( رُبَّ أشعثَ أغبرَ أقسم على الله فأبَرَّه )
" من أغرب ما صادفتُه في رحلات الحج التي كنتُ أتشرّف بتنظيمها
( رُبَّ أشعثَ أغبرَ أقسم على الله فأبَرَّه )
منذ عدّة سنوات اعترضتني مشكلةٌ كارثيّةٌ خلال أداء مهمّتي في موسم الحج تتعلق بتجهيز مخيمات عرفات الخاصة بالفوج الذي أقوم على خدمته
وتتلخص القصة بأنّه بقي على يوم عرفات خمسة أيّام ولم أتمكّن من الحصول على مساحة كافية لعدد حجاج الفوج الذي أقوم على خدمته ، وهذا يعني أنني لن أتمكنّ من أن أفي الناس حقها من الخدمة المتميزة التي وعدتهم بها في عرفات .
استحال الأمرُ عليَّ ، ولم أجد سبيلاً إلى تحقيق المراد ، وقد ضاق الوقت إلى درجةٍ تقتضي أن أجد حلاً قبل الفجر لأتمكّن من نقل مستلزمات المخيم ورفع الخيام وتجهيز المكيفات وبناء الحمامات وتحضير مخيّمٍ بكامل مسلتزماتٍ تفي باحتياجات ثلاثمائة حاج ، وواقع المشكلة يؤكد عدم وجود أي حل !!!
ركبتُ سيارتي منطلقاً من جدة إلى مكة ، وكانت الساعة ١١ ليلاً ، كنتُ في حالةٍ يرثى لها من الانهيار النفسي فالحلول تكاد تكون معدومةً ، ولا أرى بصيص أمل ، كنتُ أقود سيارتي وأنا في حالةٍ من الذهول ، فبيني وبين وقوع الكارثة ساعات الليل فقط
تذكّرتُ وأنا في منتصف الطريق إلى مكة أنني نسيت أداء صلاة العشاء ، فتوقفت عند إحدى محطات البانزين الموجودة على طريق ( جدّة _ مكة ) حيث يوجد مسجد في هذه المحطة ،
دخلت إلى المسجد بعد أن توضّئتُ وكان المسجد خاوياً إلّا من رجلٍ بنغالي في الأربعين من العمر ( وشكله يدل على أنّه عاملُ بناء ) كان هذا الرجل يدور داخل المسجد حاملاً قرآنه منهمكاً في الحفظ ويقرأ بصوتٍ عالٍ وبلغةٍ أعجميّةٍ لا تسعفه ! كان الرجل رثَّ الثياب ، عليه آثار عملٍ ترابي مع آثار عرقٍ جفّ على جبينه مصحوباً بزيتٍ أو شحّار أسود !!! وكان يدور وكأنّه يطوف في الحرم
ألقيتُ عليه السلام عندما دخلتُ إلى المسجد ، ولكنه لم يرد عليّ فهو في عالم آخر لا يكاد يشعر بأحدٍ حوله ، إذْ كان يطوف في جنبات المسجد كالنحلة ، يتسارع في خطواته ويتلعثم في قراءته وهو يلهث مصارعاً قُدراته وكأنّه في وعدٍ على إنجاز مهمّته !!!
صليتُ العشاء في زاوية المسجد ثم اتجهتُ إليه وأخرجتُ من محفظتي مبلغاً من المال ليس بالقليل وقدّمته له ، فنفضَ يده عنّي رافضاً استلامه ، وتابع في مسيره دون أن يكترث للمال الذي قدّمته له ( رغم أن حالته تدلّ على فقره الشديد ) فهرولتُ وراءه أترجاه أن يأخذ المبلغ وهو منهمكٌ في حفظه لا يلقي إليَّ بالاً ، وعندما وجد إلحاحي عليه ، توقفَ وقال لي : إنتا إيش إبغى ؟! فقلتُ له لا أريد شيئاً يا أخي ، أنا في ضائقة شديدة ، وأريدك أن تشملني بدعوةٍ منك ، فطوى مصحفه على إصبعه كي لا يفقد الصفحة التي يقرأ منها ، ونظر إلى الأعلى وقال : يا رب هادا نفَر مُشكل كبير ، إنتا في مساعده يا رب ، ثم تركني وتابع ما كان عليه
تركته ، ووضعتُ الفلوس على كرسيٍّ أمامه وأشرتُ إليه كي لا ينساها ، فلم يتحرّك به ساكن ، وأشهد الله أنّه لم ينظر لها ، بل رمقني بنظرةٍ تحمل اللامبالاة مع الامتنان
ركبتُ سيارتي وتابعت طريقي إلى مكة والدموع تذرف من عينَي ، ولا أدري مصير هذه الليلة ، فغداً هو آخر يوم في السماح لتحضيرات عرفات ، وجميع المطوفون أنجزوا تحضير مخيماتهم !!!
ومن عجائب لطف الله ، وقبل دخولي إلى مكة اتصل بي مطوّفٌ مسؤول عن الحجاج السوريين ، وبيني وبينه قطيعةٌ سببها خطأ وقع منه منذ عدة سنوات ، إنقطعت معها أخباره عني ، اتصل بي معاتباً ومُصالحاً ومعتذراً عن خطأ عمره عدة سنوات ، وسألني عن حالي ووضعي في عرفات وقال لي أن وزارة الحج زادت منذ ساعةٍ مساحة مخصّصاته في عرفات وأن لديه مساحة تتسع إلى عدد أربعمائة حجيّ ، وعرض علي المكان ( إذا كنتُ بحاجةٍ له ) وأخبرني أنّه استلم الموقع وهو بجوار الموقع في عرفات الآن
تمالكتُ نفسي وقلت له أنني في طريقي إلى عرفات ، وصرخت باعلى صوتي بعد أن أقفلتُ السماعة قائلاً : الله أكبر ، صدق رسول الله صلى الله عليه وسلّم ( ربَّ أشعث أغبر أقسم على الله فأبره )
حوّلتُ اتجاهي من مكة إلى عرفات وذهبت إلى الموقع واستلمتُ منه المساحة المطلوبة ، وسارعت بتجهيز المخيم على الشكل الذي وعدت به حجاجي ، وانتهى الحج وأنا أسمع كلمات المديح والثناء من الحجاج والتي تنسبُ لي الخبرة والكفاءة !!! ولا أحدٌ فيهم يعلم أنّ ما نحن عليه من نجاح هو بسرّ توفيق الله وبسرّ العون الإلهي ، وبسرّ بركاتٍ خفيّةٍ تقف خلفها خبرتنا عاجزةً محدودة
أطلْتُ عليكم في الشرح ولكن حاولتُ أن أنقل الصورة بدقّةٍ لنقف على مثالٍ حيٍّ من فرج الله ومعونته ، وكيف يمدّ الله يد المعونة بسرٍّ من أسراره ، وكيف يأتي الفرج الإلهي للإنسان من حيث لا يحتسب
نسأل الله أن يفرج عن بلادنا وعن المسلمين فرجاً كالفرج الذي لاقيته في ضائقتي على أبواب عرفات "
وسوم: العدد 919