سرير من ورق....
داخل السيارة السوداء الفخمة؛ يُجْري "توفيق" مُكالَمة سريعة، ثمّ لا يلبث أن يأمُرَ السّائق بتغيير الوِجْهة...
في إحدى غُرف المستشفى الخاصّ؛ يرفع الغطاء الأبيض عنْ وجْهِ زوْجته... يتأمّلُها، العينان مُغْمضتان...يُخيَّلُ إليْه أنّها تبتسم...! يطولُ تأمّلُه، يتقاطر عرقُه وقد اختلط بدمعه، يستشعِرُ وخزا في صدره، ينحني؛ يُقبّلُ جبينها البارد قبلة الوداع الأخير...يُعيد الغطاء الأبيض كما كان...يُغادر الغرفة بعد أن تحوّلتْ أنْوارُها إلى هجْمةٍ مِنْ سواد؛ يُبَطِّنُ عيْنيْهِ ويُعَثِّرُ خطواته.. فقدَ توازُنَهُ قرْبَ المصعد، جرى مُرافقه مُحاولاً إسناده.. غير أنّهُ عاد فتماسك، وطلب منه تجهيز مراسيم الجنازة وإجراءات الدّفن.
الفراق صعْب....! كلمتان كافيتان.... تنْخُران الأعْماق، تحْفِرَان خنْدَقاً في الوجدان، يتهاوى الجِسر.... يتشبّثُ الحزين بخيْطٍ من خيوط العنكبوت والصرخة المكتومة يُردّدُ صداها عمْقُ الخندق: ما أوْجعَ الفراق...!
واقفٌ أمام قبْرها بعد ثلاثة أيامٍ مِنْ دفْنها، ينظر إلى التّراب... يغرق في ذكرياته... ينحني، يأخذ حفنة من التراب، يُقرِّبُها مِنْ أنْفِه، يشمُّها ويقول شيئاً لا يفهمه إلا هو...! يصحو فجأة على صوت درويش وهو يُردّد: " مِنَ التّراب... إلى التُّراب.....!"
كمْ هو كبيرٌ هذا التُّراب....! يشْعُرُ بقشْعَريرَة برْدٍ مُفاجئة؛ تخْترِقُ جسدَه منَ الرّأس إلى القدَميْن... يدَعُ التّراب ينْسابُ من بيْن فُرُوج أصابعِه، يتحامل على نفسه؛ يُغادر المكان والدرويش ماضٍ في مُغازلة التراب...
حين يُصَفِّقُ الرّبيع....
بقايا عطور....حقائب يدٍ صغيرة...دبابيس الشعر.... نظارات شمسية وأخرى للقراءة.... قلادة من العاج الصافي.... ساعة فضية جميلة... أقراطٌ بأشكالٍ هندسية دقيقة... دفتر ذكرياتٍ داخل علبة نُحاسية لامعة.... كتاب بدأتْهُ ولمْ تُكْمِلْه.... كلُّها أشياؤُها..... أشياء تمنح المكان روحاً تُحلِّقُ في الزوايا... الأشياءُ؛ تَبْكيها.... الأحلام؛ تَبْكيها.... هو؛ يَبْكيها كلما أبْحَر في أزمنة قديمة؛ ألْغَتْها أزمنة جديدة.... عجيبٌ هذا الكون...! أيّهُما؛ إليْهِ الملاذ..؟ السّماءُ أمِ الأرض...؟! الصّمتُ فلسفة الجواب....
عاش مع "بهيجة" أجمل السنوات... التقيا في أحد المستشفيات حين كان يخضع للعلاج الطويل بعد تعرّضه لِحادِثِ مُرورٍ خطير؛ نجا منه بأعجوبة... تولدُ علاقة كلها أرْيَحِية بين المريض ومُمَرِّضتِه؛ يُتوِّجُها بعْد خُرُوجه من المُستشفى؛ بطلب الزّواج مِن "بهيجة"، يتقدّم إلى أهلها.... تتفتّح الورود في مزهرية الزّمن الجميل.... تصفو المَرايا وقد تلألأتِ الوُجوهُ بطعْم الحياة الجديدة... يُسافران في موسِمِهِما الأوّل؛ ودفق المحبّة يملأ جِرار الكون من حواليْهما، يُؤلّفانِ موسيقى الاحلام ويُخلّدان سِحْر اللحظة؛ على أوراق الشجر، على تموّجات النّهر، يتراقص العُشْبُ تحت وَقْع أقْدامِهِما وهُما يسيران إلى ما لا نِهاية.... "بهيجة" من أسرة متوسطة الحال، تربّتْ وسط ثلاثة إخوةٍ ذُكور؛ يكبُرونها بسنوات... كانوا يزاولون ِمهَناً حُرّة؛ تُدِرُّ عليهمْ أرْباحاً مُعْتبَرة. أما هيَ فعشقت مهْنة التّمْريض واعتبرتها أنْبَلَ المِهن، فشقَّتْ درْبها بحماسٍ وكفاءةٍ؛ جعَلاها ذائِعة الصّيت في المصالح الطبية التي عملتْ بها.
لحْنُ الحدوات....
"سعيد"، "عبد السلام"، "عبد الحقّ"، شكّلوا ذلك الثلاثي المرح.... فوْرةُ الشباب، تصاعُدُ الحماس، جذوة الطموح، تُسَرْبِلُ حياة البيْت بحيوية دافقة... وتسيرُ خُيولُ الزّمن بحدوات تعزف على الأرض لحْنَها المُنْتظِم... يُقْبِلون على الحياة أوْ تُقْبِلُ الحياة عليْهم.. لا يهُمّ... النتيجة؛ إحساسٌ بِالسّلام.... يتزوجون واحدا بعد الآخر؛ يُغادِرون البيْت الكبير؛ وقد فضّل كل واحد منهم الطّراز الذي يناسبه في حياته الجديدة؛ مع الوَافِدَة الجديدة...
يدخل "سعيد" عالمَ أصْهارِه... بمُرور الوقت؛ يكْتشفُ المخبوءَ بالصّدفة. فقد سمع ذات مرّة ودون قصد؛ مُكالَمَة هاتفية بين الأخ الأكبر لزوجته "سُكيْنة" مع أحَدِهِمْ.... فهِمَ أنّ الصّهر "فيْصل"؛ يتساءلُ من خلال المكالمَة - وبإصْرارٍ كبير- عن سبب تأخر البضاعة. ترْتفعُ النّبْرة وتحْتدُّ وتتحول المكالمَة إلى تحذير أخير؛ يتلوه رَمْيُ الهاتف على الأريكة الرمادية. يتراجع "سعيد" إلى الوراء؛ مُحاوِلا المُغادَرة.... يرنّ الهاتف مرة أخرى، يتسمّر "سعيد" في مكانه.... المُكالمة هذه المَرّة؛ كلها ألغاز وأرْقام... يتوارى "سعيد" بهدوء مُفضّلاً عدم التّصنّت... فهو جاء في زيارة خاطفة لجلْبِ أغراضٍ خاصّة بزوْجته "سُكيْنة"؛ كانت قدْ نَسِيَتْها هناك؛ في بيْت العائلة منْذ أسْبوع.
"سعيد"؛ جالس في البهْو الكبير؛ يحْتسِي الشاي بقلقٍ؛ بعْد أنْ ألحّتْ عليْه سيّدة البيت "ابتسام" وهي تُسلّمُهُ الأغراض. ينْتظر انْتهاءَ "فيْصل" من المكالمة؛ ليُسلّم عليه قبل أنْ يُغادر. لحظاتٌ؛ ويُقْبِلُ "فيْصل" مُرَحِّباً مُهَلِّلاً مُعْتذراً... يتصافحان، وعند الباب؛ يدعوه لحضور مأدبة عشاء عائلي في آخر الأسبوع القادم؛ راجيا منه الموافقة.
كان العشاء.... وكان معه بِداية النّغص...! انقلب لحْنُ الحدوات في حياة "سعيد" إلى مخاض عسير؛ ارتجّتْ له حنايا تلك النفس الهادئة.... تقاذفتْهُ الظنون في مستودعٍ تحت الأرض لتسويق المخدرات داخل ألعابٍ طفولية...! تساءل بمرارة: " هل لدى "سُكينة" زوجتي؛ دراية بمُسْتنْقعاتِ أخيها "فيصل"....!" ها هو يعرض عليْهِ بعد تمهيد طويل؛ وبكل وقاحة؛ الانضمامَ إلى فريقه... ها هو يعِدُه برئاسة الفريق عمّا قريب.... وكأنه واثقٌ من أنّ "سعيد" سيُوافقُ لا محالة..!!
قصة زواجه من "سُكيْنة"؛ تعود إلى تجوّلها بين المحلات التجارية الخاصة ببَيْعِ حقائب اليد النسائية؛ دخلت إلى محلّه الذي كان من أفخم المحلات، وعندما لمستْ جودة المعروضات؛ أصبحتْ زبونة دائمة للمحلّ، بلْ وأكثر من ذلك؛ جلبتْ صديقاتها ومعارفها للاقتناء من هذا المكان... مع مرور الأيام؛ بدأ "سعيد" يُفكّر في الزواج منها بعد أن سأل عنها وارتاح لِما سمِع منْ طيب أخلاقها ونقاءِ سُمْعتِها... بسبب الإنجاب؛ توقّفتْ عن ممارسة وظيفتها في إحدى مؤسّسات الاتصال وكرّستْ وقتها لِابْنيْها التوأم ولزوْجِها... نعِمتِ الأسرة الصغيرة بسعادة حقيقية تحت سقفٍ من التّفاهم والاستقرار...
يُغادِرُ "سعيد" المستودع وقد شوّش العَرْضُ عقله وقلبه....اهتزّتْ ثقته في كل أفراد عائلة زوجته... يسير من شارع إلى شارع، يُبحْلِق في المارّة وكأنّه يرَاهُمْ لأوّل مرّة.... وكأنّه يبْحث عنْ شيء لا يفقهه.... يُخيّلُ إليْه أنّ الأقنِعة تزداد سُمْكاً... يتحامل على نفسه بعد أن أجهدتْه الشوارع، يدخل أحد المقاهي العتيقة، يجلس في زاوية بعيدا عن ضوضاء المُرْتادين، يتأمّلُ الوجوه... يُتابع الحركات... يلتقط الأصوات المتصاعدة بين كؤوس الشاي وفناجين القهوة، المقهى عالَمٌ آخر.... مع كل رشفة حكاية.... ومع كل حكاية؛ تمرّ اللحظات المسروقة من أزْمِنَة الأعمار... الوقت يذوب في جلسات مُتكرِّرة تستبيح الحديث عنْ كلِّ شيء.... تمْسح وقائع كلّ المواسم في تعليقات ساخنة أحياناً؛ وساخرة في أغلب الأحايين... يُخمّنُ "سعيد"... لوْ يتصلُ بأخيه "عبد السلام" ويُطْلِعُه على حقيقة هذا الصّهر الذي خدع الجميع ببراءة المظهر وكثرة أفعال الخير في عديد المناسبات.... يزور الأيتام، يزور المسنّين، يوزّعُ بعضا من أضاحي العيد على ثلّة من المعوزين؛ عملا بوصية والده المرحوم الحاج "علّال" الذي كان قد رسّخ هذا الفِعْل في الأسرة؛ منذ زمن طويل حين استجاب الله دُعاءَهُ؛ فرزقه بالذكور بعد سبْع بنات من الزوجة الأولى المتوفّاة... تُقام الأفراح في بيْت الحاج "علال" وهو يسمع زغاريد النّسوة وتِرْدادِهنّ: " صبِيّ...! صبِيّ...!"
في المساء يلتقي الأخوان.... يتحدّثان.... يتشاوران.... يتعجّبُ "عبدالسلام" منْ خُبْثِ هذا الصّهر... يسأل أخاهُ في حيرة: " كيْفَ وَثِق فيكَ هكذا؛ فجْأة؟! ولِمَ أطلَعَك على جرِيمتِه؟!" يزداد استياء "سعيد".... يصرخ في وجه أخيه "عبد السلام": " وكيف لي أن أعرف..؟!" صمْتٌ طويل.... ظنونٌ قاتلة.... تأفّف مُتلاحِق.. يتبادلان نظراتٍ فارغة من أيّ معنى... يطلب "عبد السلام" من أخيه "سعيد" أن يتجنّبَ لقاء "فيصل" على الأقلّ؛ هذا الأسبوع ريْثما يُسْعِفُهُما التّفكير؛ فيَهْتَدِيانِ إلى حَلّ.... يصِلانِ نهايةَ الشارع الطويل، يُودّعُ "عبد السلام" أخاهُ بعد أنْ أطْلَعَه على ضرورة سفره إلى إحدى المدن الكبرى من أجل جلب الموادّ التي يستعملها في مهنته؛ فالورْشةُ تكادُ تخْلو من أنْوَاعِ أصْبِغة النّسِيج ولا بدَّ من الإسراع من أجلِ تلبية طلبات السّوق....
في المدينة الكبيرة؛ يقصد "عبد السلام" محلات أصبغة النّسيج، يقتني المطلوب، يُنْهي إجراءات عملية الشّحْن التي ستنْطلقُ في الغد نحْوَ ورْشتِه.... يُفضّلُ أن يقضي بقية اليوم في المدينة؛ بعد أنِ اتّصل بأحد أصدقائه القُدامى.
يلتقيان في المقهى الكبير الكائن بالشارع الرئيسي... أحاديث عن الصّبا... حكايات عن أيام الدراسة، قصص أحلام الشباب، أسماء غيّبَها الموت، أسماء طوّح بها الزمان في أماكن غير معروفة، وأسماء أخرى؛ لا تزالُ حاضرة بِصِيتِها إمّا في ميادين العِلم؛ وإمّا في نشاطات الحياة المختلفة.... يقودُهُما الحديث إلى تذكُّرِ صديق الطفولة "مُعاذ".... يتساءل "عبد السلام" بلهفة؛ "هلْ مِنْ أخبارٍ عنه؟ " يهزُّ "مصطفى" رأسه وهو يرتشف ما تبقّى في الفنجان...
لِلحِكاية... سانحة...
يستمع "عبد السلام" إلى جليسه "مصطفى" وهو يروي باعتزاز؛ بعْضاً مما يعرفه عن "معاذ"... إنه رئيس ضُبّاطِ الأمن في هذه المدينة.... الوحيد من مجموع كل الأصدقاء؛ الذي أنْهى دراسته الجامعية بامتياز، ثم تحول إلى مدرسة الأمن؛ فكان التكوين المتين وكانت التربُّصات المكثفة؛ تبِعَها تقلّدُ المناصِب المُهمّة في السِّلك؛ وقد أبلى البلاء الحسن في مكافحة مُجْرِمِي المدينة ورَفْعِ الظلمِ عنْ مُسْتضْعَفيها.... فقهَرَ العِصابات وهَدَمَ أوْكارَها ولاحَقَ المُنْحَرِفين ولم يغفل عن أصْحاب السّوَابق المشْهورين في المدينة؛ كان يُدقّقُ في مِلفّاتهمْ ويبْعثُ سرّاً مَنْ يتفقّدُ أماكِنهمْ ويُراقبُ تحرّكاتِهمْ بمساعدة فريقه الخاصّ المُكوّن مِن أعْتى الرّجال. شعُرَتِ المدينة بالأمان، أصبح "مُعاذ" رأس حرْبَة في حناجِرِ المُعْتَدين....
فكّرَ "عبد السلام" أنْ يطرح قضية صِهْر أخيه في هذه الجلسة؛ على صديقه "مصطفى"؛ خمّن: بإمكان هذا الصديق أن يكون الخيْط الذي سيوصله إلى "مُعاذ"... قبل أن يستقرّ على رأي؛ انتفض الرجلان على صوت ارتطام قوي خارج المقهى.... سارعا إلى الخروج مع بقية المرتادين.... جثة فتاة ملقاة على الأرض. لم يهرب السائق، خرج من السيارة وظلّ يُبَحْلق في المرمية على الأرض؛ وهو يكرّر كلاما؛ فَهِمَ منْه المتجمْهرون أنّ الواقعة تتعلق بمسألة "شرَف".... اشتدّ فزعُهُمْ عندما أخْرجَ الرَّجُل سكّيناً من جيْب سترته وهمَّ بطعْن نفسه. جرى "مصطفى" نحوه؛ بِنِية نزْع السّكّين من بيْن يديْه، تبِعَه "عبد السّلام" مُحاوِلا المُساعدة؛ بحركة طائشة؛ غرزَ الرّجُلُ سِكّينَهُ في بَطنِ "عبْد السلام"....هلعٌ كبير... سيارات الشرطة، أصواتُ الإسْعاف تشقُّ المكان، "عبد السلام" ينزف داخل سيارة الإسعاف وبجانبه "مصطفى" في حالٍ من الهستيريا.... الرّجل المتهوّر يُغافِلُ الجَمِيع ويذبَحُ نفسه من الوريد إلى الوريد....
ثلاثة أيام بعد العملية الجراحية الحرِجَة؛ يستيْقِظ "عبْد السّلام".... تُهرْوِل الممرّضة لإبلاغ الأطبّاء.... يسمحون لزوجته برُؤيته.... بعد وقتٍ قصير؛ تخرج المرأة والدّهشة تكسو وَجْهَها... تتجه نحو "مصطفى" وتخبره عن رغبة زوجها في التّحدُّث إليْه. يدخلُ عليه، يُمْسِك بيده وهو يُردّد: "الحمد لله، الحمد لله، على سلامتك صديقي".. يتعجّب "مصطفى" من شدة إلحاح "عبد السلام" على ضرورة اللقاء بـ: "معاذ" في أقرب وقت. يعِدُهُ بتلبية طلبه وهو في قرارة نفسه؛ يسْتصْعبُ حُصولَ اللقاء في آنِهِ. غير أنَّ الحدَث كان قدْ هزّ المدينة بكاملها، وليس من طبيعة "مُعاذ" غلق القضايا قبل المُرَاجَعات المُتعدّدة والتّحْقيقات المُكثّفة والخرجات الميْدانية. فرصة حظّ؛ تعفي "مصطفى" من محاولة الاتّصال بـ: "مُعاذ".... فقد كان على وشك المغادرة؛ عندما لمحه بين اثنيْن من رجاله في الرواق الطويل؛ يسير نحو غرفة "عبد السلام".... جرى نحوه وهو لا يُصدّق....
استمع "مُعاذ" للحكاية بعْدَ أن طلب مِنْ مُرَافِقيْه الانْتظار في الرّوَاق، وطلب من "عبد السلام" التّكتُّم عمّا يعْرِف؛ ضماناً لِسِرّية المِلفّ، ووَعدهُ باتّخاذ الإجْراءات اللازِمة بعْد التنْسيق مع أمْنِ المِنطقة البعيدة بعْض الشَّيء عن المدينة الكبيرة حيْثُ عملُهُ الرّسْمي.
دفَقُ الرّوح على جناح الحُروف..
تجتمع العائلة في بيت "عبد السلام" للتهنئة؛ بعد شهر وبضعة أيام؛ قضاها الرجل في المستشفى. يُداعب "عبد الحقّ" أخاه وهو يُشير إليْه بكتابٍ في شكل مُجَلّدٍ بصُفرَة الذّهب؛ ثمّ يضعه بجانب السّرير وهو يُردّد: " أهديك هذا الكتاب وأنا على ثقة من أنّك لن تقرأه...! ! " يضحك الجميع، تتناسل التعليقات، يعتدل "عبد السلام" في جلسته، يبتسم، يمد يده إلى الكتاب وبنبْرة كلها عناد؛ يُردّد: " سترى... سأقرأ وسأدوّنُ لكَ مُلخّصاً عمّا قرَأت..."
كلّهُمْ يعْلمون تعلّقَ "عبد الحق" بعالم الكتب منذ صغره... وربّما لهذا السبب آثر تجارة الكتب؛ ففتح مكتبة كبيرة؛ حوتْ مُنوّعاتٍ من عدة معارِف وفنون، ثمّ جَهّزَ رُكناً منها لبيْع بعض المُسْتلزمات المدْرسية. لمَّا أنهى تعليمه الجامعي؛ انتظر كثيرا ليحصل على وظيفة، غير أنّ الانتظار لم يُسْعِفْهُ بشيء... طلبَ مساعدة صهره؛ زوج "بهيجة" فاقترح عليْه عالم التجارة وقدّم له قَرْضاً مُغْرِيا سيرُدّهُ مع ُمرورِ الايام؛ شاكِرا مُمْتنّا. عشق "عبد الحقّ" كتب الأدب وراح ينهل من عيون الشعر والنثر ما يروي شغفه... أحبّ المعلّقات وحرص على قراءة الشروحات، وعندما انتهى منها جميعاً، عكف على قراءة ما جاء بعدها؛ فإذا به يغرق في بساتين البلاغة العربية عبر العصور؛ يقطف منها ثِمارَ الذوْق الرّفيع ومباهج الألمعية الخالدة. أمسيات جميلة؛ تلك التي كان يقضيها في المكتبة؛ مع صديقه "نوري" وهُما يقرَآنِ ويتناقشان وقد يصطدمان في الحُكم على المقْرُوء فترْتفعُ أصواتُهما ولا ينتبهان إلى حالهما إلا على وقْعِ خطوات "ميمون" وصوتهِ وهو يُعلّق: " عجيب أمركما... تتعاندان من أجل كلمات.... أصحابُها استراحوا في قبورهِم وأنتما في مُلاحقة الأموات...!" يضع الشاي ثم ينصرف ولسان حاله يقول: " الجنون... فنون...!" يضحك الصديقان بملْءِ فِيهِمَا، يحتسيان الشاي، يتمازحان، يمدُّ "عبد الحق" يده إلى كتابٍ قريب، ينْظرُ إليْه والكلماتُ تتسابقُ مِنْ بيْن شفتيْه: " آه... مَنْ قال إنّنا نقرَأ للأمْوات فقط؟" يبْتسِمُ "نورِي" وهو يأخذ الكتابَ مِنْ صديقه؛ يُعلّق: "عزيزُنا "ميمون" لا يُدْرِك أنّ الكلمات هي التي لا تموت..!" يتصفّحُ الكتاب؛ وبالمصادفة يقرَأ شِعْراً بطلاقة متناهية؛ تعكسُ انسجامه التام مع ما يقرأ:
فطوفانُ نُوحٍ عند نوْحي كأدْمُعي * وإيقادُ نارِ الخليلِ كلوْعَتي
فلولا زفْرَتي أغْرقتْني مدامِعــي * وَلوْلَا دُمُوعي أحْرقتْني زفْرتي
يبتسم "عبد الحق" وهو يتأمّل وجه صاحبه؛ يُنْشد مِنْ محفوظاته القديمة:
أتتْني تُؤَنِّبُني بالبُكـــــا * فأهْلاً بها وبتأنيبِــــها
تقولُ وفي قولها حِشْمَــةٌ * أ تبْكي بعيْنٍ تراني بها
فقلتُ: إذا اسْتحْسَنَتْ غيْرَكم * أمرْتُ الدُّمُوعَ بِـتأديبِها
يُتابع "نوري" تقليب صفحات سلسلة المنوعات الشعرية والبهجة تغْمُره... يقرأ مرة أخرى ولكن بنغمة مختلفة:
ولا تشَكَّ إلى خلْقٍ فتُشْمِتَـه * شكوى الجريحِ إلى الغِرْبان والرّخمِ
تتجدّدُ الأمْسيات كلما سمَحتْ ظروف "نوري" برُؤية صديقه "عبْد الحقّ". هذا الأخير؛ يعلم أنّ "نوري" كان من أهمّ رجال الاستخبارات، وأنّه مكلّفٌ بمُلاحَقة بَائِعي المُخدّرات... السّرّ الذي احتفظ به "عبد الحقّ" منذ سنوات؛ وما يزال... كِتمانُ السرّ؛ أحدُ معايير الرُّجُولة في عُرْفِ الصّداقَة الحقّة...
سِباق السلاحف تحت ضوء النجوم...
الشاحنة المطلية بألوان زاهية تُغادر المستودع في الساعات الأولى من الليل.. يتلقّى "معاذ" مكالمة هاتفية موجزة من طرف "سعيد"... طريقان؛ لا ثالث لهما؛ ستسلك الشاحنة أحَدَهما لا محالة، في عَرْضِ ليْلٍ غامض؛ لا يُعْرفُ أوّله من آخره.
كان "سعيد" قدْ قبِلَ الاشتغال مع "فيْصل" تحْت ضغْطِ أخيه "عبد السلام" الذي جمعه بالضابط "مُعاذ" حين رتّب اللقاء في مقبرة البلْدة... وتمّتِ الموافقة على التّسلُّل إلى الدّاخل.. في ظرْف شهْريْن؛ تعلّم "سعيد" فنّ التّسويق المشبوه للألعاب الطفولية وأصبح الذّراع الأيمن لصهره "فيصل"... اِكتشف عالَماً آخر.. لُغةُ البَشرِ فيه: أمْوالٌ وَ...أمْوات..!
إشارة أخيرة ِمنْ "سعيد"؛ تُعْلِن اقتراب الشاحنة ذات الرسوم الجميلة مِنْ مُفْترق الطُّرُق.. اسْتِنْفارٌ أمْني مُكثّف على طولِ الطريقيْنِ. تقترب الشاحنة شيئا فشيئا... يخرج "مُعاذ" إلى وسط الطريق، بإشارة من يده؛ يأمر السائق بالتوقّف...يطلب الأوْراق الثبوتِية، يسْأل عن محْمول الشاحنة، يأتي الجواب بكل أرْيَحِية: "صناديقُ ألعابٍ للأطفال"... يتصفّحُ "مُعاذ" الوثائق، يتأمّلُ الباب الخلْفي للِشاحنة، يأمر السائق بفتْحه، ثمّ يُنادي عوْنَيْنِ لإخراج السّلْعة المُكدّسة. يفْتحان الصناديق المُزركشة بشتّى الألوان وتبدأ المُعايَنة....!
يختار "معاذ" بعض الألعاب: سلاحف بأزرار دقيقة؛ ذهبية اللون. ينظر إلى السائق مُسْتفْسِراً... يستأذنُ السائق ثمّ يرفع سلحفاة في الهواء ويُشغِّلُ أحد الأزرار.... يضعها على الأرض... تجري السلحفاة بأقدام ملوّنة.... يضحك الجميع.... يُجرّبُ الأعوان باقي السلاحف؛ ينطلق السّباق لينتهي عند قدَمَيْ "نوري"؛ المتمرْكِز مع فرقته في نهاية الطريق... وقدْ غطّى وجهه بينما عيناهُ الثاقبتان تُتابعان بقية الاسْتعراض. تُفْتح صناديق "الأرانب"، يتمُّ تشغيل الأزرار... تُضيءُ أعيُنُ الأرانب، وتبدأ في القفز دون مغادرة أماكنِها وكأنّها تُقدّمُ رقصات خاصّة. يسألُ "معاذ" ساخراً: "هل كل الصناديق بنفس السلعة؟" يجيبُ السائق ببراءة واضحة: "هناكَ دِبَبَة أيْضا؛ غيْر أنّها قليلة..!"
تُسْتخْرَجُ الدّببة... يتمّ تشغيلُ الأزرار البنفسجية، تدور الدّببة حول نفسها وهي تدكّ الأرض بأقدامها القطنية ثمّ تستخدم أطرافها الأمامية فتنْبعِثُ تصْفيقات متناغمة وكأنّ الدّببة في حفلٍ صاخب مع الأرانب...! ينتهي الحفل بتفكيك الألعاب في إحدى غُرَفِ الأمْن... يُغْمى على السائق وهو يرى تساقط حُبيْبات مُغلّفة فوق الطاولة المستطيلة....
في الوقت الذي كان "معاذ" ينتظر قدوم الشاحنة؛ أَمرَ فريقاً بمُراقبة بيْت "فيْصل" تحسُّباً لهُروبه. بكتْ "ابتسام" وهي تنْظر إلى الأصْفاد.... بِيدٍ مرتجفة وبنَفَسٍ مُتقطّع؛ أمسكت هاتفها.... حكتْ: " زوجي.. "فيصل"... أخوكِ... يا "سُكيْنة"...و انْقطعَتِ المُكالمة.
أمُوتُ.... لتتوبَ أنْت.... !
توَسّطتِ الطائرة عرْض السّماء... مِنْ مقْعَدهِ في الدّرجة الأولى، وعبْر النافذة الصّغيرة؛ يُتابِعُ "توفيق" تشكُّلاتِ سحابةٍ غاضبة...يُخيّلُ إليْه أنها تُلاحقه... أنها تتوَعّدُه....! يراها تتسع... تنكمش... تعلو.... تنزل... يَسيحُ اللوْنُ الرّمادي مِن حوْلِها... تغْطِسُ فيهِ؛ لتظهر بعد قليل على شكل كُرةٍ ضخْمة، قرْمُزِية اللوْن، تتأهّب للسقوط فوق رأسه.. يستشعر وخزا في صدره... يفتح محفظته الصغيرة؛ يُخْرجُ دوَاءهُ، يبْتلعُه. وهو يُعيدُ الدّواءَ إلى المحفظة؛ تلمس يَدُهُ مُذكِّراتِ زوْجته المرْحومة "بهيجة".... كان قد تعوّد على أخذها معه دون أنْ يُفكّر في الاطّلاع عليْها... اعتبرَها شيئاً مِنْ رَائحة المرْحومة، يَصْعُبُ التّفْريط فيها.
حتّى يتناسَى مَنْظرَ السّحابَة المُخيفة؛ ينْشغِلُ بِقراءة بعْض السّطور... يُقلّبُ الصّفحات دونَ ترْكيز وعندما تقع عيناهُ على الصّفحة ما قبْلَ الأخيرة؛ يتجمّد الدّمُ في عُروقه، يُصْعق وهو يَقْرأ: " أوْرَاقُ إدَانتِك... كلّها تحْتَ سرِيرِ راحتك..."
في يوم ما؛ وهي تتفقّدُ أدْراج مكتبه؛ عثرت "بهيجة" على أوراق كثيرة مُبَعْثَرة داخل الدُّرْج الأخير، نوَتْ ترْتيبَها وتنظيمها داخل حافظاتٍ بلاستيكية وجدتْها مع أغراض أخرى. وبدأتْ في عملية الفرْز بقراءة التّواريخ.... جرّها ذلك إلى قراءة ما بعد التّواريخ....تسارَعَتْ دقّاتُ قلبها، جفَّ ريقُها وهي تكتشف: الأوراق كلُّها تُثْبتُ انْتماء زوْجها "توفيق" إلى "مافيا" عالمية لإنْتاج المُخَدّرات....! ساعَتَها فقط؛ عاشتْ عُمْقَ الخيْبة بكلِّ تَمَثُّلاتِها.... مَرَّرَتْ أنامِلها المُرْتعشة على بطنِها وكأنّها تسْتسْمِحُ جنينَها الأوّل.....
قبل أن تنتحر؛ كانت قدْ جمعتْ كل الحافظات البلاستيكية وثبّتَتْها تحْت السّرير العريض الفاخر.. ولسان حالها يقول: " أحْميكَ... حتّى... وأنا ميّتة...."
وسوم: العدد 1052