تلويحة وداع
تحدّث بلهجته السّاخرة : (صار لازم تشدّي حالك ويصرلك كتاب.. وإلاّ بدها تظل كتاباتك هيك مجرد خواطر! (ردّتْ على لهجته بابتسامةٍ لم يكلّف نفسه عناء تفسيرها؛ فقد اعتادتْ منه سلوكه الجاد بعمله رغم محاولاته برسم ملامح الألفة مع المرضى . تمتمتْ قائلة ليس من طموحي أن يصدر كتاب باسمي. فلتبقى كما وصفتها مجرّد خواطر ليس إلاّ ! وأكملت جملتها بأعماقها (مادمت مقيّدة لم يحن الأوان بعد فلستُ أجرؤ . (وجّه الضوء مباشرة على وجهها بعد أن فتح فمها بمجموعة أدوات وركز نظره داخل تجاويف بل أقنيه ، وربما أدق من ذلك وبدأ عمله بحرفية كالمعتاد دون أن يكترث لكلماته التي ألقاها. ربما كانت بغرض أن يُهدئَ من روعها فهي المريضة ، وربما كمحاولة منه لبناء علاقة جيدة بين مريضة وطبيبها فتلك من خطوات نجاحه كطبيب . لم يدرك أي شرارة أحدثت تلك الكلمات التي بدأ بها جلسته وإن كان لايبالي بها ! أما هي فقد تقلصت معدتها وتشنّجت أطرافها بمجرد أن أضاء المصباح ليغرق هو بعمله وتضيع هي مجددا بمتاهات رؤاها، أيهما أشد ألما أدواته التي يحفر بها عطلا محاولا إصلاحه أم كلماته التي أصدرت بوقعها صدى تردد بأعماقها . وعاود الظهور كما لو أنه يجيبها وربما يوهمها أنه يجيب . وحقيقة ما من مجيب. فقد أدركت للمرة الألف أنه ومنذ سنوات تسير بعيدا عن كل ماتريد. رغما عنها أو بإرادتها _ لايهم _ هي تسعى لأن تتخلص من هوايتها البائسة - الكتابة- رغم عبثية سعيها ليس أسوأ من أن يكون رجلا وطبيبا!
كانت تراقب حركاته المدروسة/الموزونة وهو يضيف وينقص من الكميات الدوائية بشكل دقيق بعيون ثاقبة ويدين صلبتين يتحكم بأدواته ويحدّث نفسه أثناء عمله (لسه كمان من هون بدو شوي شغل.. بتصوّر هيك صار جيد..) وبعد لمسته الأخيره ( güzel.) يتنهّد راضيا عن أدائه ثم يستدير ليبعد الكرسي قليلا للوراء قبل أن يقف ليمشي خطوات داخل الغرفة ثم يعاود الجلوس خلف مكتبه يقلب صفحات السجل ليكتب موعدا جديدا بعد أن يحدّث مريضه بضع كلمات أو جمل لينهي الجلسه العلاجية ، ورغم عصبيته التي تنعكس جليا على ملامحه عند حدوث أي خطأ متقصد أو عن سهو إلاّ أنه يتخطّى ذلك سريعا ويعود لطبيعته . يبدو خليطا غريبا من مجموعة صفات تجعلك في كل مرة تفكر في شكل حياة هذا الشخص بعيدا عن مجال عمله!لابد أنه يعقم أطفاله قبل تقبيلهم، لكن صبره ينفذ أمام نظرات طفله الصغير فعن أي تعقيم أتحدّث!ودود وحنون جدا فهو أب مثالي يقضي ما استطاع من وقته معهم ، لكنه يثير الكثير من المشاكل مع زوجته إن أخفقت بمقادير وجبة ما إن أضافت كمية أقل أو أكثر من الملح في طعامه ، لديه لائحة ممنوعات يتوعّد من يتجاهلها. ورغم ذلك هي أمَانُه/وراحته لابد أنها تقدّم له مابوسعها بعد عودته من عمله ،حمام دافئ و مساج لطيف وعشاء رومانسي.. أيعقل أن لا يكون كذلك!رغم منطقيّة تفكيره المعكوسة على سلوكياته ولكن لابد من وجود انفلاتات مجنونة بحياته رغم ثباته ورزانته فقد اختارها لتكمل حياته التي خطط ورسم لها ملامح عديدة وهاقد أنعم الله عليه بأفضل مما توقّع.
هو تقليدي جدا مثلا في تصفيفة شعره و في تحديد ذقنه . مضت ساعة ونصف وهي تجلس في غرفة الانتظار كانت جلستها الأخيرة لكن التوتر اقتصَّ منها هذه المرة لابد أن تجد طريقة لتخبره بها دون أن يلاحظ أنها تتقصّد إخباره ، لكنه طبيب ولديه خبره واسعة بهذا المجال ، لابد من أن الكثيرات مررن تحت ناظريه وأصلح ما أصلح منهن بيديه ، لديه تلك النظرة عندما يقول (فهمت عليكي) أيعقل أنه فهم!دخلت غرفة المعاينة هادئة رغم أن الصراع مشتعل بأعماقها ، ألقت التحية فأجابها مبتسما ثم سأل عن الآلام التي اشتكت منها في جلستها السابقة أجابت أن الوضع جيد ليس تماما لكنه جيد . استلقت على الكرسي متحاشية النظر إليه كيف ستخبره أنه من تسبب بنفض رماد الصمت عن رغبة تملكتها منذ زمن . لابد أنه يعرف أن الكون لايسير كما نريد؛ بل وقدرتنا على تغيير هذا المسار محدودة جدا !الكتابة! تلك الرغبة التي تسيطر عليها بقدر حاجتها لها ، لم تمتلك حرية البوح ولطالما فرّت حروفها بغتة من رصاص البوح ، ومن قيد العادات والشرائع الأرضية قبل السماوية . هي حرب من حولها عليهـا ! ابتداءً بوالدتها التي تكره أن تكون أديبة كأبيها.لطالما دار سجالٌ طويلٌ بينهما دائما ما تقول لها : ( عيونك منفوخين والهالات مغطيتهم ووجهك شاحب من كثر ما تقرئي بها لكتب اللي ماراح تستفيدي منها شي.. إيمت راح تعرفي إنو القرايه بتخلي الناس تنفر منك بتصيري مفلسفه و عالطالعه والنازله تحللي وتركبي القصص عكيفك شوفي أبوكي كيف مقضي حياتو يقرأ كل الوقت!). لم تدرك أمها ولو لمرة أن ما تشعر به تجاه الكتابة إنما هـو أمر خارج عن السيطرة ، تلك الحوارات الكثيرة والأحداث المستمرة والأفكار التي تغزو رأسها والمسيطرة عليه ترغمها على سكب القليل منها فوق الورق لتخفيف حمولتها. ثم يأتي صراعها مع والدها الذي عقيدته هي منهاج حياته الفعلي ولا يقبل أي مزايدة يوجهها للمشروع وينهاها عن المحرّم يردد دائما : (ما يلفظ من قول إلاّ لديه رقيب عتيد) رغم أنها أخبرته مئات المرات أن ما تكتبه يصوّر الحياة الحقيقية بعيدا عن تلك المثاليات التي نرجوها! ليردّ عليها قائلا : اتركي الأثر طيب تؤجري عليه
ثم النسوة التي تعجز عن مخالطتهن وكأنها ليست من جنسهن.. ثرثرتهن الدائمة.. واستخفافهن وتهكمهن حقيقةً الأسوأ لا أن تكون رجلا وطبيبا ، بل أن تكون امرأة وكاتبة ! هذه الحقيقة دون أي رتوش . لن تجد من يعي أن ما تكتب وإن لامس الواقع فليس بالضرورة أنك من عشته ..فالكتابة صور وأحداث أمنيات ورغبات.. صرخة من فقد صوته وضاع حلمه ، هي حياة أخرى لميّت عاش حياة سابقة.. هي حياة من لا حياة له. أنهى الطبيب عمله ( خلصنا الجلسات إن شاء الله معافايه ) . فتحت عينيها ببطء ونظرت حولها اطمأنّت بعد أن أدركت أن الصراع الذي دار بأعماقها لم يتردد ضجيجه في الخار ج .
وسوم: العدد 914