سقف يأخذ الوجل
كانت الدورية من الطراز الأمريكي الحربي، ذات الأضواء الواسعة الكاشفة، تلاحقه. الجندي من على كوة السطح يطلق النار يحاول اصابته. خرقت صلية من الرصاص الزجاج والبدن، لكنها لم تصبه. واصل القيادة. توقّع أن تنضم دوريات أخرى، فلم يكن له بد من الانعطاف إلى الطريق الترابي، الفاصل بين حدود "المناطق"، والذي يمرّ عبر التلّة والحرش، ملتفا حول الشارع الرئيس. الظلام مطبق على الطريق المترب لولا مخروطي الضوء، والعتمة تلوح كأشباح في ظلال السرو والصنوبر. تأخرت الدورية عنه، كأنها تخشى من كمين.
لم يفعل شيئا، لكنه هارب. تشاجر مع صاحب المسلخ، وكل ما في الأمر أنه احتج. كان الخلاف على من يتحمل مسؤولية التقطيع الخاطئ (أو المتعمد)، للنعام والحبش.
تدخل ذو الجدائل واتهمه.
حاول أن ينفي مسؤوليته، لأن معظم عمله في التغليف والتخزين ونادرا جدا ما يذهب إلى ركن التقطيع. لمع في رأسه أكثر من احتمال، لكنه لم يقبل أن يحملها لغيره. أحسّ أن ثمة شيء في الأمر كلّه مفتعل. كانت لديهم كاميرات ولا يحتاجون لسؤاله. موقفه واضح: الاتقان في العمل مقابل الأجر، لكن ليس التدخل في العمال أنفسهم. هذا ما عمل عليه طوال شهور في العطل.
لم تسر الأمور كما يجب. عرفة الذي شغّله بنفسه، منذ البداية، كان يرى أن يأخذ فرصته في العلاقة مع صاحب المسلخ. إنه يراهن على لغته العبرية والمجاملات والتزلّف والتبادل الخفي. يحسب أن اليهودي يكترث لشخصه. كان لا بد من وضع الحدود. العلاقة اضطرارية وليست خيارا، وتحتاج إلى ضوابط. وهنا نشا الخلاف بينهما.
لو كان ممكناً، فالعمل لديهم مرفوض. يجب رفضهم ورفض اقتصادهم كلّه. لكن الناس لديها مسؤوليات وحاجات وربما طموحات، والأجرة المتدنية المحلية لا تكفي. وعندما يرى أحدهم كيف تتم الصفقات في السياسة، فتصبح شريحة من (المناضلين) أصحاب حسابات وشركات وعقارات، وكيف يفرض السماسرة المختلفون أنفسهم جانين الأموال على حساب الناس، وكيف يتلون التجار والموظفون...، يكفر بكل الادعاءات، ويجد نفسه مضطرا للعمل عندهم، والتعامل مباشرة مع المصدر.
المصانع المحلية بأكملها مزيفة، الالات والمعدات والطاقة والخامات والصيانة والمستلزمات والخبرات بل والسوق أيضاً. البنايات والمكاتب للغرباء والانتهازيين، والوظائف وهمية غير منتجة. لا صناعات ولا زراعات. أخبار مكررة ومسلسلات... ووكالات فكرية أو ثقافية أو اجتماعية، لا تختلف عن وكالات الكوكا كولا والجي أم سي. البقية، ادعاءات (وطنية)، بأجرة استغلالية متدنية جداً مع ذهاب الفارق إلى الجيوب.
حلوا مشكلة مئات الالاف من المنتفعين الذي تغلغلوا، على حساب ستة ملايين.
أحسّ أن سعيه الخلفي للتوصل إلى تفاهم بين العمال يبقيهم منسجمين ومرتاحين ومنتجين، قد بلغ..
قال له اليهودي، وهو يشير إلى مؤخر رأسه:
- الي عنين هون..
إمّا أن يعرف من أحد العمال أو (مراقِب) عربي. الأخير يفتح الاحتمال على مهمات اجتماعية لـ (المراقبين)، وليست سياسية أو امنية.
نظرات ذي الجدائل اختلفت، إنها متوجسة عدوانية مراقِبة. عندما يمر إلى جانبه دافعا العربة يشحذ السكين ويذبح بقسوة. ويناديه، ليكلّفه بالنفايات، مع أنها مهمة غيره. وقد يصرخ عليه دون سب ليتدخل عرفة و(يحل) المشكلة.
لم يكن هنالك أي بعد سياسي ولا حتى نقابي لانشاء ضغوط تحسّن ظروف العمل. لكن عرفة وقف ضدّه. إنّه من مدينته نفسها ويعمل إلى جانبه، في البرّادات. لم يستطع فهم دوافعه بالضبط. شخصيته غريبة: صغير الحجم قليل الانتاجية، يسعى للتميّز. قد يخطئ في عمله وغيره يتحمل عنه، لكنه يغطي على أخطاء غيره كذلك ويستغلها.
ثم اكتشف أن له علاقات مع النقابة المحلّية التي هي حركية ولا تستطيع فعل شيء بحكم السياسة والقوانين. أما الهستدروت فاللجوء إليها أسوا..
تحوّل العمال إلى مجموعة من الكائنات المتوجسة الحذرة التي تتنافس وتصعد على ظهور بعضها وتستغل نقاط الضعف. عرفة ماهر في هذه المعادلة.
أتى مرّة مقترحا ترتيبا يعمل بموجبه فقط على البرادات. أزعجه أولا أن يرتّب انه امتلك صلاحية، ثم صحيح أن (الترتيب) مريح له شخصياً، لكنه يعني فصل عامل لديه أسرة، فرفض.
دون أن يؤدي وظيفته جيداً في التحميل والتنزيل (ما يدفع غيره لفعل هذا)، بنى صيتاً عند العمال من النوع العجيب: بين التواطؤ والابتزاز والتنفّع. الجميع يكرهه والجميع يهابه والجميع مضطر للقبول به.
صاحب المسلخ انتبه له كذلك، كذلك ذو الجدائل.
جاء الأمن واحتجزه في غرفة جانبية. احتج وصرخ ودق الباب على أمل أن يخرجوه أو أن يتضامن معه أحد فيضطرون. بنو جلدته، على عادتهم، ما بين شامت وخائف وجاهل. لا مبرر للاحتجاز.
حاول ان يركّز في حادثة الحبش والنعام. كان التقطيع بعيدا عن المفاصل ونوعا اللحم متداخلين. ذو الجدائل بربر بشأن حرمة الرب القومي. صاحب المسلخ تحدث عن القانون. عرفة الذي ترك شاحنته دعا إلى "البشويش بشويش" ولعله يتدخل ليتهرب من العمل، هذا إذا لم تكن له هو علاقة به. لديهم كاميرات ويستطيعون تحديد المسؤول مباشرة.
ثم خطرت له فكرة، فلم يتردد وأخذ يكبّر.
فتحوا الباب بسرعة، وبدا عليهم الجنون. في طريقه للخارج، حيث يجهل ما ينتظره، رأى التوتر والتململ على وجوه العمال. الاضطرار سرعان ما يزول عند أول عودة للنفس أو زوال السبب. ولما رأى مصباحي الدورية الضيقتين، عرف ما ينتظره. إنها الشرطة. ارتد إلى الأصل ودفع أحد رجلي الأمن فأوقعه أرضاً وتملّص. ركض كيفما اتفق. ساعة كاملة وهو ينتقل من اتجاه شارع إلى آخر، ومن سور مصنع إلى مدخل سوق. ساعده الليل. ثم سرق سيارة وتمكن من تشغيلها. عندما اكتشفوا أمره، لم تكن الدورية ذات الأعين الضيقة هي التي تلاحقه، بل الواسعة.
عند نهاية التلة واول حدود "المناطق" الفاصلة، لاحظ وجود حاجز مرتجل وسيارت شرطة محلية. نسقوا فيما بينهم، وأطبقوا عليه. لم يعد استعمال السيّارة ممكنا. فأوقفها وترجل.
ثم حدث شيء غريب، كأن كل ما حدث له إنما رتّب ليصل إلى هذه الغاية بالذات:
الدورية الحديثة من خلفه متوقفة لا تتقدّم ولا تطلق الرصاص، وسيّارة للشرطة المحلية موجودة أمامه تنتظر، فتحت له الباب الخلفي ليدخل بنفسه. قد يضطرون فيسلمونه للسجن، وقد يتفقون فيسجنونه. الأمر لا علاقة له هو به.
كان ثمة أضواء برتقالية متجمّدة تحذف الجانبين، الأراضي المكشوفة، عن بصره، وكان الزمن صامتا لا يتنفّس، أمّا من الأعلى فسقف لا نهائي يأخذ الوجل.
يستطيع كلاهما أن يفعل ما يشاء به، لكنه يرفضهما معا. الأمر لم يعد حادثة أو جناية أو صوابا وخطأ. ودون أن يفكر في احتمال أن يطلق عليه أحدهما النار أو يعتقله رغماً عنه، مشى بهدوء وتجاوز باب السيارة المفتوح له، عائدا إلى بيته. سيكون مفيدا له أن يمشي على قدميه..
كانت الدورية من الطراز الأمريكي الحربي، ذات الأضواء الواسعة الكاشفة، تلاحقه. الجندي من على كوة السطح يطلق النار يحاول اصابته. خرقت صلية من الرصاص الزجاج والبدن، لكنها لم تصبه. واصل القيادة. توقّع أن تنضم دوريات أخرى، فلم يكن له بدّ من الانعطاف إلى الطريق الترابي، الفاصل بين حدود "المناطق"، والذي يمرّ عبر التلّة والحرش، ملتفا حول الشارع الرئيس. الظلام مطبق على الطريق المترب لولا مخروطي الضوء، والعتمة تلوح كأشباح في ظلال السرو والصنوبر. تأخرت الدورية عنه، كأنها تخشى من كمين.
لم يفعل شيئا، لكنه هارب. تشاجر مع صاحب المسلخ، وكل ما في الأمر أنه احتج. كان الخلاف على من يتحمل مسؤولية التقطيع الخاطئ (أو المتعمد)، للنعام والحبش.
تدخل ذو الجدائل واتهمه.
حاول أن ينفي مسؤوليته، لأن معظم عمله في التغليف والتخزين ونادرا جدا ما يذهب إلى ركن التقطيع. لمع في رأسه أكثر من احتمال، لكنه لم يقبل أن يحمّلها لغيره. أحسّ أن ثمة شيء في الأمر كلّه هو مفتعل. كانت لديهم كاميرات ولا يحتاجون لسؤاله. موقفه واضح: الاتقان في العمل مقابل الأجر، لكن ليس التدخل في العمال أنفسهم. هذا ما عمل عليه طوال شهور في العطل.
لم تسر الأمور كما يجب. عرفة الذي شغّله بنفسه، منذ البداية، كان يرى أن يأخذ فرصته في العلاقة مع صاحب المسلخ. إنه يراهن على لغته العبرية والمجاملات والتزلّف والتبادل الخفي. يحسب أن اليهودي يكترث لشخصه. كان لا بد من وضع الحدود. العلاقة اضطرارية وليست خيارا، وتحتاج إلى ضوابط. وهنا نشا الخلاف بينهما.
لو كان ممكناً، فالعمل لديهم مرفوض. يجب رفضهم ورفض اقتصادهم كلّه. لكن الناس لديها مسؤوليات وحاجات وربما طموحات، والأجرة المتدنية المحلية لا تكفي. وعندما يرى أحدهم كيف تتم الصفقات في السياسة، فتصبح شريحة من (المناضلين) أصحاب حسابات وشركات وعقارات، وكيف يفرض السماسرة المختلفون أنفسهم جانين الأموال على حساب الناس، وكيف يتلوّن التجار والموظفون...، يكفر بكل الادعاءات، ويجد نفسه مضطرا للعمل عندهم، والتعامل مباشرة مع المصدر.
المصانع المحلية بأكملها مزيفة، الالات والمعدات والطاقة والخامات والصيانة والمستلزمات والخبرات بل والسوق أيضاً. البنايات والمكاتب للغرباء والانتهازيين، والوظائف وهمية غير منتجة. لا صناعات ولا زراعات. أخبار مكررة ومسلسلات... ووكالات فكرية أو ثقافية أو اجتماعية، لا تختلف عن وكالات الكوكا كولا والجي أم سي. البقية، ادعاءات (وطنية)، بأجرة استغلالية متدنية جداً مع ذهاب الفارق إلى الجيوب.
حلوا مشكلة مئات الالاف من المنتفعين الذي تغلغلوا، على حساب ملايين تجاوزت العشرة.
أحسّ أن سعيه الخلفي للتوصل إلى تفاهم بين العمال يبقيهم منسجمين ومرتاحين ومنتجين، قد بلغ..
قال له اليهودي، وهو يشير إلى مؤخر رأسه:
- الي عنين هون..
إمّا أن يعرف من أحد العمال أو (مراقِب) عربي. الأخير يفتح الاحتمال على مهمات اجتماعية لـ (المراقبين)، وليست سياسية أو امنية.
نظرات ذي الجدائل اختلفت، إنها متوجسة عدوانية مراقِبة. عندما يمر إلى جانبه دافعا العربة يشحذ السكين ويذبح بقسوة. ويناديه، ليكلّفه بالنفايات، مع أنها مهمة غيره. وقد يصرخ عليه دون سب ليتدخل عرفة و(يحل) المشكلة.
لم يكن هنالك أي بعد سياسي ولا حتى نقابي لانشاء ضغوط تحسّن ظروف العمل. لكن عرفة وقف ضدّه. إنّه من مدينته نفسها ويعمل إلى جانبه، في البرّادات. لم يستطع فهم دوافعه بالضبط. شخصيته غريبة: صغير الحجم قليل الانتاجية، يسعى للتميّز. قد يخطئ في عمله وغيره يتحمل عنه، لكنه يغطي على أخطاء غيره كذلك ويستغلها.
ثم اكتشف أن له علاقات مع النقابة المحلّية التي هي حركية ولا تستطيع فعل شيء بحكم السياسة والقوانين. أما الهستدروت فاللجوء إليها أسوا..
تحوّل العمال إلى مجموعة من الكائنات المتوجسة الحذرة التي تتنافس وتصعد على ظهور بعضها وتستغل نقاط الضعف. عرفة ماهر في هذه المعادلة.
أتى مرّة مقترحا ترتيبا يعمل بموجبه فقط على البرادات. أزعجه أولا أن يرتّب انه امتلك صلاحية، ثم صحيح أن (الترتيب) مريح له شخصياً، لكنه يعني فصل عامل لديه أسرة، فرفض.
دون أن يؤدي وظيفته جيداً في التحميل والتنزيل (ما يدفع غيره لفعل هذا)، بنى صيتاً عند العمال من النوع العجيب: بين التواطؤ والابتزاز والتنفّع. الجميع يكرهه والجميع يهابه والجميع مضطر للقبول به.
صاحب المسلخ انتبه له كذلك، كذلك ذو الجدائل.
جاء الأمن واحتجزه في غرفة جانبية. احتج وصرخ ودق الباب على أمل أن يخرجوه أو أن يتضامن معه أحد فيضطرون. بنو جلدته، على عادتهم، ما بين شامت وخائف وجاهل. لا مبرر للاحتجاز.
حاول ان يركّز في حادثة الحبش والنعام. كان التقطيع بعيدا عن المفاصل ونوعا اللحم متداخلين. ذو الجدائل بربر بشأن حرمة الرب القومي. صاحب المسلخ تحدث عن القانون. عرفة الذي ترك شاحنته دعا إلى "البشويش بشويش" ولعله يتدخل ليتهرب من العمل، هذا إذا لم تكن له هو علاقة به. لديهم كاميرات ويستطيعون تحديد المسؤول مباشرة.
ثم خطرت له فكرة، فلم يتردد وأخذ يكبّر.
فتحوا الباب بسرعة، وبدا عليهم الجنون. في طريقه للخارج، حيث يجهل ما ينتظره، رأى التوتر والتململ على وجوه العمال. الاضطرار سرعان ما يزول عند أول عودة للنفس أو زوال السبب. ولما رأى مصباحي الدورية الضيقتين، عرف ما ينتظره. إنها الشرطة. ارتد إلى الأصل ودفع أحد رجلي الأمن فأوقعه أرضاً وتملّص. ركض كيفما اتفق. ساعة كاملة وهو ينتقل من اتجاه شارع إلى آخر، ومن سور مصنع إلى مدخل سوق. ساعده الليل. ثم سرق سيارة وتمكن من تشغيلها. عندما اكتشفوا أمره، لم تكن الدورية ذات الأعين الضيقة هي التي تلاحقه، بل الواسعة.
عند نهاية التلة واول حدود "المناطق" الفاصلة، لاحظ وجود حاجز مرتجل وسيارت شرطة محلية. نسقوا فيما بينهم، وأطبقوا عليه. لم يعد استعمال السيّارة ممكنا. فأوقفها وترجل.
ثم حدث شيء غريب، كأن كل ما حدث له إنما رتّب ليصل إلى هذه الغاية بالذات:
الدورية الحديثة من خلفه متوقفة لا تتقدّم ولا تطلق الرصاص، وسيّارة للشرطة المحلية موجودة أمامه تنتظر، فتحت له الباب الخلفي ليدخل بنفسه. قد يضطرون فيسلمونه للسجن، وقد يتفقون فيسجنونه. الأمر لا علاقة له هو به.
كان ثمة أضواء برتقالية متجمّدة تحذف الجانبين، الأراضي المكشوفة، عن بصره، وكان الزمن صامتا لا يتنفّس، أمّا من الأعلى فسقف لا نهائي يأخذ الوجل.
يستطيع كلاهما أن يفعل ما يشاء به، لكنه يرفضهما معا. الأمر لم يعد حادثة أو جناية أو صوابا وخطأ. ودون أن يفكر في احتمال أن يطلق عليه أحدهما النار أو يعتقله رغماً عنه، مشى بهدوء وتجاوز باب السيارة المفتوح له، عائدا إلى بيته. سيكون مفيدا له أن يمشي على قدميه..
وسوم: العدد 1084