لا بد أن تعتذر، يا مسيو ؟!
في مبنى فخم ، يطل على قناة السويس ، كان المسيو (سولنت) كبير المهندسين يسكن ! وقد بالغ في زخرفته ، وتأنق في أثاثه ، وجعل له حديقة غنّاء يشبه جمالها حدائق باريس ؟؟ وقد اعتاد أن يتفرغ لتحسين سكنه في أيام الإجازة .
أمسك بالهاتف ، وطلب من سكرتيره أن يرسل له نجاراً ماهراً لإصلاح ما يظنه قد تلف !؟
نظر المسيو سولنت من ثقب بالباب ، فرأى شاباً أسمر اللون، له لحية خفيفة ، عريض المنكبين ، يحمل في إحدى يديه زنبيلاً يضم عدة وأدوات .
قال سولنت بعد أن استطاع إفهام النجار حافظ ما يريد : كم تكلفة هذا العمل ؟ قال حافظ : مئة وثلاثون قرشاً . فصاح المسيو بعربية فيها لكنة فرنسية : أنت حرامي ؟! ثار الدم في رأس حافظ ، ولكنه تمالك نفسه ، وقال بهدوء : لماذا ؟
قال : لأنك تأخذ أكثر من حقك !!
قال حافظ ، وهو يحدق في وجه سولنت ، ويرميه بنظرات تجمع بين الازدراء والإشفاق : مسيو ! إنني لن أتقاضى شيئاً إذا كان ما طلبته أكثر من السعر المناسب ؟! وإذا قال أحد مرؤوسيك إن السعر مناسب فسأسامحك في الزيادة . انتظر حافظ عدة دقائق ، ووصل أحد المرؤوسين ، فطلب منه المسيو سولنت أن يقدر ، فقدر العمل بمئتي قرش ... هز المسيو رأسه وطلب من حافظ أن يبدأ العمل .
قال حافظ : سأفعل ، لكنك أهنتني ، فعليك أن تعتذر عما وصفتني به .
لم يكن سولنت يتوقع أن يسمع مثل هذا الكلام ، فهو هنا الآمر الناهي، فغضب واصطبغ وجهه بالحمرة وقال محتداً، وقد تصور أن هذا النجار ينتقص من مكانته ، فيما كانت بسمة استخفاف على شفتيه : تريد أن أعتذر لك – ها – ومن أنت ؟ لو طلب مني ملككم نفسه ما اعتذرت له !!
قال حافظ ، في هدوء : وهذه غلطة أخرى – يا مسيو سولنت- كان أدب الضيافة يفرض عليك ألا تقول مثل هذا الكلام ؟! أحسَّ سولنت ، وهو يغلي في داخله ، أن هذا النجار استطاع أن يضعه أمام تحدي الند للند ، فتركه وأخذ يتمشى في البهو الفسيح ، ويداه في جيب بنطاله ..
أما حافظ فوضع عدته، وجلس على كرسي قريب متكئا على الطاولة .. ومرت فترة من الصمت لا يتخللها إلا وقع أقدام المسيو الثائر الغاضب .
استدار سولنت ، وأشار بأصبعه ، وقد حاول أن يهدئ نفسه، وقال : افرض أنني لم أعتذر فماذا ستفعل ؟
قال حافظ : لن أفعل شيئاً سوى أنني سأكتب تقريراً إلى قنصلكم وإلى سفارتكم ، ثم إلى مجلس إدارة قناة السويس بباريس ، ثم الجرائد الفرنسية ، ثم أترقب قدوم أي عضو من الأعضاء فأشكوك إليه.
قال المسيو متحدياً مستخفاً : وإذا لم يسمع لك أحد ولم يرد عليك؟
قال حافظ : إذا لم أصل إلى حقي ؛ فإنني أستطيع أن أهينك في الشارع ، وعلى ملأ من الناس ، وأكون بذلك قد وصلت إلى ما أريد ، ولن أتقدم بشكوى إلى الحكومة المصرية التي قيدتموها بسلاسل الامتيازات الأجنبية الظالمة .
أحس سولنت أنه أمام رجل غير عادي ، على الرغم من بساطة مظهره ، فقال : وقد خفضت نبرة صوته : يبدو أنني أتكلم مع أفاكاتو (محامي) لا نجار ... ثم انتفش وشمخ برأسه ، وقال : ألا تعلم أنني هنا كبير المهندسين في قناة السويس ، فكيف تتصور أن أعتذر منك ؟!
قال حافظ ، وهو ينظر إلى سولنت من أعلى رأسه إلى أخمص قدمه، وقد لمعت عيناه السوداوان : ألا يعلم المسيو أن قناة السويس في وطني ، لا في وطنه ، وأن مدة استيلائكم عليها مؤقتة ، وستنتهي ثم تعود إلينا ، فتكون أنت وأمثالك موظفين عندنا ؟ فكيف تتصور أن أدع حقي لك ؟!
أحس سولنت أنه لم يربح في هذه الجولة أيضاً ، ولكنه استمر في صلفه ، فعاد يمشي مرة أخرى ...
مرت فترة من الصمت فالتفت بسرعة وقد تغيرت ملامحه ، وطرق بيده على المنضدة في عنف عدة مرات وهو يردد : أعتذر – يا حافظ – سحبت كلمتي ..
لم يرد حافظ بشيء ، ولكن قام بهدوء وقال : متشكر – يا مسيو سولنت – وبدأ يعمل حتى انتهى من عمله .
مد سولنت يده وأعطاه (150 ) قرشاً ، فأخذ حافظ (130) ورد إليه الباقي !
قال سولنت : خذها ( بقشيشاً ) ! قال حافظ : لا – لا آخذ أكثر من حقي فأكون (حرامي) وركز بصره في عيني سولنت .
ارتبك سولنت وقال بدهشة : إنني مستغرب ! لماذا لا يكون كل الصناع أولاد العرب مثلك ؟ أنت (فاميلي محمد ) فقال حافظ : كل المسلمين " فاميلي محمد " يا مسيو سولنت ، ولكن الكثير منهم عاشروا الخواجات ، وقلدوهم ففسدت أخلاقهم !
لم يرد المسيو بشيء ، واكتفى وهو يمد يده مصافحاً قائلاً : متشكر – كثر خيرك .
انطلق حافظ بأجرته وزنبيله الذي يضم عدة العمل ، وكرامته التي لم يسمح لأحد أن يجرحها ، حتى ولو كان سولنت كبير المهندسين في قناة السويس .
- جرت في الأربعينيات من القرن السالف ، ووردت في كتاب مذكرات الدعوة والداعية على شكل حادثة ، فأقمت بنيانها الفني دون تغيير في الشخصيات والحدث ( يحيى )
وسوم: العدد 915