ثلاث قصص قصيرة جدا
(1) حلول
البتلات البيضاء تستحم في أشعة الشمس. لون بنفسجي يبدأ عند وسطها يتكثف عند المركز يحتضن الخيوط والميسم كأنهم أطفال يتشمسون في حضن أمهم. اللون البنفسجي الخفيف يذوب تدريجياً في الأبيض الناصع، أو قل إن الأبيض الناصع يتشرب البنفسجي على مهله. ألقى عن كاهله هموم الحياة الثقيلة. راقب نحلة تحوم حول الزهرة فأعجبته حياتها وصداقتها مع الأزهار، تمنى استعارة حياة النحل. استأذن نحلة تقترب من الغصن، حلّ فيها جسداً وروحاً، وهبط على الغصن. اقترب من زهرة وقبّلها قبلة طويلة جداً. صاحت النحلة معلنة تعبها من فيض الرحيق، وأعلنت تعبها من حمل روح الإنسان الطماع، وقررت فسخت عقد الضيافة وأخرجته من جسدها.
(2) طيبته
شكر "يوتيوب" الذي وفر له وسيلة سهلة للاستماع للأغاني القديمة التي تفتح له نوافذ الذكريات. أغانٍ كلما سمع أغنية منها استعاد ذكرى عزيزة تحييها كلمات الأغنية أو لحنها، ذكريات متى سمعها، مع من سمعها، ما الذي تحرك في داخله، وأية أجواء رافقتها، وأي أوتار تحركت في فؤاده متناغمة معها. رغب في سماع بعض الأغاني القديمة، نقر على إشارة تشغيل الأغنية على صفحة الكمبيوتر ليسمع أغنية محمد عبد الوهاب "هان الود". تذكر طيبته عندما سمعها أول مرة، طيبة تعشش في صدره منذ ذلك الوقت، طيبة تخرج تلقائياً لتفهم الأشياء ببساطة ودون تعقيد، تذكرها بود ورضا ورغبة على البقاء متمسكاً بها رغم الإحباطات المتتالية من الواقع ونشرات الأخبار والمساحات السوداء التي تتسع يوماً بعد يوم وتحاول هزيمة تلك البذرة.
تذكر المرة الأولى التي سمع فيها المقطع "قالوا لي هان الود عليه ونسيك وفات قلبك وحداني"، فهمها يومها على النحو الذي يتناغم مع طيبته المقيمة، فاطمئن أن الود مقيم وثابت. "هو افتكرني عشان ينساني"، فسّرها على أنها تعني "لا يمكن أن ينساني بعد أن افتكرني" أو "كيف يمكن أن ينساني بعد أن افتكرني؟"، أو شيء من هذا القبيل، لم يخطر بباله أنها تعني "وهل افتكرني أصلاً حتى ينساني؟"، المعنى الذي اكتشفه عند سماع المقطع ثانية.
أعاد سماعها ثانية مهموماً من هذا اليأس، ركّز جيداً وبحث عن ثغرة إيجابية ليستعيد طيبته التي جرحت، ركز على "بتشمتوا ليه، هو افتكرني عشان ينساني....."، فانفتحت له نافذة تفاؤل، خاب الشامتون، فلا مكان إذن للشماتة، فهو على هذا الحال من قبل ولا جديد في الأمر، إنه كما يقول المثل "خد معود على اللطيم" وبالتالي فالشماتة مجرد سهم طائش لا يصيب روحه. فرح للنتيجة التي توصل إليها وردد مع المغني المقطع الأخير من الأغنية بصوت مسموع. انتشى إذ انتصر على الشامتين المتربصين بطيبته.
(3) انتظار
أغاني فيروز مادة الافتتاح لأكثر من محطة إذاعية، يشربها مع قهوة الصباح فيصبح للقهوة طعم آخر.
أغنية فيروز التي سمعها هذا الصباح قبل أن يخرج من البيت جرحته، ها هو ذا يقف وحيداً، يقلّب كلمات الأغنية على وجوهها المتعددة، "نطرونا كثير كثير، لا عرفوا أسامينا ولا عرفنا أساميهم". وبعدها " قديش كان في ناس ع المفرق تنطر ناس وتشتي الدني ويحملوا شمسية، وأنا بأيام الصحو ما حدا نطرني". وقف وطال انتظاره. لم ينتظره أحد حتى في هذا اليوم الجميل من أيام الربيع. الجو جيد للانتظار، ربيع مشرق وشمس رحيمة تبعث الدفء في الجلد وتعبره إلى القلب.
حدّث نفسه، إذا لم يكن أحد في انتظارك، فهل يعنيك من ينتظر على مفارق الدروب تحت زخّ المطر، حاملاً شمسية أو ناسياً نفسه تحت المطر بدونها؟
طال انتظاره دون طائل، قرر أن يمشي بدل البقاء أسيراً لسجن الانتظار، واعتبر أن الشمس الدافئة كانت تنتظره منذ الأمس على مفارق الغيوم وترسل له رسائل الاستقبال خيوطاً متواصلة من الضياء والدفء على الرصيف. فرح بهذا الانتظار وسار متأبطاً شعاع الشمس حبيباً لا يخلف مواعيد الانتظار.
وسوم: العدد 949