لا يَصْلُحُ هذا الإِبْرِيقُ إلا لهذا الطّست!
كورونا 2020
مجرد مسودة، رقم3
(مقطع من عمل سردي)
د. لطيفة حليم وهي تُعِدُّ أشهى أعمالها السردية!
داخل المطبخ تهيئ وجبة الغداء، لحم الضأن بفاكهة السَّفَرْجَل، الذي يلذُّ طعمه لصاحبها، خصوصًا بعد ارتفاع عدد الوفيات والإصابات بكورونا.
تغسل يديها بالماء والصابون إحدى عشرة دقيقة. وتتذكر طفولتها.
تعود من المدرسة إلى الدار، تفاجئ أمها مبتهجة بالمكنسة الجديدة، وقد استبدلت السافلة بأخرى عالية مؤخرتها، مربوطة بقصبة طويلة، أعفتها من الانحناء.. تمسكها بقبضة يدها اليمنى، وبقبضة يدها اليسرى راديو صغير بوسع كفها. المذياع أصبح رفيقها بالمطبخ. تتحرك كالعصفورة. تستغرب عودة ابنتها من المدرسة، الساعة تشير إلى العاشر صباحًا.. تقول لها:
- ماما تغيب معلم التربية الإسلامية!
لا تلتفت إليها، تصغي لصوت السيدة (ليلى) بالراديو. تستمع إلى أغنية.
تترنح وسط المطبخ مع أنغام الأغنية، تردد:
- "اتْفَرْقَعْتِ البَلُّونَة"...
لا تفهم كلمات الأغنية التي ترددها أمها، لكنها تعجبها ابتسامتها، وهي تقول لها:
اغسلي يديك قبل تناول وجبة الغداء، السَّفَرْجَل!
عاد أخوها (أمين) من المدرسة الساعة الحادية عشرة صباحًا، أستاذ مادة الحساب لا يغيب بالطبع. يلتقط من الأرض غلاف بازوكا المشمع يصنع صاروخًا، يسميه اسْكُود.. يلقي به في الفضاء. لا يعلم أنه سلاح أمريكي وإن كان روسيًّا. يردد:
- أنا عِفْريت أنا نِفْريت..
يختفي العفريت، تطمئن أخته. تحفظ المقامة المَضِيرِيَّة للهَمَذاني بصوت مرتفع:
- يا غُلام، الإبريق! لا يصلح هذا الطَّسْت إلا مع هذا الدَّسْتِ في هذا البيت، ولا يُجَمَّلُ هذا البيت إلا مع هذا الضَيْف، أَرْسِلِ الماء، يا غُلام، فقد حان وقت الطَّعَام.
صوت أُمِّها النَّاعم بغُنَّةِ أغنية البَلُّونة آتٍ من المطبخ يرنُّ في أذنيها:
-افركي يَدَيْك بالماء والصَّابون، أطلبي من أخيك أن يصب الماء على يديك. اغسليهما جيِّدًا جيِّدًا.
لا تفتح الحَنَفية، ينزل الماء مباشرة فوق يديها من (الإبريق).
لم يكن الصابون سائلًا معطَّرًا في قارورة، كان الصَّابُون حَجَرَةً، ولم تكن تنظر إلى قطعة الصَّابون نُحِت على جدارها صورة مِنْجل الكادحين، ولم تكن تنتبه إلى رغوة الصابون أنها تشكل فقاقيع فقاقيع.
تُوصيها أمها أكثر من مرة بغسل اليدين بالماء والصَّابون.. ونزع بازوكا من فمها.
طجين اللحم بالسَّفَرْجَل لا يلذ لها مذاقه، لأنه ذو طعم خَمْط، مع مذاق اللَّيْمُون الحامض.
غالبا ما كانت أمها تُضِيفُ عودًا من القَرْفَة، وقطعة من السكر في المَرَقِ الذي تَغْمس فيه خبزها.
أخوها (أمين) يسبقها فيلتقط عظم الضأن، يَمْخُر مَخْرا فوق طاولة الأكل المستديرة، المصنوعة من خشب الأرز، ويُخْرج مُخَّ العظم، يرطِّب به شفتيه ويلعقه بلسانه، كعاشق محترف.
تمتنع عن أكل طجين "شَفَى رَجُل". تُلَقِّنها أمها درسا في فِقْهِ الصِّحَة، من خلال "شَفى رَجُل"، تقول لها:
- السَّفَرْجَل فاكهة عرف أول مرة في الأندلس. اسمها مقرون بالشِّفاء: "شَفَى رَجُل".
تستغرب قولها وتقول لها:
- "شفى رجل" يأكله (أمين) إنه رجل، أنا لا آكل اللحم بالسَّفَرْجَل.
تعنفها قائلة:
- بَارَكَ من لَبْسَالَة(1)!...
يحكي لهما جدهما، أن رجلًا أصيب بفيروس وشُفِيَ من مَرَضِه بتناول سَفَرْجَل.
تحفظ المقامة المَضِيْرِيَّة ولا تصغي لجدها.
- لا يَصْلُحُ هذا الإِبْرِيقُ إلَّا لهذا الطَّست..
يقلب (أمين) دفتر التاريخ. سنة 1923:
مرض الجنرال (هوبير ليوطي)، شاع خبر مرضه بفيروس أَلْهَبَ كَبِدَهُ، فَرُفِعَتْ له الدَّعَوات في جامع القَرَوِيِّين، وضريح المولى إدريس، والزَّاوِية الكَتَّانية ونصحه فُقَهاء الصحة من القرويين، بتناول طَجِينْ لحم الضأن بفاكهة تشبه التُّفاح، لها مذاق حامض. استجاب ربهم الطيب، فشفى لهم (هوبير). وفيما بعد استحسنت مذاقه الأمريكية الحسناء الكاتبة (إديث وارتون Edith Wharton)، 1862- 1937، خلال رحلتها إلى المغرب، وذلك عندما أقام لها (هوبير) مأدبة غداء بداره وأخبرها بشفائه بتناول طجين اللحم بالسَّفَرْجَل.
سمع (أمين) الصفير. أغلق دفتر التاريخ. خرج من الدار، ليرافق زميله لساحة (للا عودة). لغة التصفير. لا تجيدها. حاولت عدة مرات أن تقلد أخاها. تضع فجوة بين بناني أصبعي السبابة والوسطى ليدها اليسرى وسط فمها. تصفر لا يسمع لها صفير، تكرر التجربة. أمها تنادي عليها:
-بَارَكَ من لَبْسَالَة، لا تقلدي (امين)؛ إنه ولد وأنت بنت، وليست البنت كالولد! الصفير نتشاءم منه داخل الدار. أخوك يخرج عندما يسمع صفير صديق الدرب ليلعب بساحة (للا عودة) كرة القدم؛ لأنه ولد، وليس الولد كالبنت ولا البنت كالولد!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بَارَكَ من لَبْسَالَة، في الدارجة المغربية: أي كفى تمرُّدًا . وتعني البسالة: الشجاعة، كما في الفُصحى. وفي هذا السياق تعني: "شقاوة" الأطفال، حسب الدارجة المصرية.
وسوم: العدد 1020