هيام
(أي تشابه أو تطابق بين أسماء شخصيات القصة وأسماء الأشخاص
في الواقع هو من قبيل الصدفة لا من قبيل الواقع)
لأول مرة يستحضر ذكرى زواجهما في ظل انشغاله بشخصيات قصصه التي تسكنه حد التلف والنسيان.. ولج باب السوق الكبير الذي يطل على حديقة الشلال التي تذكره بأجمل الأيام التي قضاها تحت أشجارها الوارفة ونسيمها العليل رفقة شيماء التي تعرف عليها في سيارة الأجرة أيام كان طالبا بكلية الآداب بمارتيل قبل أن يعقد قرانه عليها عندما صار موظفا... اختار بنفسه تشكيلة من الورود والزهور الطبيعية المختلفة ألوانها ثم أخذها من البائع العجوز الذي لفها بإتقان في ورق السلوفان وغادر السوق بخطى خفيفة والسعادة تغمره من كل الجهات بعد أن سلم للعجوز ثمنها وترك له الباقي قاصدا قيسارية الملاح لبيع الحلي والمجوهرات... خيره صاحب المحل وكان شابا أنيقا في كل شيء في لغته وهندامه وسلوكه بين مجموعة من السلاسل الذهبية الرقيقة فاختار منها واحدة مرصعة بالأحجار الكريمة وكانت الأجمل في كل شيء في الخفة ودقة الإتقان واللمعان... لم يفاوض الزوج البائع الشاب في الثمن وهكذا عد الأوراق النقدية الزرقاء بسخاء فوق زجاج الكنطوار وأخفى العلبة الصغيرة والوصل كساحر في جيب معطفه الرمادي ليكمل المشوار من جديد تحت ظلال ذكريات الماضي الجميل مع شيماء والذي شهدت عليه كل حدائق تطوان من الشلال حتى رياض العشاق ... في طريق عودته لشقته وهو يمر بشارع محمد الخامس حيث تكثر المقاهي والمحلات والمطاعم اشترى بعض الحلويات وما لذ من الفواكه والمشروبات وبيتزا بالجبن التي تحبها زوجته وبعد أن تأكد بأن كل شيء على ما يرام وبأنه لم ينس شيئا يليق بالمناسبة صعد سلم العمارة بخفة الأطفال وهو يترنم بمقطوعة عبدالحليم حافظ جانا الهوى جانا... فتح باب شقته بهدوء، وهو يرسم بمخيلته وقع المفاجأة على ملامح زوجته شيماء، لا شك سوف تطير من الفرح وهي تفتح ذراعيها على اتساعهما وتحتضنه بحب ورضى قائلة:" وأخيرا تذكرت يا عزيزي ذكرى زواجنا بعد عشرين سنة من النسيان ". وبمجرد أن فتح الباب وقبل أن ينادي عليها وجدها واقفة كتمثال الحرية تنتظره على أحر من الجمر والشرر يتطاير من عينيها... لم يتذكر بعدها غير الصراخ والجلبة وكلمات قالتهم بصوت عال ويداها ترتعش وصوت زجاج المزهرية وهو ينكسر بقوة على رأسه وعلى رخام مدخل الشقة "تخونني مع هيام يا عباس تخونني على آخر الأيام" وبعدها تحسس سخونة الدماء وهي تتدفق على وجهه وعنقه كالشلال ثم سقط مضرجا في دمائه بعد صرخة قوية صدرت منه ووصلت إلى شقق الجيران وفي رأسه تتكرر بقوة كلمة تخونني ..تخونني ياعباس ..هيام ياعباس" إلى أن غاب كليا عن الوعي ... بصعوبة فتح عينيه بعد غيبوبة دامت يومين ولولا الجيران الذين حملوه على وجه السرعة إلى المستشفى بعد سماع صرخته المدوية وانكسار الزجاج والجلبة التي أحدثتها الزوجة بتكسيرها لكل ما وقعت عليها يدها من تحف، وتدخل الأطباء في حينه، والعناية الربانية لكان عباس الآن في الثلاجة ينتظر ترخيص دفنه ..وعندما سألت الشرطة الزوجة عن الدافع وراء محاولة قتل زوجها بكل هذه القسوة والعنف صرحت وهي مازالت تغلي كالبركان بأنها اكتشفت خيانته لها مع معجبة بكتاباته اسمها هيام وأخرجت لهم من حقيبتها الحجة الدامغة وكانت عبارة عن ورقة بيضاء مكتوب عليها قصته التي عنونها بهيام، والمنشورة على العديد من المواقع الإلكترونية وكان العنوان على اسم بطلة القصة التي ليس بينها وبين الواقع إلا الصدفة إن هي وجدت، ومن بين من قرأ القصة صديقتها الوفية ليلى التي لم تكتف بنقل الخبر إليها بل عملت على طبع القصة كدليل على خيانة الزوج و صدق كلامها، وهكذا تركت الزوجة العمل باكرا وعفاريت الدنيا تتملكها، وذهبت لتنتظر عودة زوجها لتحفتل معه بمناسبة ذكرى زواجهما وتكمل الحفلة في ضيافة الشرطة التي أكدت لها أثناء التحقيق بأن حجتها واهية لأن هيام بطلة من خيال وليست حقيقة ولا صلة لها بالواقع والجريمة، وأنها لم تجدها معه لا في البيت ولا في غرفة فندق ولا في موقف شبهة، كما أن الورقة قصة وليست عقد زواج ولا هي رسالة غرامية... الزوجة وهي التي غادرت المدرسة مبكرا ولم تحصل منها على الشهادة الابتدائية بسبب التنورة القصيرة التي اشترتها لها أمها يوم العيد وضربها المعلم بسببها بعود السفرجل أمام التلاميذ لأنها تجاوزت حدود الحشمة .. واكتفت في حياتها بتسيير محلات أخيها لبيع الملابس والإكسسوارات ...تقول للشرطة محتجة أعرف أنها قصة لكن أنتم لا تعرفون بأن زوجي عباس قال لي ذات مرة ونحن على مائدة العشاء :"القصة يا شيماء فيها شيء من الواقع وشيء من الخيال" وبذلك فهيام هي الواقع والباقي خيال وزوجي كاتب وأنا اعرفه أكثر منكم فهو صادق في كل ما يقول وما يفعل ... فعم الصمت غرفة التحقيق ونظر الضباط بعضهم إلى بعض في استغراب وحيرة من أمرهم وكأنهم يقولون في سرهم ما العمل الآن؟ كيف نقنع هذه الزوجة الغيورة بأن هيام شخصية من خيال زوجها الكاتب وليست امرأة حقيقية من دم ولحم ؟ .. الزوج المسكين الملقى على سرير المستشفى وحيدا وآثار الدم ما زالت بادية على جبينه كلما فتح عينيه بصعوبة إلا ويجول ببصره في أرجاء الغرفة متوجسا خائفا من وجود زوجته وفي عقله يتكرر سؤال واحد لماذا حاولت قتلي بعد عشرين سنة من العشرة؟ !.. ليغيب من جديد عن الوجود تحت قوة الضربة والألم.
وسوم: العدد 1045