ليلى الغريب
"أي تطابق بين الأسماء والأحداث والأمكنة الموجودة في القصة والواقع هو من قبيل الصدفة لا من قبيل الواقع، وذلك لأن القصة مرآة للواقع والخيال"
لم أكن أتوقع أن تظهر هكذا فجأة من غير موعد ولا ترتيب..ومثلما ينزل المطر بعد سنوات مريرة من القحط، والشعور بالخوف من فقدان بساتين الحياة وحقولها، وما يتبعها من يأس وموت ورحيل وفراق. نزلت ليلى الغريب من السماء دفعة واحدة.. هكذا تشاء الصدف الجميلة .كيف جاءت؟وكيف التقيت بها؟ تلك حكاية أخرى بطعم الفجر.
لما ولجت الفصل ذات صباح دافء من أيام فصل الربيع وجدتها منعزلة في ركن، شاردة كظبية في صحراء مقفرة، حائرة ومترددة، من عينيها يشع نور ساحر يكبر، وينتشر كشروق الشمس ليضيء المناطق المعتمة من الروح والذاكرة..قدمني إليها مراقب الامتحانات، على أساس أنها زميلة لنا في الحراسة...حييتها باحترام فمدت يدها بأدب جم مصافحة يدي، لما لمست أصابعها الباردة سرت في أوصالي وروحي قشعريرة حملتني خفيفا كريشة على بساط مخملي، فلم أتذكر ماكانت تقوله لي بعد ذلك"..اسمي ليلى الغريب" ثم أردفت قائلة: "أين سافرت سيدي"فقلت لها مبتسما :"وما عساه يفعل الجدول الصغير أمام نهر جامح متدفق، ومجنون لا يتوقف فيضه إلا عند زرقة البحر ..ظلت تنظر إلي في صمت كما لو أنها تقارن بين صورتي في الواقع والصورة الثانية المرسومة في خيالها الجامح.. وطوح بي سحرها من جديد...شعر أسود كموج الليل، وجسد منحوت بأنامل فنان ماهر، وصدر نافر مشتعل كفوهة بركان ملتهب، وعيون عسلية واسعة ومتلئلئة كنوافذ مشرعة على البحر...
شعرت ويدي تطبق على أصابع يدها المخملية كمن وضع يده على كنز ثمين يخاف أن يضيع منه في زحمة الحياة. "كما لو أنني أعرفها منذ زمن بعيد" قلت لنفسي.. فصارحتها بذلك قائلا: " أظن أنني أعرفك عز المعرفة .أين التقينا ومتى وكيف؟هذا ما كنت أفكر فيه " فغمر وجهها خجل لذيذ وهي تقول :"أبادلك نفس الإحساس والأسئلة" وهكذا بدأت الحكاية بيننا، وانتهت بدعوة لفنجان قهوة فوجبة سمك مشوي قبالة البحرإلى تبادل الزيارات، والقصائد، والهدايا ،وتوهجت الدنيا بيننا بعد ذلك لأيام ثم لسنوات..
كيف انتحرت ؟ !ولماذا؟ !
لا أعرف !!.قلت لهم لا أعرف..
كيف..؟كيف..؟هذا هو السؤال الذي قض مضجعي وسرق النوم من جفوني..وهذا ما قلته للشرطة وهي تحقق معي في أمر انتحارها. وأضفت قبل أن تغلق المحضر:"حقا كنت آخرإنسان التقى بها..وتلك الرسائل التي وجدتموها على هاتفها هي رسائلي وقصائدي لا أنكرها..عند الغروب اطلقوا سراحي...لم يكن باديا عليها تلك الليلة أنها كانت تفكر في الانتحار، أوأنها سترمي بنفسها من الطابق الرابع لعمارة شاهقة تقع على رأس شارع الحرية، وسط هذه المدينة الضاجة بالحياة .المطلة على زرقة البحر وضفاف النهر..قلت لهم وهم يدونون كلماتي المرتجفة المخنوقة بالحسرة والغياب والخسارة:" كانت مقبلة على الحياة بجموح المجانين، وبلهفة العاشقين وأنها اعترفت لي أكثر من مرة بأنها ولدت من جديدبعد لقائنا الأول وأن سعادتها لا تقدر بثمن ..كان بيني وبينها أكثر من عشرين سنة من الضياع والتشرد والخسارة والسجن في بلاد الغربة التي طردت منها بعد سجني ظلما لسنوات بسبب فتاة شقراء متهورة قتلت نفسها بالغاز واتهموني أنا بقتلها..
كانت ليلى الغريب بمفاهيمها وأفكارها المتحررة وثقافتها الواسعة، وأنوثتها الجارفة شعلة متوقدة أجمل من الغجر، وأجمل من الروايات الرومانسية، ومن شقروات الغرب كلها..كانت قادرة بفتنتها وغنجها ورقتهاعلى إشعال الحرائق في القلوب الباردة، والغابات المبتلة، والوجوه الجافة الصارمة...
أخبرتني الشرطة أثناء التحقيق بأنها وجدت رسالة مكتوبة بخط يدها بين أوراق رواية "مأساة ديمتريو "الرواية التي كنت قد أهديتها لها بمناسبة عيد ميلادها، قبل انتحارها بأسبوعين حيث وجدوا اسمي مدونا في رسالتها وأسفله قصيدة قصيرة من إبداعها عنونتها بفراشات تحترق.. وجملة مكتوبة بلون دمها تقول فيها: " رفضوه زوجا لي فرفضت الحياة دونه".
فكيف يخنق الجمال والسحر والشعر نفسه ؟ !
كيف لفراشة قزحية حالمة، وهائمة أن تحرق ألوانها الزاهية بنفسها على ضوء شموع العمر؟ هكذا كنت أرد على اتهام الشرطة لي ..وهكذا أغلقوا المحضر، باتهام أسرتها ..
عند آخر المساء أطلقوا سراحي بعدما كنت أقرب إلى السجن مرة أخرى منه إلى الحرية..لكن أهلها رفضوا وجودي، وظلوا متربصين بي مهددين بقتلي وبرمي جثثي للكلاب المتشردة ..
أقول لنفسي هائما بين الدروب الضيقة المعتمة المفضية إلى النهر:" من قتل من ؟ هل أنا القاتل أم المقتول؟ لم أنم تلك الليلة ...ظللت فوق الجسرتحت أغصان وأوراق شجرة التين منصتا لخرير مياه النهر، ونباح الكلاب. شاردا بخيالي بعيدا حيث مصابيح القرى البعيدة والشعور بالوحدة،والانكسار...
كانت مياه النهر المترقرقة المنسابة بين الأشجارالباسقة، والضفاف المخضرة المترامية الأطراف أحب شيء إلى قلبها. وكان صوتها وهي تغني"خليك هنا خليك" أووهي تنشد بعض قصائد درويش من ديوان" سرير الغريبة"يزيد المكان سحرا وترفا...
عند أول لقائي بها على نفس التلة المورقة المخضرة المطلة على النهرأسرت لي في أذني، وهي تطوقني بذراعيها، وتغرقني في دفء حنانها وكرمهاقائلة" إن شدك الحنين إلي يوما فهذا مكاني المحبب..شجرة التين المترامية أغصانها على مياه النهر" فصارت التلة بعد رحيلها مزاري والنهر موطني... كيف لشاعرة عاشقة للحياة المترفة أن تقتل نفسها وتقتلني؟..
لم أحتمل غيابها، وحصار أهلها .. فكان قرار الرحيل. وجدت نفسي أقصد محطة القطار محملا بذكرياتها وعطرها قاصدا الميناء مهاجرا من جديدإلى اسبانيا حيث الحنين والتشرد والشعوربالغربة والضياع.
وسوم: العدد 934