قصص و خواطر 889
( في قعدة نسوان )
في غابر الأزمان ، وقبل تكاثر خلق الله على وجه الأرض ، كانت (قعدات ) النسوان قليلة ، وربما غير مهمة ، ولم تكن تتخطى احتياجات بيوتهن البسيطة وحياتهن المتواضعة . كانت مياههم منهم قريبة ، وإنارة بيوتهم أقل كلفة ، ووسائل التدفئة أو التبريد محلية الصنع ، عصور ( حجرية ... ) كما يصفها أهل التوثيق من الفلاسفة الأقدمين . لايذكر التاريخ عن ( قعدة نسوان ) في تلك الأيام الغابرات ، ولو وُجدت ففي هامش صحف التَّلقي كما يعلم الجميع .
وتكاثر الخلق ، فكانت الشعوب والقبائل ، وجاءت الحضارات بما تحمله من كل جديد ، وتنوعت وسائل الحياة في الطعام والشراب واللباس ، ووصل الخلق إلى مرحلة تفتقت فيها العلوم والمعارف ، وأصبحت الكرة الأرضية على سعتها كأنها قرية واحدة صغيرة ــ كما يقولون ــ لتنوع الاختراعات في جميع المجالات ، ونحاول أن نتخطى الوجه القبيح الذي كسا وجه الأرض ، أقصد الفتن والحروب وأسلحة التدمير الشامل ، وما نراه اليوم من أثرها على حياة الناس الذين يخوضون اليوم في مسارات كثيرة في مجالسهم رجالا أو نساء ، وفي كل مكان .
ولسنا نحن في منأى عن هذه الظاهرة ، ظاهرة ( القعدات ) ، بل أصبحت كأنها أمر طبيعي لظروف الحياة ، فالنوازل والمصائب وضنك العيش ... أمست حديث الناس ، والنساء هنَّ المعنيات الأكثر بنتائج ما حلَّ في البلاد من المحن والابتلاء . ولْندخل إلى أحد البيوت حيث اجتمع عدد من النسوة ، يشكين ما يلاقين من مرارة العيش ، ويخضن في شؤون الحياة الاجتماعية والسياسية ، وها نحن في إحدى أمسيات الصيف الحارة ... وبعد أن خسر اﻷغلبيه وسائل التبريد التي دمّرتها آلات الحرب الرهيبة ، لتترك أهالي المدينة يصارعون حرارة الصيف باحثين عن طرق للتخفيف من وطأة المعاناة .
هناك وبإحدى الحارات التي بقيت صامدة . نساء من طبقات اجتماعية مختلفه جمعتهن المعاناة وإن اختلفت في ظاهر اﻷمر ، إﻻ أنها في الحقيقة مأساة واحدة . بعد أن يغتسلن بمياه باردة ويرتدين الثياب العملية المريحة ، فهناك ما ينتظرهن على إحدى الشرفات حين يجتمعن . يقمن بتعرية الحقائق! فإن كنتَ تجرؤ اقترب وانصت!!!
( قعدة نسوان )
على شرف فنجان قهوة صباحي ... اجتمعن فقط لاحتساء القهوة !
*أم سليم ـــ خمسينيه متزوجه سعيده ـــ ( والله ملينا كل يوم نفس الشيء: شو بدكن تطبخو اليوم ؟!)
*أم خالد : مطلقة متفائلة ــ لك شوبكي قاعده تحكين بالعامية يا أم سليم ، ونسيتي إنه ماسه قاعدة معانا ؟ )
*ماسه : لامشكلة يا أم خالد هذه جلسة خاصة ...
*أم خالد : ( ماعليش عامية فصحى هي قعدة نسوان ... اليوم خالد عندو جامعه بعد الظهر ماراح أطبخ بساوي مقالي وخلاص أصلا ملينا الطبيخ( .
*أم ياسين - أرمله تعيسه- : ( الله يرحمك يا أبو ياسين من وقت إلِّي مات ماعدت طبخت كتير أكلات ، الله يرحمو شو كان بيحب الشيشبرك(
*جميعهم بلسان واحد : (الله يرحمو ).
*أم سليم : ( إي والله بس من وين لوين ام ياسين صرتي بتغصي لما تطبخي الأكلات الي بيحبا .. والله كنتي بتلعيلي ألبي وقت اللي كان المرحوم عايش ... على هيك قال وهيك ساوا .. ويبعتلو .. و... هلأ ﻷن ارتحم يعني صار منيح!) .
( لاتآخذونا عم نحكي بالعامية ، شو بدنا نساوي هاي لغتنا ) .
(الكل مفنجر عيونو ... ابتسامات مكبوته .. ونظرات مسروقه... ام سليم هاي عادتها مافيها تبلع لسانا .. ماصار إﻻ طجتا ... وحرجت المخلوقه)!
*دلال – عشرينية مطلقه -: ( اي الحمد لله رجعت ع بيت أهلي.. خلصت من اللي كان جوزي ، والله كان بيلتعى ألبي من ورا المضروب .. كنت أعملو طبختين وما كان يعجبو ، أوووف شو بيعرفني الحمد لله اللي خلصت) .
*ام سليم: ( لك دلال هلأ انت بتعملي طبختين باليوم ! اي كانت المجدره تقعدو تاكلو فيها يومين وبتكون معجنه ومخبصه .. من قليل طفش الزلمه(
ذات اﻻبتسامات وبعض القهقهه من البعض ... (أم سليم فضيعه ما بتترك حدا لحالو ).
*دﻻل : ( هلأ معقول ﻷن طبخي ما كان منيح طفش !ﻻ والله هو عقلاتو زغار .. ونكدي ...حاولت اصبر قلت بكرا يتغير بس مالهيئه ... عمرو ان شالله حدو ستين جهنم ( .
*ام سليم : لك أنا ما بستغرب غير من هدول ال بيقولو بكرا يتغير... لك ما بيتغيرو .. ال في طبع ما بيتغير لو قد ما كبر وتغيرت عليه شغلات بيضل هوا هوا
*ماسه : ( تتكلم العربية الفصحى ) - طالبة علم نفس- : تعرفين ياخالتي أم سليم أكبر الفلاسفة وعلماء النفس لايمتلكون قدرتك على التحليل ... وتعرية الحقائق ، انتِ خبرتك الحياتيه ﻻزم نعمل منها كتبا تدرس في المدارس .
*ام ياسين : (لك هي شو شافت بالحياة لحتى تعطينا دروس ... طول عمرا عايشه متل ما بدا ... بيسترجي ابو سليم ما يساويلا الي بدا ياه والله ﻻ تشرشحو) .
الجميع ضحكه واحده وبصوت واحد...
*أم خالد : ( هلأ ليش الي بتطالب بحقها بينقال عنا قويه وسفيهه .. ما نحنا عايشين هالعمر مره وحده .. ليش لنصعبها ع حالنا والخيارات كتيره ومسموحه)!
خجلت دﻻل من تأنيب ام سليم وسكتت...
وأخيرا صبّت القهوه بالفناجين لتتناول كل واحدة منهن فنجانها.. تستنشق القهوة قبل رشفها لتتفتح مسامات الروح وتتنفس ، وأخذت كل واحدة ترتشف منه بصمت .. كما لو كانت قهوتهن هي الحياة وارتشافهن لها ماهو إﻻ تجرّع لمآسيهن ... يتلذذن باحتسائها .. فهي حربهن على أي حال . كل واحدة منهن تستسيغ الواقع بكل مافيه .. وإن آمنت ببعضه .. وكفرت ببعضه اﻵخر.
حين قال برنارد شو .. يكفي المرأة رجل واحد كي تفهم كل الرجال .. ولكن ﻻيكفي الرجل مئات النساء حتى يفهم امرأة واحدة ... !كان على حق ، فرغم تفاوت أعمارهن .. وطبقاتهن اﻻجتماعيه ... إﻻ أنهن نساء بحلم واحد .. وإن أظهرت بعضهن ذيوله .. وأخفت اﻷخريات بعضه اﻵخر ... إﻻ أنه يحمل حقيقة واحده . لطالما أحاطت مجتمعاتنا الشرقيه نفسها بحدود معينه ليس بالإمكان تخطيها .. وإن سولت للبعض نفسه تخطي ماهو مألوف و شذّ عن المعتاد جلده المجتمع بسوط اﻻتهامات التي تجعل منه عبرة لكل من يحاول أن يفكر فقط يفكر .. بالتغير!
*ام سليم .. رغم أنها سعيدة في تلك الصورة التي تبديها لمن حولها إﻵ أنها معذبة في أعماقها ..لم تعش يوما لنفسها .. كانت سعادتها محصورة برؤية أوﻻدها بالصورة التي ترغب كل أم رؤيتهم بها. ورغم أن ذلك يعد ميزة ﻻ عيبا ... إلا أنها استفاقت بعد مضي قطار الشباب بكثير لتجد نفسها مستهلكة ... وبما أنها عاجزة عن اللحاق بالقطار قررت أن تمثل لمن حولها السعادة والرضا .. فهي ﻻ تملك خيارات بديله.
*أم خالد .. حين انفصلت عن زوجها كانت قد بلغت منه ما بلغت .. طاف بها الكيل وقررت أن تنهي مهزلة المرأة البلاستيكية (تلك التي تعيش بلامشاعر ..وتمثل دور المرأة السعيدة ) لكنها انتقلت من مرحلة التمثيل الفاشل .. إلى التمثيل الممتاز البارع مع مرتبة الشرف .. تحارب مجتمعا يمثل أنه متحضر ونظرته تغيرت للمطلقة .. مزيفة مجتمعاتنا ، نفشل بتقويم مجتمع فاشل .. بنظرته المحدوده السطحية .
*ام ياسين ... رغم أنها تبدو يائسة وكئيبة .. إﻻ أنها أفضل من أم سليم .. وام خالد .. فهي أرملة تعطي انطباع الشفقه لدى المجتمع الذي يمنحها ما تستحق وأكثر .. عجبا لمجتمعنا ... كم نحن هزيلون حقا ... نغتال إنسانيتنا بمواضع ... ونسكبها بأخرى .
* أمّا دﻻل .. وكم لها من اسمها نصيب ... رغم أنها حالمه .. واﻷكثر رومانسيه ... تجربتها في الزواج فشلت ﻷنها رسمت الحياة الزوجيه بصورة أقرب للكمال . الزوج الحنون الذي سيبالغ بتدليلها ، والتغزل بها طوال الوقت ، لم تترك مجال للواقعيه أن تطأ أرضَ ما رسمته وخططته لحياتها .. وما أن دخلت قفص الزوجية كانت صدمتها بقدر حجم أفكارها التي بالغت بتخيلها . لم تتحمل ماعاشته .. وشعرت بأن أحلامها تبددت ... وﻻ مجال للاستمرار .. فانسحبت من تلك الحياة بهدوء .. وﻻيزال في رأسها صورة الرجل المثالي .
*ماسه .. الشخصيه اﻷكثر تعقلا وهدوءا ... وكما يقال في مجتمعاتنا ..( لو بدك بنتك ما تحصل على لقب عانس خليها تدرس! ) وهذا ما حدث مع ماسه بعد أن أنهت دراسة الحقوق .. انتقلت لدراسة علم النفس .. هي مثقفة من الطراز اﻷول .. تدعم آراءها بالأدله التي تثبت صحة ما تقول .. نظرتها للرجل نظرة تكميلية وليست أساسية في حياتها على نحو شخصي .. إن ارتبطت بأحدهم يوما ما وجب عليه استيعاب ثقافتها جيدا واحترام وجهة نظرها ، التي غالبا ما تكون صائبة!
وبالعوده لشخصيات القصه. ما حدث أنهن انقطعن فترة عن اجتماعاتهن الدائمه بسبب ظروف الحياة عموما ، وظروف مدينتهن على وجه الخصوص . فبعد أن شنت غارات العدو حملات عسكرية متكرره قامت بتدمير المنازل .. والمساجد ..وسقط عشرات الجرحى وفاضت الدموع .. دموع أمهات ثكلى .. وجراح عميقة .. زاد عمق جراحهن - فحين ترافق رحلتنا بالحياة الجراح يزيدنا ذلك حنكة ، ويكسبنا مناعه مضاعفه لتحمل الصدمات بقوة أكبر . وككل ما حولنا .. كل تلك الأشياء التي لها وجوه عديده تظهر بحسب ما يناسب الموقف ... ظهرت وجوه مختلفة للسيدات بعد أن غيرتهن الحرب .. فكن مختلفات .. أكثر تطورا واستيعاباً لحياتهن .. بعد أن اختلفت نظرتهن لأنفسهن خاصة، والتي غيرت نظرتهن للحياة عموما .
*أم سليم .. فقدت طفلها الصغير رامي أثر إصابته بشظايا متفرقه في جسده الطاهر . فقدته أمام عينيها ولم تستطع رد قدره عنه . بكته طويلا ... أصبحت أكثر صمتا وأقل حديثا ، فهي تؤمن بحقيقة القضاء والقدر ... أيقنت أن تضحياتها لأجل أبنائها والحفاظ عليهم لا تعني شيئا أبدا أمام قدرة الله تعالى ومشيئته وحكمته .
*ام خالد ... كانت على قدر كاف من التفاؤل الذي استوعبت من خلاله احتواء الواقع بكل مافيه .. وتخطي نظرته الظالمه . تخرّج ابنها خالد وحصل على شهادته الجامعيه وسافر إلى ألمانيا .. لينهي دراسته العليا ، وهي التي حثته على إتمامها . في مجتمع آخر ليتعلم ثقافات أخرى وتصبح له القدره الأكبر في تناول قضيته بحكمه والدفاع عنها بإصرار أكبر .
*ام ياسين ... رغم أن مجتمعها قد أنصفها بمواضع كثيرة .. إلا أنها قررت أن يكون لها دور فاعل .. بعد أن فتحت مشغلا صغيرا للخياطه ، ووضعت فيه بعض العاملات اللاتي لم يجدن من يعيلهن ، بدت أكثر ثقة بنفسها وأكثر قوة باعتمادها على نفسِها وتخطيها مرحلة (بؤس أرمله).
*دلال : طرق أخيرا الحب بابها .. حين جمعتها الأقدار بنازح قادم من أرض دُمّرت بالكامل . كانت تشعر أنه يملك نصف حنية رجال الأرض . تزوجته برضا تام . وكانت تحكي لصديقاتها فصول الحب والحنان التي كانت تجمعها بمازن رغم أنها وحدها من تراه كذلك !
*ماسه : أيقنت أن الحب / العاطفه جزء لا يتجزأ من شخصية المرأه ، مهما حاولت إخفاءَه .. أوقعتها أقدارها هي الأخرى بحب ماجد ..رغم أنه ابن عمتها ال ( غليظ ) إلا أنه ما أن تقدم لخطبتها وافقت عليه مباشرة ، وكانت صدمة صديقاتها كبيره حين كانت تقص عليهن مشاعرها في فترات زيارته لها أيام الخطوبه! ورغم أن للحرب سيئات كثيرة ... ودمار هائل .. وخسائر بشرية وماديه قد تستلزم الشعوب سنوات وسنوات لإعادة بناء أرضهم .. وجعلها مؤهلة للعيش .. إلا أنها تكسب الشعوب ثقافات جديده .. وتعيد نظرتهم للحياة من جديد ... وتبني وطنا يستحق فعلا أن نفخر بأننا ننتمي له . وان طال أمدها ، فالثورات قد يطول أمدها ، ولكن لابد لها من نهاية تجعلها تتوقف لأن الشعوب الحية بقيمها لديها القدرة على البدء من جديد ، وستنطوي صفحة الدمار . وتبدأ صفحات الإعمار ، ويشعر المواطنون عندئذ أنهم أبناء هذا الوطن وبه يفخرون. وسينعم مَن يأتي بعدنا بقيم الأمن والخير والسعادة . وسينعم بالحرية التي دفعنا ثمنها غاليا جدا جدا .
وفي إحدى الأمسيات وفي ليلة مقمرة هبَّت نسائم صيف عليله ،
يالله يا أم سليم : ( خلصينا تأخرنا والله ع البنت بتكون ام خالد سبقتنا أكيد ) .
*أم سليم وأم ياسين : السلام عليكم .
*دلال وماسه وأم خالد : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
*أم سليم : ( ان شالله الف مبروك دلال أرجيني لشوف الزغير بسم الله ماشالله الله يحمي نعوم كتير طالع عليكي .. لفَّتْ الف ليره بمحرمه وحطتها جوا الحرام تبع الزغير ) .
*دلال : (الله يسلمك خالتي ام سليم تسلمي يارب( .
*ام ياسين : ( أنا ماراح احملو مرشحه تقبريني .. الله يخليلك ياه يتربى بعز ابوه ان شالله) .
*دلال : (الله يسلمك ام ياسين يخليلك ولادك . تدخل أم دلال بصينية القهوه وصحن الشكولا وبتضيفن .. وتتطلع ع ماسه .. شدي حيلك ماسه شو ناطرين لهلأ !!! ) .
*ماسه بنظره خجوله : إن شاء لله الخميس القادم أنتن جميعا مدعوات إلى حفلة العرس.
الجميع .. ان شالله الف ألف مبارك يارب ...
وأخيرا ...
الجميع : ( اي والله وأخيـــــــــــــــــــــــــــــراً ألف ألف مبارك ، وبالرفاه والبنين ) .
وسوم: العدد 889