ما قالت الريح
ثمة قصر عتيق ذو جدران سميكة حمراء قرب شطآن الحزام العظيم الذي يعد واحدا من المضائق التي تصل كاتيجات ببحر البلطيق . تقول الريح : " أعرف كل حجر في القصر . رأيته حين كان جزءا من قلعة ستج الرابضة فوق رعن الجبل إلا أنه تقرر هدم القلعة ، ومن ثم استعملت حجارتها ثانية في بناء جدران قصر جديد في مكان آخر ؛ هو القصر الباروني في منطقة بوربي الذي ما زال قائما عند الشاطىء . عرفت أولئك الأعيان النبلاء والسيدات النبيلات معرفة حسنة . عرفت الأجيال المتوالية منهم التي سكنت هناك . وفي نيتي الآن أن أحدثكم عن فالديمار دا وبناته . كم كان في مشيه من خيلاء لنسبه الملكي وقدرته على المفاخرة بمآثر أنبل من مجرد صيد الوعول واحتساء الخمور . كان مستبدا في حكمه ، ومن عادته القول : " وسيكون حكمي مستبدا في المستقبل " . وكانت زوجته تخطر تياهة فوق أرض القصر ذات الرخام الصقيل لابسة الثياب المطرزة بالذهب . وكان النسيج المزين بالرسوم والصور الكاسي جدران القصر من الصنف الفخم . وكان أثاث القصر يدل على ذوق فني راقٍ . وقد جلبت الزوجة معها الذهب وأدوات المائدة الفضية والذهبية معها عند الزواج . وكانت أقبية القصر تزخر بالخمر ، والخيول السود الجامحة تصهل في حظائرها . كان منظر بيت بوربي يدل على الثراء في ذلك الزمان . وكان للعائلة ثلاث بنات هن في الحق عذراوات حسناوات ناعمات ، وهن : عايدة وجوانا وأنا دوروثيا . ما نسيت أساميهن يوما . كانوا أسرة ثرية نبيلة مولودة في الوفرة والغنى وتغذت في الرفاه والرخاء " ، ودمدمت الريح ووالت حديثها : " لم أرَ في هذا البيت _ ما رأيت في سواه من بيوت الأكابر _ السيدة الشريفة الأصل جالسة بين نسائها تدير آلة الغزل . كانت هذه السيدة تحسن العزف على القيثار والغناء بمصاحبة الموسيقا التي لم تكن دائما موسيقا دنماركية ، ولكن كانت أحيانا موسيقا بلاد أجنبية . كانت الأمور جارية وفق مبدأ " عش ودع غيرك يعش " . وكان الضيوف الأغراب يأتون من نائي البلاد ومن دانيها ، وكانت الموسيقا تصدح والكئوس تتضارب في أيدي السمار والندامى ، وكنت _ قالت الريح _ عاجزة عن إغراق الصخب بصوتي ؛ فهنا كان يسود الفخر والخيلاء والروعة ونزعة الاستعراض لا تقوى الله " ، واستتلت الريح تقول : " حدث ذلك عشية أول مايو ، وكنت وفدت من الغرب ، ورأيت السفن التي طغت عليها الأمواج وكيف تشبث بسطوحها كل من فيها أو قذف منهم من قذف مع حطام بعضها على شاطىء جوتلاند . أسرعت في حقل السرخس وفوق شاطىء جوتلاند الشرقي الذي تكتنفه الغابات ، وفوق جزيرة فيونن ، واندفعت بعد ذلك خلال الحزام العظيم أتنهد وأتأوه ، وفي النهاية نزلت للاستراحة على شواطىء زيلاند عند منزل بوربي العظيم حيث كانت غابات البلوط ما فتئت مزهرة . وكان شبان المنطقة يلمون الأغصان من تحت شجر البلوط ، وينقلون أضخمها وأيبسها إلى القرية ، ويكدسونها هناك ويضرمون فيها النار . وبعدئذ يرقص الشبان والعذارى ويغنون في حلقة حول الحطب المضطرم " ، واستطردت الريح تحكي : " رقدت تامة السكون إلا أنني لمست صامتة غصنا كان جلبه أوسم الشبان ، فاشتعل الغصن متألقا ساطعا أكثر من بقية الأغصان ، فاختاروا صاحبه رئيسا وسموه " الراعي " الذي يجب أن يختار جذعته ( النعجة الفتية ) من بين العذارى . كان هناك طرب وبهجة أكبر مما سبق أن شهدت في بيت البارون الثري ، ثم قصدت السيدة النبيلة بيت البارون مع بناتها الثلاث في عربة مذهبة تجرها ستة جياد . كانت البنات صبايا حسناوات . كن ثلاث زهور سواحر : وردة وسوسنة ونبتة مكحلة حدقية ، وكانت الأم زهرة خزامى مزهوة لم ترد أيا من تحايا الشبان والعذارى الذين وقفوا ساكنين تبجيلا لها . بدت السيدة الجميلة أشبه ما تكون بزهرة جامدة الساق نوعا . نعم رأيت ثلاث العذارى : الوردة والسوسنة والمكحلة الحدقية ، وفكرت : ترى لمن سيصبحن جذعات يوما ؟ لابد أن يكون راعي كل واحدة فارسا باسلا أو أميرا . مضت العربة في سيرها ، وعاود الفلاحون رقصهم . تنقلوا طول الصيف في كل القرى القريبة . وفي ليلة ، حين نهضت ثانية ، رقدت السيدة الجميلة رقدة لم تنهض بعدها. حدث لها ما يحدث لنا كلنا والذي لا جديد فيه . ولبث دا زمنا صامتا غارقا في فكره . وقال صوت داخله : " قد تنحني الشجرة العليا ، ولكنها لا تنكسر " . وبكت بناته ، ومسح كل من في القصر دموعهم إلا أن السيدة رحلت بعيدا ، ورحلت أنا أيضا بعيدا " ، قالت الريح ذلك ودمدمت وتابعت تحكي : " وعدت ثانية . غالبا ما أعود وأجوز جزيرة فيونن وشطآن الحزام . واسترحت عند بوربي ، قرب الغابة العظيمة حيث بنى مالك الحزين عشه وحيث يتردد حمام الغابات والطيور الزرق واللقلق الأسود . كان الوقت ما زال ربيعا ، وبعض الطيور يرقد فوق عشه ، وبعضها فقس صغاره ، لكنها لشد ما رفرفت في المكان وأرسلت صرخاتها حين دوى صوت الفأس ضربة إثر ضربة في الغابة . تقرر مآل أشجار الغابة ؛ ففالديمار دا أراد صناعة سفينة نبيلة ، سفينة حربية من ثلاثة سطوح وثق أن الملك سيشريها . إذن يجب قطع أشجار الغابة التي هي علامة ظهور البر للبحارة ومأوى الطيور . وبدأ الصقر الابتعاد حين حطموا وكره ، وصار مالك الحزين وسائر طيور الغابة دون مأوى ، فحلقت في جو المكان فزعة غضبى . كنت قادرة على تفهم شعورها فهما جيدا . ونعقت الغربان والزيغان ( جنس من الغربان حالك السواد ) كأنما في احتقار حين رأت الأشجار تتهشم وتتهاوى حولها . وبعيدا في جوف الغابة ، حيث كانت عصبة من العمال تشتغل ، وقف فالديمار دا مع بناته الثلاث . كان الكل يضحكون من صرخات الطيور الوحشية سوى واحدة هي أنا دورثيا التي استشعر قلبها الحزن العميق . وحين استعدوا لقطع شجرة شبه يابسة بنى اللقلق الأسود عشه فوق أغصانها المعراة ؛ رأت الأفراخ الصغيرة تمد أعناقها ، فتوسلت لأبيها باكية أن يرأف بها ، فكان أن نجت الشجرة التي تحمل عش اللقلق الأسود من القطع . والشجرة ذاتها ليست بالأهمية التي تستوجب الكلام عنها . ووقع بعد ذلك كثير من قطع الشجر بالفئوس والمناشير ، وأخيرا أنشئت سفينة ثلاثة الأسطح . كان منشئها رجلا خسيس الأصل إلا أنه كان عظيم الفخر بنفسه ، وكانت عيناه وجبينه تفصح عن عقل كبير ؛ لذا كان فالديمار دا مولعا بالإصاخة إليه ، وكذلك ابنته عايدة كبرى أخواتها التي أضحت الآن في ربيعها الخامس عشر . وبينما كان الرجل يبني سفينة للأب كان يبني لنفسه قصرا في الخيال يعيش فيه مع عايدة بعد أن يتزوجا . وكان ذلك ممكن الحدوث حقا لو كانت هناك قلعة حقيقية بجدران حجرية وأسوار وخندق ماء حول القلعة ، بيد أن البناء كان _ على حصافة عقله _ طيرا فقيرا وضيعا ، وأنى لعصفور مثله أن يدخل مجتمع الطاوس ؟ " ، وتابعت الريح تقول : " واصلت سيري ، ورحل البناء ؛ فلم يؤذن له بالبقاء ، وتغلبت عايدة الصغيرة على ألم فراقه ، وما كان لها إلا أن تتغلب عليه . وكانت الجياد السود المزهوة الخليقة بالنظر إليها تصهل في حظيرتها التي أوصدت عليها أبوابها ؛ ذلك أن قائد البحرية _ الذي أرسله الملك لفحص السفينة الجديدة واتخاذ إجراءات شرائها _ كان شديد الإعجاب بتلك الجياد الجميلة " ، وأردفت الريح تقول : " سمعت كل ما قيل ؛ لأنني رافقت السادة خلال الباب المفتوح وذروت عيدان القش مثل قضبان الذهب على أقدامهم . كان فالديمار دا يرغب في الذهب وقائد البحرية يرغب في الجياد السود المختالة ، ومن ثم أسرف في إطرائها إلا أن إشارته لم تلتقط ، ومن ثم لم يتم بيع السفينة ، ولبثت فوق الشط مغطاة بالألواح ؛ سفينة نوح لم تدخل الماء ، وكان ذلك داعي أسف " ، وواصلت الريح الحكاية : " وفي الشتاء ، حين غشي الثلج الحقول وملأت كتلُ الجليد الكبيرة التي كنت دفعتها إلى الشاطىء الماءَ ؛ جاءت أسراب كبيرة من الغربان السمر والزيغان السود مثلما هي ألوانها عادة ، ووقعت على السفينة المهجورة الموحشة وراحت تنعق خشنة الأصوات تبكي الغابة التي اختفت من الوجود ، وأعشاش الطيور الكثيرة الجميلة التي حطمت ، والأفراخ التي صارت بلا مأوى ، وكل ذلك كُرمى لقطعة الخشب ؛ تلك السفينة المزهوة التي لم تبحر بتاتا . وجعلت أندافَ الثلج تدوم حتى استقر الثلج مثل بحيرة كبيرة حول السفينة فغطاها . جعلت تلك السفينة تسمع صوتي ؛ ذلك أنها يجب أن تسمع ما ينبغي أن تقوله عاصفة الريح . وبالتأكيد أديت دوري في تعليمها فن الملاحة . وانقضى ذلك الشتاء ، وتلاه شتاء آخر وصيف مثلما أن الفصول ما زالت توالي انقضاءها ، ومثلما أنقضي أنا ، وإن أكوام الثلج لتمضي في سبيلها ، وإن أزهار التفاح لتتناثر والأوراق تتساقط . كل شيء يرحل ، والناس كذلك يرحلون ، ولكن بنات الرجل العظيم ما فتئن شابات ، وعايدة الصغيرة زهرة لها من الصباحة التي تجذب النظر ما كان لها منها حين رآها باني السفينة أول مرة . وغالبا ما طيرت شعرها البني المديد وهي واقفة في الحديقة عند شجرة التفاح تفكر ولا تنتبه إلى كثرة ما ذروت فوق شعرها من الزهور ، وكيف نفشته ، وكذلك حين تقف تنظر إلى الشمس الحمراء والسماء الذهبية خلال فرجات الأغصان ذات الورق الأسمر الكثيف في شجر الحديقة ، وكانت أختها جوانا في إشراق سوسنة ورقتها . ولها قامة مديدة وخطوة وسيعة ، وإن كانت على غرار أمها متصلبة الظهر شيئا . كانت مولعة جدا بالمشي في القاعة الكبيرة حيث تعلق صور أسلافها . وكانت صور النساء في أولئك الأسلاف مرسومة في ثياب القطيفة والخز وفوق رؤوسهن المرجلة الشعر قبعات صغيرة مطرزة باللآلىء ، وكلهن نساء ملاح صباح . وبدا الرجال لابسين دروع الحديد أو عباءات فاخرة محفوفة الأطراف بفراء السنجاب ، وارتدوا أيضا أطواق عنق مكشكشة ، وحملوا سيوفا على الأجناب . ترى أين سيكون مكان جوانا على ذلك الجدار يوما ؟ وكيف سيبدو سيدها النبيل وزوجها ؟ ذاك ما فكرت فيه ، وكثيرا ما حدثت نفسها به خفيضة الصوت . سمعت حديثها وأنا أجتاح القاعة الطويلة وأستدير لأغادرها ثانية . وكانت أنا دوروثيا _ المكحلة الحدقية الشاحبة ذات الأربعة عشر ربيعا _ هادئة نزاعة للتفكير ، وكان في عينيها النجلاوين العميقتين الزرقاوين نظرة حالمة ، بيد أن ابتسامة طفل كانت لا تزال تتراقص حول فمها . لم أكن قادرة على إزالة تلك الابتسامة وما رغبت في ذلك . تلاقينا في الحديقة وفي الزقاق الواطىء وفي الحقل وفي المرج حيث كانت تلم الأعشاب والزهور التي أدركت نفعها لأبيها في إعداد العقاقير والأخلاط التي كان يديم إعدادها . كان فالديمار أحمق مختالا إلا أنه كان أيضا رجلا متعلما ويعرف الكثير ، ولم يكن أمره سرا ، وأبدى كثيرون رأيهم في ما يعمل . كانت النار لا تفارق موقده حتى في الصيف ، فيغلق حجرته على نفسه ويوقد النار أياما إلا أنه ما كان يكثر الكلام عما يقوم به . إن القوى السرية للطبيعة إنما تستكشف في العزلة ، ثم ألم يتوقع سرعة اكتشاف فن أعظم الأشياء الجيدة ؛ فن صناعة الذهب ؟ هذا ما رجاه قوي الرجاء ، فتصاعد الدخان من المدخنة وتوالى حسيس النار دون انقطاع " ، وتابعت الريح : " أجل كنت هناك أيضا ، وغنيت خلال المدخنة : " دعها وحدها ! دعها وحدها ! كل شيء سيحور دخانا وهواء وفحما ورمادا ، وستحرق أصابعك ، لكن فالديمار لم يترك النار وحدها ، ومن ثم اختفى كل ما يملكه اختفاء ما أنفخه من الدخان . أين الجياد السود المطهمة ؟ ماذا وقع للأبقار الراتعة في الحقل وآنية الذهب والفضة العتيقة في الخزائن والصناديق وفي القلعة والبيت نفسه ؟ كان سهلا إذابة كل ذلك في بوتقة صناعة الذهب دون الحصول على ذهب ، وهذا ما كان . خلت البيادر والمخازن والأقبية والخزائن ، وتناقص عدد الخدم ، وتضاعف عدد الفئران . في البداية انكسرت نافذة ، وتلتها نافذة أخرى ، وبعد ذلك صرت قادرة على الولوج إلى أماكن أخرى قرب الباب . يقول المثل : " تعد الوجبة حيث يرتفع دخان المدخنة " ، لكن هاهنا مدخنة تنفث دخانا التهم كل الوجبات في سبيل الذهب " ، ومضت الريح تقول : " عصفت حول الفناء مثل حارس غير أنه لم يكن هناك حارس . أدرت ديك الطقس فوق قمة البرج فصر صريرا يشبه شخير الحارس دون أن يكون في المكان حارس . ما كان فيه سوى الفئران والجرذان . كان الفقر هو الذي يبسط غطاء مائدة الطعام . الفقر قعد في الدولاب وفي مخزن الطعام ، والباب انحل عن مفصلاته ، وبانت الصدوع والشقوق في كل مكان حتى بت قادرة على الولوج والخروج متى حلا لي ، وهو ما جعلني قادرة على معرفة كل ما يجري في المكان . وشاب شعر صاحب البيت ولحيته بين الدخان والرماد والأسى والليالي المسهدة ، وبدت الغضون العميقة حول وجنتيه ، وشحبت بشرته واصفرت بينما ظلت عيناه تبحثان في شغف وحماسة عن الذهب الذي تمادى حنينه إليه ، فكان خاتمة كده الدين لا الكسب . وقد نفخت الرماد في وجهه ولحيته ، وأعولت خلال إطارات النوافذ المكسورة والصدوع الفاغرة في الجدران . عصفت في الصناديق والجوارير الخاصة ببناته والتي توجد فيها الثياب التي نصلت ألوانها وبليت لطول لبسهن لها . إن أحدا لم يغن عند سرير البنات الأغنية التي غنيتها أنا . حياة السادة صارت حياة فقر مدقع " ، واسترسلت الريح تروي : " كنت الوحيدة التي قوي فرحها في ذلك القصر . وأخيرا أمطرتهم ثلجا . يقولون إن الثلج يدفىء الناس ، فكان الثلج حسنا لهم ؛ لأنهم بلا حطب ؛ فقد قطعت الغابة التي كانوا يحصلون عليه منها . كان الصقيع قاسيا جدا . اندفعت خلال الثقوب وفي الممرات وفوق الجملونات والسطوح بسرعة صارمة حادة . كانت الفتيات الثلاث الشريفات راقدات في السرير بسبب البرد . وكان أبوهن متكوما تحت لحافه الجلدي ، ولم يكن لديهم ما يؤكل أو يشعل ؛ فما في الموقد نار . كانت هنا حياة لأناس أشراف " . قلت : " دع ما تفعل ! دع ما تفعل ! " إلا أن سيدي دا لا يمكن أن يدعه . قال : " سيمضي الشتاء ويأتي الربيع ، سيمضي زمان الحاجة ويأتي زمان الوفرة . يجب أن نصبر . يجب أن نتعلم الانتظار . الآن كل جيادي وبلادي مرهونة . نحن في زمان الشدة حقا ، ولكن الذهب سيأتي في النهاية ؛ في عيد الفصح " . سمعته حين تكلم كذلك . كان ينظر إلى نسيج عنكبوت ، وتابع كلامه : " أيتها النساجة الصغيرة الصناع ! إنك لتعلمينني المثابرة . ليمزق نسيجك من شاء ! ستشرعين ثانية في إصلاحه . ليحطموه كاملا ! ستشرعين في عزم تبنين نسيجا آخر حتى تكمليه . يجب أن نفعل مثلما تفعلين إن شئنا النجاح في النهاية " . وحل صبح عيد الفصح ، ودقت أجراس الكنيسة القريبة ، وبدت الشمس مبتهجة في عليائها . كان صاحب القلعة بات الليل مسهدا مستهاجا محموما ، يذيب ويبرد ويقطر ويخلط . سمعته يتنهد تنهد روح ضربها القنوط . سمعته يدعو ، ولاحظت كيف يلتقط نفسه في مشقة . وانطفأ مصباحه دون أن يلحظ انطفاءه . ونفخت نار الفحم في الموقد ، فنثرت وهجا أحمر على وجهه الأبيض الشاحب ، فأناره إنارة ساطعة بينما كانت عيناه الغائرتان تطلان وحشيتين من عمقيهما الكهفيين وتبدوان كأنهما تزدادان كبرا وبروزا كما لو كانتا ستنبثقان من محجريهما . صاح : " انظروا إلى زجاجة الكيمياء ! شيء يتوهج في البوتقة . شيء صاف ٍ وثقيل " ، ورفع الزجاجة بيد مرتجفة وصاح مهتاج الصوت : " الذهب ! الذهب ! " . كان مصابا بدوار . وقالت الريح : " كنت قادرة على إسقاطه ، ولكن كل ما قمت به أني نفخت الفحم ، ورافقته عبر الباب إلى الحجرة التي كانت تجلس فيها بناته مرتجفات . كان الرماد منثورا على سترته وفي لحيته وشعره المشعث . وقف منتصبا ورفع بيده الزجاجة الهشة الحاوية لكنزه النفيس وصاح ثانية معليا الزجاجة التي كان يجب أن تتوهج في الشمس : " وجدته ! وجدته ! الذهب ! الذهب ! " إلا أن يده ارتجفت ، فسقطت منها زجاجة الكيمياء ترن على الأرض وتكسرت قطعا . انفثأت آخر فقاعة لسعادته في طنين ورنين ، فاندفعت أبتعد عن منزل صانع الذهب . وفي آخر الخريف ، حين قصرت الأيام ونثر الضباب قطرات باردة على ثمر العليق والغصون الجرد ؛ رجعت عالية الروح ، فاندفعت في الجو وقشعت الغيم من السماء وانتزعت الأعواد الجافة ، وهو عمل ليس بالصعب ، ولكن لا مفر من أدائه . وكان اجتياح آخر يحدث في بيت دا ، في قلعة بوربي . كان فيها عدوه أو رامل من باسناس ، وفي جيبه رهن البيت وكل ما يحويه . هززت النوافذ المكسرة وعصفت بالأبواب العتيقة التي حل بها العفن وصفرت في الصدوع والشقوق حتى كره السيد أو رامل البقاء هناك . وبكت عايدة وأنا دوروثيا بكاء وجيعا ، ووقفت جوانا الشاحبة الفخور تعض شفتيها حتى دميتا ، ولكن ما فائدة كل ذلك ؟ وعرض أو رامل على فالديمار دا البقاء في البيت حتى آخر عمره إلا أن أحدا من الأسرة لم يشكره على عرضه ، ورأيت العجوز الحطيم يرفع رأسه ويرده للوراء في كبرياء أكثر مما مضى . وعندئذ اندفعت نحو البيت وشجر الليمون العتيق بقوة عنيفة حتى إن أحد أكثف الأغصان _ وهو غصن ذاوٍ _ انفصل عن شجرته وهوى على مدخل البيت ولبث هناك .ولعله استعمل مكنسة إن شاء أحد كنس المكان ، والحق أنه كان هناك الكثير من الكنس . هذا ما ارتأيته . كان من الشاق على أي كان الاحتفاظ برباطة جأشه في ذلك اليوم إلا أن أولئك الناس كانوا أقوياء الإرادة وفي صلابة حظهم الصعب . لم يكن لديهم ما يحسبونه ملكا لهم سوى ثيابهم التي يلبسونها . نعم كان هناك شيء آخر سوى الثياب هو زجاجة كيمياء جديدة شريت أخيرا ، وملئت مما أمكن جمعه من التراب الذي تحطم فوقه الكنز الذي وعدهم الكثير وأخفق في الوفاء بوعده . وقد أخفى فالديمار دا الزجاجة الجديدة في صدره ، وأخذ السيد الذي كان غنيا يوما عصاه وخرج مع بناته من بيت بوربي . عصفت باردة على وجهه المضطرب ولمست لحيته الشيباء وشعره الطويل المبيض وغنيت حسب قدرتي : " ارحل ! ارحل ! " ، وسارت عايدة على جانب من العجوز وأنا دوروثيا على جانبه الآخر أما جوانا فقد التفتت حالما غادروا مدخل البيت . لماذا ؟ الحظ لن يلتفت لالتفاتها . نظرت إلى حجارة الجدران التي صنعت يوما جزءا من قلعة مارك ستج ، ولعلها فكرت في بناته وفي الأغنية التي تقول : " مضت الكبرى والصغرى يدا في يد وحيدتين إلى ديار بعيدة " . كانت هاتان اثنتين فحسب أما هنا فموجود ثلاث ومعهن أبوهن . سرن في الطريق العام الذي ركبن فيه يوما عربتهن البديعة . سرن قدما مع أبيهن شبه متسولات . هاموا في حقل خال نحو كوخ طين استأجروه بدولار نصف عام . بيت جديد عاري الجدران خاوي الدواليب ترفرف حولهم أسراب الغربان والبوم كأنما تهزأ بهم وتصوت : " غاق . غاق . خرجوا من عشنا . غاق . غاق " مثلما صوتت في الغابة في بوربي حين قطع الشجر . ولم يحتمل دا وبناته نعيق الغربان ونعيب البوم ، فعصفت حول أسماعهم لأغرق جلبة أصوات الطير ؛ فما نفع سماعهم أصواتها ؟ وهكذا مضوا للعيش في كوخ الطين في الحقل الخالي ، فهمت أنا مبتعدة فوق البور والمروج ، في الشجيرات العارية والغابات التي تجردت من ورقها صوب البحر الرحيب ، نحو شطآن مترامية في بلاد أخرى " ، ودمدمت الريح قائلة : " الرحيل ! الرحيل ! عاما فعاما " ، وماذا وقع لفالديمار وبناته ؟ الريح ستخبرنا : " آخر من رأيت منهم هي المكحلة الحدقية أنا دوروثيا . كانت يومئذ مسنة حنية الظهر ؛ فقد انقضت خمسون عاما منذ الرحيل ، ومات الجميع وبقيت هي . إنها قادرة على رواية ما وقع ؛ فهنالك في البعيد ، في حقل السرخس ، جوار مدينة فيبورج في جوتلاند ؛ انتصب البيت الجديد البديع في الوادي الضيق . بنوه من الحجر الأحمر بجملونات بارزة . كان مأهولا ؛ لأن الدخان كان ينعقد كثيفا منبعثا من مداخنه . وقعدت سيدة الوادي مع بناتها الحسان في المشربية مطلات _من فوق سياج الزعرور البري المحيط بالحديقة _ على حقل السرخس البني . إلام كن ينظرن ؟ كانت أنظارهن مستقرة على عش لقلق بني فوق كوخ حطيم كان سقفه _ حيث يكون من فيه أبعد ما يكون _ مغطى بالطحالب ونبات الأشنة . وكان عش اللقلق يحتل الجزء الأكبر منه ، وهو الجزء الوحيد الذي كان جيد الحال ؛ ذلك أن اللقلق سواه بنفسه " . قالت الريح : " إنه بيت حقيق بالنظر إليه وعدم لمسه ؛ فقد أذن ببقائه من أجل عش اللقلق مع أنه يلوح مثل لطخة في مشهد المكان . إنهم لم يحبوا إبعاد اللقلق ، ومن ثم تركوا السقيفة العتيقة قائمة ، وأذنوا للمرأة الفقيرة التي قطنتها بالبقاء فيها . وكان من حقها أن يشكرها الطائر المصري ( اللقلق ) على ذلك . ولعل الإذن ببقائها فيه كان ثوابا لها على تشفعها للحفاظ على عش شقيقه الأسود في غابة بوربي . وفي ذلك الزمان كانت المرأة الفقيرة طفلة صغيرة ومكحلة حدقية بيضاء في حديقة ثرية . هي تذكر ذلك الزمان جيدا ؛ لأنها كانت أنا دوروثيا . وتنهدت أنا : أوه ! أوه ! " ؛ فالناس يمكن أن يتنهدوا مثلما تتنهد الريح في نبات البوص والأسل . إن أنا تتنهد : أوه ! أوه ! ما من جرس دق عند دفن فالديمار دا ولم يترنم تلاميذ المدرسة الفقراء بأي نشيد حين أودع سيد بوربي السابق الثرى ليستريح فيه . أوه ! لكل شيء ختام حتى البؤس . أما عايدة فتزوجت فلاحا ، وتلك كانت أقسى محنة حلت بأبينا ، وهي أن يكون زوج بنته قن أرض بائسا يمكن أن يعاقبه سيده بوضعه على حصان خشب . وأحسب الزوج الآن في جوف الثرى . أما عايدة ! أما عايدة ! واأسفاه ! واأسفاه ! الحكاية ما انتهت بعد . ما أبأسني ! إلهي الرحيم ! هبني مماتا ! " ، وأردفت الريح : " كذلك كانت تدعو أنا دوروثيا في الكوخ البائس الذي تركوه قائما لطائر اللقلق . أشفقت على أكثر أخواتها خيلاء . كانت جرأتها تشبه جرأة الرجل ، وعملت على سفينة لابسة ثياب رجل . كانت قليلة الكلمات جهمة السمات ، ولكنها كانت لا تستطيع ارتقاء سطح السفينة ، فطيرتها فوقه قبل أن يكتشف أيما إنسان أنها امرأة ، ورأيي أن ذلك كان حسنا مني " . وصباح عيد فصح مثل ذلك الصباح الذي تخيل فيه فالديمار دا أنه استنبط فن صناعة الذهب ؛ سمعت ألحان نشيد أدنى عش اللقلق في الجدران المنهارة . كانت تلك أغنية دوروثيا الأخيرة . لم يكن في الكوخ نافذة . كل ما كان فتحة في الجدار . وبزغت الشمس مثل كرة ذهب لامعة ، وتطلعت من تلك الفتحة . ويا للروعة التي غمرت بها ذلك المسكن الكئيب الحزين ! كانت عينا أنا تغشاهما طبقة رقيقة صقيلة ، وكان قلبها مهشما ، ولكن كذا يجب أن تكون الحال حتى لو لم تشرق الشمس عليها . لقد أمن لها عش اللقلق مأوى حتى مماتها . غنيت على قبرها ، وغنيت على قبر أبيها . أعرف أين قبر الأب وأعرف أيضا أين قبرها ، ولكن ما من أحد آخر يعرفه . حل الآن زمان جديد . كل شيء تبدل . الطريق العام اختفى وسط مزارع الحقول ، والطريق الجديد يمر الآن فوق قبور مغطاة . وقريبا سيأتي خط سكة حديد بقطاره ذي العربات ، ويندفع فوق قبور الذين نُسيت حتى أسماؤهم .الكل رحلوا . رحلوا " . قالت الريح : " هذه قصة فالديمار دا وبناته . فليحكها كل واحد منكم بأسلوب خير من أسلوبي إن استطاع " ، واندفعت مبتعدة واختفت .
* للكاتب الدنماركي هانز أندرسن
وسوم: العدد 1028