراك ومنازلة ، أسرتني مواجعُها ، وآلمني امتدادها الثقيل ، ومافيه من قلق مسهِد ، وهمٍّ طويل ... وربما أذهلُ عن نفسي فلا أرى ماحولي ، ولا أسمع إلا صدى خطواته الثقيلة تجتاح مشاعري التي أعياها السفر الطويل في ظلامها الدامس . ولا أصحو من معاناتي إلا على أصوات صياح الديكة ، حين يتردد في أُذن فجرِ يومٍ وليد .إنه من أعز الناس عليَّ ، ولكن خطواته تأتي ثقيلة على مشاعري ، لا لشيء وإنما لأنه أطفأ أغلى مصباح كاد يدخل بيتنا لولا يده القاسية ،يد صاحب الخطوات الثقال التي وارت مصباحنا خلف جدران بيتنا الهادئ الجميل .
إنه ليلي ... ليلي الخاص الذي يعجُّ بالألم الممض ، وتتلظَّى نيرانُه بين أحناء صدري المثقل بالآهات ، وفكري المترع بفرحة غامرة خرجت مع المصباح المنير ... آهٍ ... إنه ليلي الطويل الذي أعيشه ، وكم أتمنى أن يكون مقمرا ، يستريح على مداراته المتلألئة فؤادي من العناء .وتمر أيامي عابسةً ،مدلهمة بالأكدار على صدري المكدود ، وذات ليلة وقد ضقتُ ذرعا بنفسي التي بين جنبيَّ ، فقمتُ أتحسس في جنبات داري المتواضعة كُوَّةَ أمل رشيق أراه دائما في أحلامي ، وأرسمه منتجعًا حلوا أهرب إليه مما أنا فيه ،تابعتْ خطواتي سعيَها لتقودني إلى سطح الدار ، وانطلقت عيناي تجوب أعماق الليل ،فشعرتُ بغفوة طارئة كأنني في ليلة مقمرة ، هذا هو القمر أمام عينيَّ ، يدفع جيوش الظلام إلى الأفق البعيد ، وراحت عيناي تطوفان في الآفاق ، فوق النجوم ، وحول بعض الغيمات التي تداعبها أنوار القمر الوضيء ،نسيتُ نفسي ، توارت همومي ، اضمحل حزني ، مازالت خطواتي ثابتة في مساحة من سطح الدار ، وما زالت عيناي تتأملان امتداد هذا الكون البديع ،اتكأتُ على وسادة كانت أمي تتكأ عليها حين تصعد إلى سطح الدار ،وكانت تتوسط سجادة أهداها جدي لأمي قبل رحيله عن دار الفناء ... وكأنني غفوت ، لاأدري !!! وإذ بي في بستان واسع بسقت أشجاره وتدلت ثماره ، أرضه في غاية الروعة ، أمشي وألمح القنديل الذي لاأنكره ،وإذا بأختٍ لي وقد حدَّثتُها يوما عن جمال ذلك القنديل ، وإذا بها تبارك لي بفوزي ، أي فوز ــ قلتُ لها ــ هذا الذي عنه تتحدثين ؟ ابتسمت وقالت انظري ألا ترين ... نعم رأيت كدت أطير من فرح غامر أنساني كل أجزاء حياتي ، تعالَيْ ــ تقول لي أختي ــ فالملائكة في انتظارك تتلقاك ، بانتظارك لأنك فزت ، ألم تسمعي ما جاءنا به صاحب القنديل : ( وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) . هذا أول يوم لك تدخلين جنة الخلد التي وعد الله بها عباده المؤمنين .لقد خسر المبطلون الذين حاولوا إطفاء القنديل ، وأخزاهم الله في الدنيا ، وسيجدون الخزي اليوم ، وأما أنت فقد فزت برحمة من الله ورضوان : (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ... ) ، أجل فزت أنت ومن آمن معك من أهلك : ( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُون ) . لن تقدري اليوم على إخفاء نضارة وجهك المشرق بأنوار الرضوان ،الآن سترين أحب الخلق إلى الله ... أنبياءَه أصفياءَه من خلقه ، شهداءَه وصالحي عباده ، وأنت ومن فاز معك ، اليوم تجدونهم وتسعدون بلقائهم : ( فَأُولئك مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم ... ) أجل أنتِ وكلُّ مَن آمن بالله واتبع هداه يا أم كلثوم . قلتُ لها: وأين أبي ؟ وقد مات على ملة آبائه مَن عبدوا الأوثان ، مازلت حزينة لأنه مات على ذلك ، وقد أذى رسول الله أشد الإيذاء . قالت أختي : انظري انظري هذا زوجك الصحابي الجليل عبدالرحمن بن عوف أحد العشرة المبشرين بالجنة ، هاهو ينال بشراه اليوم ، ألا تذكرين قصة زواجه بك بعد هجرتك التي كانت محل أخذ ورد حتى نزل بها وحي من الله ، آيات بينات من سورة الممتحنة : ( يا أيها الذين أمنوا اذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن، الله أعلم بإيمانهن، فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن... ) .أجل ذهبت الدنيا الفانية ، وهانحن في دار الخلود ، فالحمد لله الذي هدانا إلى سبيله الحق . شعرت بفرحة غامرة من نوع جديد ، قطعتها ذكرياتي يوم هاجرتُ إلى المدينة المنورة ، وللنبي أن يعيدني إلى مكة بسبب شروط الصلح ، ويشتد الخناق عليَّ ، وكان الموقف صعبا ، ولكم : (أن تتخيلوا هذا الموقف؟ فتاة جميلة عمرها 17 سنة فقط . تهاجر وحدها من مكة إلى المدينة المنورة في الليل الدامس ، والطرقات التي بين مكة والمدينة وعرة وخطرة و المسافة طويلة؟ ليس هذا فحسب بل يمكن بعد كل هذه المخاطرة أن يرجعها النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة ، وإذا أرجعها سيعرف أعمامها أنها مسلمة وقد يقتلونها أو يعذبونها ، لكنها تقرر أن تهاجر متعلقة بالله وليكن ما يكون إنها تهاجر إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في بحر الليل ، ليس معها أحد إلا عناية الله.. الله أكبر.. ما هذا الثبات؟ وفعلا تهاجر أم كلثوم وتصل المدينة المنورة ، وتذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، والنبي يحتار ويتردد فالمروءة والشرف والأخلاق والرجولة تمنعه أن يعيدها ، ولكنه صادق في عهوده ، ولابد أن يلتزم بشروط الصلح فماذا يفعل؟ واشتعلت المدينة كلاما فكل الصحابة رضي الله عنهم يرفضون إعادتها ، بينما الرسول صلى الله عليه وسلم صامت ، رُفِعَ الأمرُ إلى الله ، وَيُنْتَظَرُ الوحيُ في قلق وحيرة ، ثم ينزل جبريل بالوحي من فوق سبع سماوات في أمر أم كلثوم : (يا أيها الذين أمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن، الله أعلم بإيمانهن، فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ) .
كنتُ غارقة في نومي ، نعم غارقة بكل ذاتي ومشاعري ، وفي أجمل مايمكن للإنسان أن يتصوره ، وإذا بيدٍ حانية تلمس جبيني ... أم كلثوم ... أم كلثوم ... كنتِ نائمة ، آه ... استيقظت ُ وليتني لم أستيقظ ... استيقظتُ وإذا بصوت أذان الفجر يصدح : الله أكبر ... الله أكبر ... ولأول مرة أصابتني قشعريرة ، وأشعر أن شيئا تغير في داخلي ، أردت أن أقول شيئا فلم أجد إلا كلمة واحدة أنطق بها : يا ألله ...يا ألله ... وانهمرتْ عيناي بالدموع ، وانطلق لساني يردد مع المؤذن مايقول ، حيَّ على الصلاة ... حيَّ على الفلاح ، وفي هذه المرة سقتُ خطواتي إلى مكان الوضوء وما كانت تسوقني إلا إلى فعل الخيرات . فتوضأتُ وأسرعتُ إلى أداء الصلاة، لأقف بين يدي ربي سبحانه وتعالى أسأله أن يبدل عسري يسرا ،وأن ينصرني على ليلي المظلم ، ويبدلني به ليلا مقمرا ، وخرجت إلى فِناء الدار ، منشرحة الصدر ، هادئة البال ، وقد علمتُ أن الدنيا لايجدر بنا أن نحزن من أجلها .
وسوم: العدد 879