الرجل الذي ولد مرتين
الدقائق الأخيرة التي قضاها فاقد في وداع أسرته اختزنت واختزلت حياته التي أمضاها في بغداد منذ عشرين سنة خلتْ .
كانت نظراته تلتهم وجوه أطفاله الثلاثة ، وتخترق صمت زوجه التي لم تنشغل بوداعه في تحضير حقيبة أشيائه كما اعتادت في كل سفرٍ له ، إذْ لم يحمل معه اليوم غير مصحف صغير أودعه في جيب بزته العسكرية .
نهض على قدميه إيذاناً بالرحيل ، وانتهاء وقت الوداع ، وبإشارة غير مقصودة للعيون المشرئبة نحوه لكي تنثر دموعها ، وتقطع الصمت بنحيب محموم مقطع الكلمات.
وقف على الباب متماسكاً رافعاً يده وملوحاً لكل واحد منهم ، وقد حجبتهم الدموع وأحالتهم كخيالات غارقةٍ في سراب متدافع الضياء .
وفي انتباهة خاطفة استرجع قواه كابحاً عواطفه المنفلته ليقول : يا الله ادعوا لنا ... السلام عليكم ، وانسل داخل السيارة التي انطلقت تشق شوارع العامرية .
التفت نحو السائق قائلاً : الأولاد مجبنة مبخلة ، هكذا تقول العرب في أمثالها ، فابتسم له ، صحيح ، لك الحق ، أنا أفهم ظروفك ، وكان الله في العون ، وإن شاء الله ستعود إليهم سالماً ...
وساد الصمت إلاّ من هدير السيارة وحركة المارة ، وكأنه لا يرى ما يدور حوله فقد فرضت صورة الأم المتنحية خلف الباب نفسها على مخيلته ، ووقوف أولاده أمامه ؛ مسترجعاً صور ولادتهم ونشأتهم وحنانه المفرط في رعايتهم موازناً بين حياتهم وحياته في كنف خالته ، وفجأةً انسل إلى أذنه صوت أبيه :
إياك أن يعلم أحدٌ أنك حي ولم تمت ، تذكّر أنك بهذا تستر علينا ... وكأنما موج من الغيظ بدأ يزحف نحو رقبته يدور حولها ، فأمسك بالبندقية بقوة ، ثم التفت ليرى قاذفة الآر.بي.جي تفترش المقعد الخلفي... هزَّ رأسه ونفث أنفاسه الحرَّى، وأمال رأسه نحو زجاج الباب ينظر إلى الشوارع وهي تئن تحت القصف الجوي والصاروخي... توقفت السيارة وتراجعت فاسحة الطريق لنقل الجرحى وانشغال الناس في رفع أنقاض بيت أصيب للتو ... كاد أن يصرخ على هتاف أصحاب الحي وتكبيراتهم لقد كانت كتلك الهتافات التي ما زالت تسكن في ضميره منذ عشرين سنة ، وفي لحظة توقف مع نفسه ليقول : يا الله اليوم السبت ما هذه المصادفة ، كنت أتساءل ما الذي ذكرني بمظاهرات دير الزور و ذلك السبت في 15/3/1980 يوم اضطررت إلى العودة إلى البيت لعدم امكانية السفر.
كانت كفه تعتصر آلامه على قبضة البندقية وهو يعيش لحظة اعتقاله بتهمة المشاركة في تلك المظاهرات وتوزيعه منشورات حملها بحقيبة سفره الزرقاء .
أخذت السيارة طريق المطار السريع بأقصى سرعتها تسابق الصور المتدافعة في خياله، كان كلُّ شيء على جانبي الطريق وكأنّه يلوّح له ويحيّه ويشدُّ على يديه ، ولم يكن هذا الشعور قد انتابه في هذا الطريق حين عاد من أول سفر له إلى الأردن بعد ست سنوات من وصوله إلى العراق ، فما زال يذكر ذلك الإحساس الذي غمره باليقين أنه عائد إلى غربته وبعده عن الأهل والوطن ، وأغرقه في حنين طاغ .
كان صوت ابن خالته الذي التقاه بالأردن يستقيظ في أعماق أذنيه : أنا لا أصدق أنك حي هذا أعجب من العجب ، وها هو بنبرته المتميزة وهو يقول : لا إله إلاّ أنت سبحانك يارب ما أعظمك... والله لا أدري كيف أبدأ الحديث مع والدك وكيف سأخبره ، ثم قطع حديثه وأبدل جلسته بحركة سريعة ليجلس على ركبتيه وقد جحظت عيناه : فاقد.. يا رجل.. لقد تذكرت شيئاً مهماً ، ما كان لي أن أنساه ، أجل.. أجل.. لقد أرسل العميد محسن عفيفة مديرالأمن العسكري في طلب أبيك ، وسأله عن أصدقائك ، وأقربائك وعن الأماكن التي كنت تتواجد بها ، والمدن التي سبق لك أن سافرت إليها ، ثم قال له : إن كان يعرف شيئاً عنك خلال هذه المدة التي اعتقلت بها ، فأجابه وقد عقدت الدهشة شفتيه : وهل سمحتم لنا بزيارته حتى نعرف عنه شيئاً ؟ وهل تصدق يا فاقد أن أباك كان دائماً يقول : يا ناس لديّ إحساس أن ابني حي يرزق ، صدقوني أني أراه في أحلامي بصورة الحي وليس الميت.
بدأت السيارة تقترب من حدود المطار ، وقد انتشر المقاتلون في كل جانب ، وقريباً من موضع تحت الأشجار على الجانب الأيمن للطريق وقفت السيارة ونزل منها فاقد يحمل سلاحه فاصطحبه أحد المقاتلين إلى داخل الموضع حيث رحب به الضابط المسؤول مشيراً إلى الجندي أن يوصله إلى "قوة عبد الله " وهناك استُقبل من قبل النقيب عبد الله آمر القوة والذي اصطحبه بنفسه إلى إحدى المجموعات بعد أن استفسر منه عن مستوى تدريبه العسكري حيث عين له آمر المجموعة موضعه القتالي داخل الخندق ، وتلا عليه تعليماته .
نزل إلى الخندق قبيل غروب الشمس حيث بدأت غارة جوية جديدة ، وبعد خمس عشرة دقيقة توقفت الغارة مخلفة عدداً من الشهداء والجرحى وبينما كان المقاتلون منشغلين في إخلاء زملائهم بدأ العدو بقصف صاروخي مكثف ، لكن تصميم المقاتلين بقي على أشده في إخلائهم .
توقف القصف وخيم الصمت والظلام على المكان ، في حين انشغل فاقد بغسل يديه من دماء الجرحى والشهداء ، ومن ثم الوضوء لإداء صلاتي المغرب والعشاء ، وحين انفتل من صلاته بدأ بتجويد آيات من القرآن الكريم فطلب منه زميله أن يرفع صوته الحنون قليلاً .
كان الظلام يشع بخشوع ا لمقاتلين من خلال تهليلهم ويخفي دموعهم ، وبدأ صوت فاقد يرتفع أكثر فوق صوت انفجارات غارة أخرى ، وحين قال :" ألا إنَّ نصر الله قريب" تعالى التكبير والتهليل .
توقف القصف وانتهى المقاتلون من إخلاء الجرحى والشهداء الملتحقين بـإخوانهم من قبلهم ، فاغتنم المقاتلون ساعة مرت على انتهاء آخر غارة ليتناولوا قليلاً من الطعام مع بعض الراحة فقد كان يوماً قاسياً عليهم .
استلقى فاقد على ظهره تلفه ظلمة الخندق بينما راحت يده تمسح ذرات التراب قبل أن تندس فيها متسمرة ومرسلة قشعريرة باردة تزحف ببطء على جسده ، وترسم صورة ذلك الخندق حين ألقت سيارة الأمن به وبزملائه في داخله فاسحة الطريق لجرافة ضخمة لإلقاء التراب عليهم ، وكأنه الآن يشم رائحة التراب والدم، ويسمع صوت أنين الجرحى الذي دفنوا قبل أن يلفظوا آخر أنفاسهم .
ومن عمق أحزانه وثقلها التي أطبقت على صدره انسلت ابتسامة غريبة ومتثاقلة نحو شفتيه تذكره بما كان يداعبه به زملاؤه في الحارة بأن لديه في جهازه التنفسي شيئاً من غلاصم الأسماك حين كان يغيب تحت الماء في نهر الفرات في محاذاة جسر ((الجورة)) حتى يظن الناس أنه غرق فيفاجئهم بخروجه على حافة الشاطئ الآخر في مداعبة منه .
لم تستطع هذه الابتسامة الخجولة أن تبعده عن الخندق الأول ، فهو وحده من يعرف سرَّ نجاته من المذبحة الرهيبة وخروجه من الخندق في صحراء تدمر ، فقد أصابته طلقة واحدة اخترقت ساقه اليمنى فتظاهر بالموت تحت جثث زملائه المغدورين ، وقد اختلطت دماؤهم بدمائه ، فكان قدره أن يكون آخر من يسقط من السيارة في الخندق المعدّ لدفنهم جميعاً حين تمكن من إزاحة التراب عن مقدمة أنفه ، وقد غطى الغبار سماء المنطقة ، وبعد ساعتين انسحب الجنود بعد أن أطمأنوا على بطولاتهم في حصد أرواح آلاف المساجين داخل غرف السجن .
كانت مصابيح تدمر تلوح لعينيه وهو يواصل زحفه نحوها ، وحين دخلها كانت شوارعها خالية يجللها الحزن والأسى وكأن جدران بيوتها تبكي على شهداء المذبحة ؛ معيدةً إلى ذاكرتها استباحتها من قبل الرومان أيام الملكة زنوبيا... اقترب من أحد الأبواب لكن نفسه صدَّت عنه ولم تطاوعه في طرقه ، فاتجه بصعوبة يجاهد للوصول إلى الباب الآخر ، وقد لفّه دوار ، فأمسك بقبضته مترنحاً ذات اليمين وذات اليسار ، فأخذ الأرض بيده مسنداً رأسه على الباب ، فأحس برغبة شديدة في التقيؤ ، فراح يكابد أعماقه في قمع رغبته ضارباً الباب بيده ، وفي غفلة منه فُتح الباب فسقط نصف جسده داخل المنـزل ، فانطلق صوت امرأة عجوز تولول وتستعيذ بالله منادية يا ناجي ... يا ناجي ... فجاء ناجي يسبقه صوته ما بك يا أمي ؟ قبل أن تعقد المفاجأة لسانه يالله ما هذا ، من هذا يا أمي ، هذا رجل خارج من قبر ؟ ما الذي أتى به إلينا ؟ من ألقاه على بابنا ؟!
كان صوت فاقد ينافح يائساً ليصل إلى أسماعهم : أرجوكم ... وقبل أن يتمكن من الحديث غلبه التقيؤ ، واستدعى منهما أن يسحباه إلى داخل الدار وإعطائه الوقت الكافي لاستعادة أنفاسه .
استلقى على الكرسي ينظر إلى ناجي وهو يعاين جرحه محاولاً إقناع أمه أن لا ترقَّ لتوسلاته في عدم نقله إلى المستشفى ، فالجرح عميق وليس بوسعه أن يفعل له شيئاً .
لحظات قاسية يستجمع فيها فاقد كلّ ما بقي لديه من قوة ليشرح لهما ما جرى له ولزملائه ونجاته ، ... قالت الأم لابنها : يا ولدي إذهب إلى زوج أختك وتعال به عسى أن يفعل شيئاً .
انتفض الولد قائلاً : ماذا تقولين يا أمي أبو سعيد ختان من أين له المعرفة في معالجة مثل هذا الجرح... يا بني : إذا أمسكوا به فسوف يعدمونه ، لعلّ لنا فيه أجراً... لا حول ولا قوة إلاّ بالله أمري إلى الله ، والله هذه مصيبة حلت علينا ، يا غافل لك الله ، ثم التفت نحو أمه قائلاً : لا ترفعوا صوتكم ، هل نسيت أن جارنا من الأمن والله يسترنا منه .
اقتربت العجوز منه قائلةً : قل لي يا ولدي أين أهلك... في دير الزور يا خالة... ماذا تعمل ؟
طالب في جامعة حلب في السنة الثانية طب أسنان... وأبوك ماذا يعمل... أستاذ مدرسة.... وأمك يا ولدي... توفيت أثناء ولادتي ... يا ويلي عليك شقي يا ولدي ، ولكن قل يا ولدي ماذا فعلت للدولة؟... والله يا خالة لم أفعل أيَّ شيء ؛ كنت ذاهباً للسفر للالتحاق بجامعتي فلم أستطع بسبب المظاهرات التي انفجرت في المدينة ، فعدت بصعوبة إلى بيت أهلي ، فاتهموني أني كنت أحمل منشورات في حقيبة السفر وأحرض الناس ضد النظام .
أحست أم ناجي بأنها أتعبته بأسألتها ، وأنه استنفد قوته في الإجابة ، فنهضت نحو المطبخ تهيئ له ما يسدّ جوعه ، لعله الآن يستطيع أن يأكل شيئاً .
فتح الباب ودخل ناجي وأبو سعيد ، وللوهلة الأولى ارتجف صوت أبي سعيد وتلعثم بقوله : يا لطيف الحمد لله على السلامة ، لعنة الله على الظالمين ، دعني أرَ جرحك ، الحمد لله العظم سليم إنها عناية الله ، ومد يده يفتح علبته المعدنية يخرج منها المطهر والإبرة والخيوط ، مردداً مع نفسه : لديَّ مخدر موضعي وعليك أن تحتمل الألم ، ساعدني يا ناجي ... الحمد لله أن لديّ إبرة ضد الكزاز ، وغداً إن شاء الله سأحضر لك كل ما تجتاجه .
كان الألم أكبر وأشد من أن يحتمله جسد فاقد المنهك ، فاستسلم لغيبوبة منحت الفرصة لأبي سعيد لكي ينجز عمله بهدوء.
لم يدرك فاقد كيف غلبه النعاس في مثل هذا الظرف العصيب ، فانتبه على صوت زميله وهو يطلب منه أن يضع تحته بطانية وفوقه أخرى فقد بدأ الجو يبرد ، وألا يستسلم للنوم كاملاً فالليلة قد تشهد إنزالاً للعدو .
نفض رأسه وهو يستحضر صورة زوجته حين أخبرها بقراره في الالتحاق مع المجاهدين للدفاع عن أرض العراق ، وكيف راح يدفع توسلاتها ويغالب دموعها ، وكأنها الآن أمامه في ظلمة هذا الخندق تعيد على مسامعه : يا أبا مصعب نحن في غربة ولديك ولدان وبنت ، ولا أحد لهم إلاّ الله ...
ألا يكفيك أن الله لهم يا أم مصعب... بلى ونعم بالله ، ولكننا بلا وطن ، ولا بيت، ولا أقرباء ولا راتب لدينا ولا مال ، وأكبر أولادك في الثانية عشرة من عمره، ولا سمح الله إن أصابك مكروه من يعيلنا ... غفر الله لك يا أم مصعب : إنه الجهاد ، كيف تقولين هذا ؟ وهل كنت أنا العبد الفقير من يرزقهم ، وهل أنا الذي أحفظهم وأرعاهم ؟، أنسسيت ، يا أم مصعب ، أن الله عزَّ وجلَّ أحنُّ عليهم مني ومنك ، الله ، يا أم مصعب ، الذي حمى نبينا موسى u وهو مولود تتقاذفه الأمواج ، ورقَّق له قلبَ أعتى مجرم ، الله الذي حمى وعوض سيدنا محمد r من يتم أبوين وبوأه أعظم مكانٍ وأجل مرتبةٍ وأعلى درجة ، ألا يكفيك أن أنال رضا الله ثم أورّث لكم الشهادة وشفاعتها ! ألم نتعاهد ، يا أم مصعب ، أن يكون لنا في رسول الله أسوة حسنة .
قال لنفسه وهو يردد أذان الفجر وهو ينساب مع نسائم الفجر ، كأنني أسمعه لأول مرَّة كأنه قادم من عمق التاريخ ؛ لهو أشبه بصوت سيدنا بلال الذي طالما تمنى كلَّ مسلم لو أنه حضره أو سمعه ... شعر بغصة وهو يتذكر أذان سيدنا بلال على هضبة الجولان حين طلب منه الصحابة رضوان الله عليهم أن يعيد لهم أيام رسول الله r ، قال في سرّه : ولكن أين أنت يا بلال ، وأين هي الجولان ، لقد كانت أمنيتي أن أقاتل لاستردادها .. إيه لقد أضاعوا الأرض والإنسان وأخذته الدهشة وهو يستمع إلى زميله يخاطبه : ما أجمل قول المصطفى r : الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم الدين ، قلت لي يا أخي أنك من سوريا... نعم يا أخي ... أليس أمتنا في خير؟... قال في نفسه : ما الذي جعله يقول هذا ؟
حمد الله وأثنى عليه أنْ أتاح له المدة الكافية لإتمام صلاته ودعائه والتلذذ بقرآن الفجر قبل أن يبدأ القصف الجوي والصاروخي بشكل جنوني ، فقد كانت القنابل الثقيلة تسابق بعضها في السقوط ، وتزاحم صواريخ أرض ، أرض في شدة انفجارها حتى اختلط ضياء الفجر باحمرار اللهب وقتامة الغبار ، ووميض الانفجارات .
وما إن توقف القصف حتى ملأ هدير الطائرات المروحية سماء المعركة محملة بجنود العدو كانت نفسه تكره هذا الصوت وتمقته ، لأنه يذكره بصوت الطائرات الذي أثار استغرابهم قبل أن يعرفوا أنها حملت إليهم الغدر والموت حين هبطت في ساحة سجن تدمر ، ونزل منها جنود سرايا الدفاع عن النظام ، فاقتحموا غرف السجن مطلقين النار على السجناء الغزل بغية إبادتهم على بكرة أبيهم ..
آه... يا فاقد عشرون عاماً لم تنسَ للحظة واحدة تلك اللحظة الرهيبة ، عشرون عاماً وأنت تنتظر ساعة الثـأر منذ أن أوصلك ناجي إلى مدينة الرطبة العراقية هارباً من الموت لا تدري ما مصيرك ، أو متى تعود إلى وطنك وأهلك... أحسس بحرارة أنفاسه وهو يحدق بالطائرة وهي تهمُّ بالهبوط قريباً منه... إنهم هم بكل ما تحمله الجريمة من سمات مميزة لكنه اليوم ليس أعزل من السلاح ولا داخل غرفة سجن موصدة ، فاشتبكت صور الماضي بالصور القادمة أمام عين مفتوحة وأخرى مغمضة وهو يسدّد بالقاذفة حتى إذا هبطت الطائرة وظهر الجنود الأمريكان يهمون بالنـزول ضغط على الزناد فاتحاً عينيه على سير المقذوف الملتهب حتى إذا انفجر بهم داخل طائرتهم صاح بأعلى صوته : الله أكبر ، الله أكبر فتعالت الأصوات من كل الجهات تكبّر وتهلل .
نظر إلى زميله وقد ارتسمت على محياه ابتسامة النصر قائلاً : إنه النصر يا ناجي ، إنه الثأر يا ناجي دهش زميله وهو يقول : ماذا قلت يا فاقد ، قلت ناجي، من ناجي ، قلت لك اسمي حسن .
لم يعرف كيف يعتذر فقال : أقصد يا حسن أنا آسف ، وراح يملأ عينيه بمنظر الطائرة المحترقة قائلاً لنفسه : إنها ضربة تثلج الصدر ، فأحس بشيء يخترق صدره ينتزع منه برودة إحساسه اللذيذ فوضع يده على الجرح وقد بدأت قدماه تفقدان قدرتهما على حمله ، فسقط على ركبتيه مسلماً جبهته للأرض أحس بيد تسنده عليها وتحمله ، فراح يحدق بها إنها أمي ، أمي التي لم أرها إلاّ في الصورة إنها نفس الصورة ، وفي الجانب الآخر كانت امرأة تمد يديها وقد ارتدت ثوباً أبيض كثوب أمه ، لم يصدق إنها أم ناجي ، حاول أن يصرخ بين أذرعهما : أمنيتان عاشتا معي، أن أرى أمي منذ عرفت بموتها وأم ناجي مذ فارقتها ...، كانت قواه تخور وهو يرى نفسه تطير به أمه وأم ناجي نحو عنان السماء وقد غلبه النعاس وشفتاه ترددان: أشهد أنْ لا إله إلاّ الله ، وأشهد أنَّ محمداً رسول الله .